سودانايل:
2025-04-14@22:33:46 GMT

الصوم والفيسيولوجيا .. المشقة تجلب التيسير

تاريخ النشر: 19th, March 2025 GMT

الصادق عبدالله أبوعيّاشة
الدمام ، رمضان 1446، مارس 2025
مقدمة
هذا موضوع للنظر في ممارسة الصوم بمنظار علم الفيسيولوجيا. وعلم الفيسولوجيا أحد العلوم المتقدمة التي في تخصصات علم الأحياء، يتم تدريسها في الجامعة وفي سنوات متقدمة. وعلى رأس ذلك تُدرس في علم الطب والعلوم المجاورة، بما يشمل تخصصات علم الاحياء في كليات العلوم، والعلوم البيطرية والزراعة.

في عهد هذا الكاتب بدأ علم الأحياء لديه ضمن حصة الطبيعة في السنة الثالثة إبتدائي. الحقيقة كان ذلك عندما بدأ دراسة العلوم (الطبيعة) والتي انقسمت في وقت مبكر إلى فيزياء وكيمياء وأحياء.

الفيسولوجيا
مفردة فيسيولوجيا، مفردة معرّبة، تعني علم وظائف الأعضاء الحية، إن كان ذاك في النبات، أو الحيوان أو الإنسان. مثلاً لعضو الكبد وظيفة، وولعضو الكلية وظيفة. وللعين وظيفة،. ولكل عضو من أعضاء الجسم وظيفة. وأن مجمل وظائف أعضاء الجسم تعطي مجمل الحالة الفيسولوجية للجسم. وأقول أن النوم أحد حالات الجسم الفيسيولوجية. وأن المرض، والجوع، والشبع. وغير ذلك مما يعترى الجسم، بما في ذلك الوظائف التناسلية.
المعلوم لدى دارسي جسم الإنسان، أن الجسم تتحكم فيه عدد ثمانية أزواج من الغدد الصماء، أي الغدد التي ليست لها قنوات، وتفرز منتجاتها (الهرمونات) مباشرة في الدم. تتوزع على أماكن مختلفة من الجسم. وتشمل الغدة الصنوبرية والغدة النخامية والبنكرياس والمبيضين والخصيتين والغدة الدرقية والغدد المجاورة للدرقية، وغدة تحت المهاد (أسفل المخ) والغدة الكظرية. تعرف منتجات هذه الغدد بالهرمونات. والهرمون مادة كيمائية عضوية (أي غير معدنية)، ينتج بكميات قليلة. مع قلة كميته له أثر بالغ في الجسم. قدر ضيئل منه يفعل بالجسم الأفاعيل. ولتقريب النظر، ليتخيل القارئ كم كمية السم الذي تدفعه شوكة العقرب في الجسم، وما هي النتيجة. كذلك الهرمون على قلته له تأثير في الجسم واسع وخطير.
تؤثر الهرمونات التي تفرز في الدم في مزاج الإنسان قوته، وقدرته على التحمل، وسلامة تصرفاته، ومنها هرمون الخوف، هرمون الشبع (؟)، الهرمونات الجنسية في الذكور والإناث. من يقرأ قصة الكاتب المصري يوسف إدريس سيستمتع بقصته المسماة أرض النفاق، حيث نسج من مفهوم الهرمونات قوام روايته الممتعة.
في الجانب الآخر هناك أيضاً عدد من الغدد ذات القنوات التي تفرز منتجاتها، في غير الدم. مثل الغدة الدمعية، الغدة اللعابية، الغدد العَرقية، الغدد الدهنية، وغيرها.

خلفية إعداد هذا الموضوع
تم تحرير هذا الموضوع على خلفية تزامن رمضانٍ سابق، مع أشهر الصيف الحار في السودان. وقد تعرض الكثير من الصائمين للإجهاد، بما تطلب حمل بعضهم على الأقل للمستشفيات. فأفتى أهل الفتيا (علماء الفقه) بجواز إفطار الذين يتعرضون للإجهاد المفضي للعنت. هذا على القاعدة الفقهية الشهيرة (المشقة تجلب التيسير). وقاعدة (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين). وليت علماء وأطباء الفيسيولوجيا كتبوا شارحين ماذا يحدث، وكيف تتم المعالجة، ومن يحق له أن يفطر ومن لا يحق له. أرجو أن يتعمق علماء الفيسولوجيا في الفقه، حتى ينتجوا فقهاً داعماً للعبادة. أكثر من ذلك كم يحتاج أهل الفتيا لدراسة كورسات من المعلوم الطبعية، وعلى رأسها الفيسولوجيا التى تعمّق فهم المفتي في معرفة خصائص أحوال الناس موضوع الفتاوي. وكورسات أخرى في علم النفس والاجتماع، من شأنها أن تدعم جهود الفقهاء.
الصوم في البلدان الحارة الجافة وغير الجافة كثيراً ما يتعرض فيه الصائم للإجهاد الحراري والجفاف، إلى درجة العنت وربما الموت. والمعلوم أن بعض الناس اقل تحملاً للإجهاد من بعض.
وقد استدعى الكاتب خلفيته في علم الاحياء، حتى تخرجه من الجامعة، والتي تلقى دروساً في علم الفيسيولوجيا تمكنه من فهم الموضوع بشكل جيد. يساعده في الكتابة تأهله لنيل شهادة القيد الصحفي. ثم معرفة الكاتب لآيات وأحكام الصوم، التي تؤهله لفهم وممارسة الصوم، واتخاذ قراره، وربما يسهم في نصح آخرين بشأن الصوم.

آيات الصوم، من شهد منكم الشهر
قد بدأ آيات الصوم بالأمر بالصوم (من شهد منكم الشهر فليصمه)، ثم مباشرة استثنت (من كان مريضاً أو على سفر) فعدة من أيام أخر. وتأكيدا لذلك ورد في النص القرآني أن الله سبحانه أبان (إنً الله يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، سبحانك اللهم ولك الحمد. ثم أضافت الآيات على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين.
وقد فُسرت أن الذين يطيقونه هم من لا تسعفهم حالتهم الصحية أن يصوموا رمضان. وأن الذين يطيقونه، تعني أن الذين يجدون المشقة في حالة صومهم. أي أنّ من يشق عليه الصوم، عليه أن يفطر ويفدي صيامه بإطعام مسكين. والمعنيون هنا (الذين يطيقونه) هم أصحاب الأمراض المزمنة والشيخوخة والهزال. يصيب الإجهاد الصائمين من هذه الفئات تحت إصرارهم على الصوم في ظروف هشاشة صحية. عليهم أن يفطروا. بل أكثر من ذلك ي,ضاف لهم الذين يجدون مشقة في أداء أعمالهم تحت الشمس، أو المناجم أو الافران، أو مشغلي الآلات الثقيلة والشاحنات، ورعاة الماشية تحت وهج الشمس، وغيرهم، حتى العاملين في الحقل الطبي أنفسهم.

الشعائر الدينية والفيسيولوجيا
بالتأمل في مسألة الفيسيولوجيا والصوم، بدا للكاتب أن معظم الشعائر الدينية تتعلق وتتقيد بالفيسيولوجيا. الفيسيولوجيا، كما أشير سابقاً تعني وظائف الأعضاء. بمعنى أن كل عضوء في الجسم له عمل محدد في الظروف العادية. يستشعر الكاتب، أن الفقهاء عندما يذكرون أن هذه العبادة أو تلك تجب على (المسلم العاقل البالغ)، أن ذلك يعني أن العبادة تجب على الشخص الذي له حالة فيسيولوجية سليمة ومكتملة. وأنه (بالغ) بما يعني أن لديه غدد تناسلية مكتملة. والمعلوم أن الغدد الذكرية لدى الرجال والأنثوية لدى النساء لا تكتمل وتفزر هرموناتها إلا عند البلوغ.
أشير إلى أن فترة المراهقة التي تسبق البلوغ ما هي إلا فترة مبكرة يبدأ فيها تاثير الهرمونات، فتتأثر الأجساد الفتية ويتشكل سلوك جديد فيه قدر من الإرتباك، من الغضب أوالخجل أوالنرفزة والتمرد على توجيهات الكبار. وتحتاج هذه الفترة لكياسة الآباء و الامهات، بل والمجتمع.
الفقهاء، بحسب مفهوم البلوغ الفيسيولوجي، إن شاءوا ذكروا أن العبادة تجب على المسلم الذي تتوفر لديه الغدد الصماء المعلومة والتي تشمل الخصيتين لدى الذكور أو المبايض لدى الإناث. والذي يتمتع بكتلة جسم تمكنه من الصوم دون رهق.
لكنّ الكاتب يستطيع أن يسترسل بأن عبادة الصوم، محورها الرئيس هو فيسيولوجيا الجسم ، بما فيها حالة البلوغ والعقل وعمليات حيوية كثيرة ومعقدة. والصوم يتجاز مسألة الهرمونات إلى تنظيم دخول المواد المغذية من طعام وماء وأملاح وغيرها إلى الجسم.
فالصوم يعني وقف تزويد الجسم بالمغذيات لفترة محددة، تمثل فترة النهار، والتي في كل الحالات لا تتجاوز عشرين ساعة حتى في مناطق النهار الطويل من العالم. وفي هذه الفترة تظل أجهزة الجسم تعمل دون ان تتعطل. فإذا تعرض الجسم للإنهاك بسبب الصوم في الظروف الاستثنائية، يكون البديل أن يفطر الصائم، ويعوض حسب البدائل المتاحة، المذكورة عاليه.
وبحسب آيات الصوم، فصوم رمضان شعيرة واجبة "من شهد منكم الشهر فليصمه"؟ باستثناءات مباشرة (ومن كان منكم مريضا أو على سفر) ليعوض عن أيام سفره أو مرضه في وقت لاحق. كذلك الذين يطيقونه، (يصعب عليهم الصوم) يمكنهم أن يقدموا فدية صيامهم طعاما (مغذيات فيسيولوجية لآخرين محتاجين لدعم غذائي)
ولما كان الله الخالق البارئ جل شأنه يريد بالناس القيام بعبادتهم والخضوع له لتحقيق التقوى، قد نبه تعالى في ذات آيات الصوم في القرآن أنه تعالى يريد بالناس اليسر ولا يريد بهم العسر. ولا يكلف الله نفسأث إلا وسعها. ومن ثم لا يكلف الإنسان الإنسان نفسه فوق طاقتها. وقد أوضحت الآيات البديل فدية طعام مسكين. وليلاحظ القارئ أن البديل الغذائي هو دعم لشخص آخر يجد عنتاً من نقص الغذاء. ويذكر أن جزء الآية، الذي يلي فدية طعام مسكين (فمن تطوع خيراً فهو خيرٌ له)، يعني أن يزيد في الإطعام.
قد إنبرى الفقهاء ، كالعادة في تفصيل لوائح فقهية في كيفية صيام الشهر بدءا من إبداء النية (الهدف التعبدي) التي بدونها لا يتحقق مضمون الصوم. ثم ما يلى ذلك من إمساك عن المفطرات أظهرها "الطعام والشراب" ومفطرات أخرى حسية ومعنوية (نفسية) ذات اثر فسيوالوجي، خلال النهار. ثم الإفطار مع أول دخول الليل إلى طلوع الفجر التالي.
ذات الفقهاء، يضعون أسساً للفتيا، مثل قولهم: النصوص محدودة والحوادث غير محدودة. فالنصوص التي وردت بشأن التوجيه ب الصوم محدودة. والحادثات غير المحدودة تشمل أحوال كل من يزاول عبادة الصوم بحالته الجسدية المعتبرة خلال الشهر في جغرافية الأرض ومناخها وتغير مجيء الشهر خلال المواسم المختلفة. لذلك تجدهم يفصلون في مسائل الصوم ويصنفون مصنفات لا تحصى لما يحدث من حادثات في الصوم. وقد وضعوا من القواعد الفهية الحاكمة لفتياهم. ومنها الشقة توجب التيسير.

غايات الدين
يلاحظ أن التوجيه الديني الأول بلا منازع، هو شحذ الإيمان بالله وإلتزام الأعمال الصالحة، فإن الله لا يحب الفساد. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، كانت لهم جنّات الفردوس نُزُلاً. وفقهاء الأصول (الكليات) قد أبانوا أنّ للدين مقاصد في (الإصلاح) عليا، أوردوها خمسة، تشمل: (1) ، حفظ الدين (الإيمان، والقيم الإيمانية والقانون والعرف السائد لدى المؤمنين وصالح العمل). (2) حفظ النفس، بما يشمل الجنين وأمه، وبما يشمل المحتضر، الذي يمكن أن يحي ويعود، عابداً لله (3) حفظ العقل، الدال على الغيب و الشهادة (4) حفظ النسل، الذي يعمل لاستدامة الحياة (5) وحفظ المال الذي به قوام الحياة وتسخير الناس بعضهم بعضاً، وتسيير الحياة (راجع البروفسور أحمد عبدالعزيز، فقه الطبابة).
ومن ثم، بذات مفهوم المقاصد العليا، نستطيع أن نستبصر أن حالة الفسيولوجيا السوية هي الحالة المقصودة في (حفظ النفس)، وهي الحالة المقصودة في (حفظ العقل)، وهي الحالة المقصودة في حفظ النوع البشري (حفظ النسل). بل إنّ بقية المقاصد والتي تشمل حفظ الدين وحفظ المال هي شاملة نحو مقصدي حفظ النفس والعقل والنسل.

الصوم، جهاد للنفس دون العنت
الصوم بحسب بيان هذه الابعاد الفيسولوجية، يمكن النظر له بأنه عبادة مجالها التحكم في فسيولوجيا الجسم، بما لا يتجاوز إلى العنت، والذي يمكن أن يشمل فيما يشمل: فقدان الوعي والإدراك والقدرة على الحياة الطبيعية.
أي لابد من النظر للصوم فيسيولوجياً، بأنه حالة واجبة تستهدف رفع كفاءة الجسم بواسطة عملية التأقلم adaptation أو التقسية hardening بالأمتناع عن قصد عن الأكل والشرب لوقت معلوم. وعمليات اتأقلم والتقسية (أن يصير الجسم قاسياً) معمول بها في عمليات التدريب الرياضي والعسكري، ورواد الفضاء، بل والحجاج. كما يعمل به في العمليات العلاجية المتقدمة لبعض الأمراض، لخفض وزن الجسم الزائد عبر ما يعرف بالريجيم. وتخليص الجسم من سموم تتراكم. لكن الصوم للشخص المسلم، قبل فوائده المادية، علمها أو لم يعلمها الصائم، بأنه يعني الإمتثال لله بعبادته عبادة مستحقة، هي الصوم المشروع. ويمكن النظر للصوم بأنه خروج ولمدة شهر عن حالة الاسترخاء the Comfort zone ، إلى حالة انتباه vigilant
وأن العبادات بما فيها من شعائر (لها برتوكولات وشعارات ظاهرة). إلا أن تلك البروتوكولات الظاهر لوحدها لا تؤهل المتعبد إلى مراد الله. إذ يحتاج المتعبد أن يكون صادقاً مخلصاً sincere . وقد تعددت الآيات، مثل : آية البر، ليس البر بأن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب .. إلى نهاية الآية 177 من سورة البقرة ، أي ليس هو شكليات الصلاة. وفي الأضحية والهدي في الحج: لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى. وفي سورة الإسراء: ربكم أعلم بما في نفوسكم، إن تكونوا صالحين، إنه كان للاوابين غفورا.
كذلك الصوم ليس هو الإمساك عن المفطرات، لكنه امتثال بالتقوى. وصوم رمضان هو حزمة من الإجراءات التعبدية، بما يشمل تلاوة القرآن، وقيام الليل، والتصدق، وإلتزام السلوك الحسن طيلة الشهر. وبحسب مراد الله ( يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، فالصوم لا يفضى من حالة صحة إلى حالة علة. وينبغي أن لا يتجاوز حالة الإجهاد فيه إلى إزهاق النفس أو حتى أن تمرض مرضاً يفضى (يؤدي) للمشقة. لذلك جاءت الآيات واضحة لاستثناء ذوي الحالات الفيسيولوجية الخاصة: من كان مريضاً (حالة فسيولوجية) أو على سفر (حالة تنقل فيزيائي، تصحبها حالة من الإعياء وجهد يفضي إلى عدم قدرة على استدامة حيوية الجسد المقيم، وهي حالة يصعب على الجسم تحملها). فإذا كانت حالة السفر، مهما تكون ظروفها ووسيلتها، قد أدرجها الكريم، الذي يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر، فكيف بأحوال المشقة في الأعمال وما أكثرها.
من القواعد التي قررها القرآن الكريم قاعدة: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها. معلوم أن يمارس الصوم بدءاً بواسطة الجسد الحي بكل تفاعلاته الحيوية. ولا شك الصوم مجهد للجسد، جهدا ينبغي ألا يدخله فوق سعته إلى دائرة العسر. ودائرة العسر يمكن تصورها أنها أعلاها الموت (ذهاب الحياة) وأدناها الإصابة بالإجهاد المفضي للعنت.. وفي تفصيلاتهم أبان الفقهاء أن الصوم يجب على المسلم العاقل البالغ الصحيح المقيم وعليه، لا يجب على الطفل ولا على المريض ولا على المسافر ولا على الذي يلقى من صيامه مشقة مفضية للإجهاد.
فدية إطعام مسكين لمن يشق عليه الصوم
ورد ضمن متن آيات الصوم (وعلى الذي يطيقونه فدية طعام مسكين). وقد فُسّرت أن يطيقون بأنهم يواجهون مشقة، وأن الطاقة تعني المشقة. وقد وردت في شروحات فقه الصوم أن فئة الذين يطيقونه تشمل: أصحاب المرض المزمن، والشيخوخة، وحالات الحمل والرضاعة. بحساب المعايير الفيسيولوجية للصوم، هناك حالات الهزال، وحالات الفتيان والفتيات الذين على عتبة البلوغ. ودرجت أعراف المجتمعات والنظرة الاجتماعية السالبة للمفطر، أن يصوموا. مما يتسبب في رهق. خاصة في البلدان الحارة، كالحال في السودان. أشير إلى أنه ورد في فقه الإمام أبوحنيفة أن الشيخ الهرم لا صوم عليه، فهو كالطفل تماماً، وكذلك آخرين من أحوال الحاجات الخاصة، غير مكلفين بالصوم. وهنا أيضاً تظل فرضية الصوم محكوم بالحالة الفيسيولوجية فرضية صحيحة. مع ملاحظة أن بديل (الفدية) هو لدعم حاجة فيسيولوجية (غذائية) لأصحاب حاجة للدعم.

الصوم للبالغ الصحيح السليم
بهذا يتعلق الصوم بالحالة الفيسيولوجية للجسد المكتمل (البالغ)، وأهمها إكتمال الغدد الصم الثمانية، والتي تشمل الغدد التناسلية. ثم إكتمال بنية الجسد، إلى درجة الاقتراب من الوزن والحجم المثاليين وخلو الجسم من المرض، حتى الحالات الطارئة مثل ما يعتري المرأة من حالات فيسيولوجية معلومة. أو ما يعتري الجسد من أمراض فيسيولوجية تستعصى على العلاج. وتشمل المعلوم من الأمراض اليوم مثل مرض السكري والأنيمياء والسرطان وغيرها وغيرها. والأمراض المعدية على كثرتها، الطارئ منها والمزمن.

فقه الحالات الخاصة
المعلوم أن لوائح الفقه ونصوصه قد أوضحت أن المريض مرضاً طارئاً أو المسافر، والسفر عادة حالة طارئة، يستثنى منه المشتغلون بالسفر كمهنة. وهؤلاء المسافرين دوماً تنطبق عليه رخصة الإفطار في الصوم. فالمسافر يجوز له أن يفطر ثم يصوم ما أفطر في وقت لاحق.
وبخصوص حالة المريض، على سبيل المثال، قد أجمل الإمام الشافعي في كتابه الأم بقوله: والصوم قد يزيد عامة العلل. فإن زاد مرض المريض زيادة بينة أفطر. وأما ما كان من ذلك محتملا فلا يفطر صاحب. الإمام الشافعي، رحمه الله إمام ذكي. وهو مشهود له بتطوير الفقه بصورة مرنة، وقد أرسى رحمه الله قواعد العامة في الفقه.

هل يُستفاد من الطب في الفقه؟
بحساب ما وصل إليه الطب بالتشخيص الدقيق للمريض، ولغير المريض، يستطيع أن يمثل أمام الطبيب، ويقرأ أمامه، وزنه، وطوله ومعدل كريات دمه، وحالته التغذوية، وتوزازن هرموناته وحالته الصحية خلوها أو عدم خلوها من الأمراض المعدية والأمراض الفيسيولوجية. ويمكن للطبيب الفقيه بحسب البيانات المقروءة أن يوصيه بالصوم أو بالإفطار، بل يمكن أن يقرر له عدم الصوم. طبعاً هذا أوضح ما يكون في بعض الحالات الظاهرة. لكن تظل هناك حالات دقيقة.
هذا بمعنى أن الفتوى بإفطار المريض أو صومه لن تقف عند نصوص الإمام الذكي، محمد بن إدريس الشافعي. لكنها تقترب من الطبيب الفقيه. فمنتجات وبروتوكولات الطب الحديث، تستطيع أن تزود الصائم وغير الصائم بأدوات قياس دقيقة من شأنها أن تحول القاعدة التي أرساها الإمام الشافعي إلى بروتوكول وقواعد بيانات واسعة لحالات عديدة. ومن اليسر الذي أبداه التشريع في الصوم أنه حتى حالة السفر التي يصاب فيها الجسد بالإنهاك يتاح له فيها الإفطار، على سبيل الرخصة المتاحة للإفطار اثناء السفر. إلا أن يرى الشخص أن الصوم لا يسبب له الإنهاك. ومن الإنهاك الصداع والقيء. بالمقابل أن كثير من حالات المرض هي أدعى لكثير من حالات السفر.

هل كان الصوم متدرجاً ؟
يشير الموروث من فقه الصوم، أن الصوم قد فرض في السنة الثانية للهجرة، أي بعد البعثة أربعة عشر سنة. وأن اليهود في المدينة، لما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة كانوا يصومون، وأن رسول الله صلى الله عليه صام بصومهم، بما روي قوله صلى الله عليه وسلم: بخصوص صوم يوم عاشوراء أننا أحق بموسى منهم. حتى نزلت الآيات الموجهة للصوم، فصار للمسلمين خصوصية صومهم في شهر رمضان، وتطوعهم في غير رمضان. ولذلك يرى بعض الفقهاء أن صوم يوم عاشوراء كان ممارساً قبل فرض الصوم. وبفرض الصوم وفق آي القرآن يكون ذلك قد تجاوزه الزمن.
المعلوم أن الشعائر المختلفة نزلت فيها آيات بيّنات وتوجيهات من الرسول صلى الله عليه وسلم تنظمها. فالصلاة جاء التوجيه فيها بعد حادثة الإسراء في مكة، في السنة الحادية عشر للبعثة النبوية. وأن الصوم نزلت آياته في المدينة في السنة الثانية بعد الهجرة، كذلك حال تغيير القبلة بعد الهجرة في السنة الثانية للهجرة. وأحكام أخرى جاءت بالتدريج، حتى استقرت. وكان من أواخر ما فرض الحج في السنة التاسعة بعد الهجرة. والقصة مشهورة ضمن تفسير سورة براءة.
تشير بعض الشواهد بأن الصوم قد بدأ توجيهاً تخييراً، ذلك بحسب الإشارة: (أن تصوموا خيراً لكم). بمعنى أن نزلت الآيات: من شهد منكم الشهر فليصمه، ثم جاء الاستثناء: على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين. ثم تلتها: وأن تصوموا خيراً. فتم تقييد الإطلاق، بأن الأمر بالصوم لكافة الناس، باستثناء المريض والمسافر حكماً باقياً.
الملاحظ أن كثيراً من الناس يتجاوزون سبيل التيسير إلى سبيل التعسير، إلى درجة أن يصاب الصائم بالإنهاك. معلوم ذلك ومشاهد لدى أصحاب الأمراض المزمنة. والله لا يظلم الناس شيئاً، لكن أنفسهم يظلمون. والناس يرجعون للأطباء للنصح. كم يحتاج الأطباء للتوسع في فقه الصوم، بل جدير أن يقيم الاطباء حلقات ومؤتمرات يرفعون فيه شأن الصوم، ويقيمون بحوثاً في ذلك.
المعلوم أيضاً، أن آفة العبادة الرياء (ماذا يقول الناس علينا). وقد أبان الخالق البارئ تعالى بأنه بهم رؤوف رحيم، وأنه رحيم ودود، سبحانه ما قدروه حق قدره. وقد نبه تعالى (ما ظنكم برب العالمين. وابان بأن يقصد الهداية يهديه. فالناس، يتعنتون للإستمساك ب الصوم رغم المشقة المفضية للمرض. خاصة النساء.

الصوم والإجهاد الحراري
كما ذكر أعلاه، أن شهر الصوم، يتزامن أحياناً مع مواسم شديدة الحرارة، بما يسبب المشقة لبعض الناس حسب حالتهم الصحية وأجهادهم. ليت بحثاً أجرى في أسباب الدخول للمستشفيات لثلاث أشهر يتوسطها شهر الصوم للنظر في طبيعة الحالات التي دخلت بسبب الإستمساك بالصوم وهي مجهدة فيسيولوجيا. والإجهاد الذي أريد ذكره خاصة في ظرفنا في السودان، منه الإجهاد الحراري، لما نحن فيه من إرتفاع درجة الحرارة.
يحدث الإجهاد إلى درجة أن ينبري المفتي العام أن يعمم أن على الناس أن يفطروا، ثم يقضوا في وقت لاحق. وسبب الإجهاد الحراري هو عدم قدرة الجسم للتخلص من الحرارة الداخلية المتولدة بواسطة العمليات الحيوية. ما يصحب ذلك من جفاف للجسم بسبب فقدان كمية المياه من الجسم بواسطة التعرق. فيدخل الجسم في حالة إغماء عندما يتعرض لحرارة خارجية تتجاوز الأربعين درجة مئوية.
وذلك أقرب ما يصيب الصائم لامتناعه عن تناول الماء بسبب الصوم.
وحالة الإجهاد الحراي قد تصيب العاملين تحت الشمس أو في الافران أو سائقي المركبات والآليات وغيرهم .
علاج حالة الإجهاد الحراري، يتطلب إرواء الجسم، بالتدرج ، بحيث يسحب المُجهد فورا إلى مكان درجة الحرارة فيه تقل عن الثلاثين درجة مئوية ويغطى جسمه بالمناشف المبللة بماء في درجة حرارة الغرفة. أو تعريضه لتيار هواء بارد (في حدود العشرين درجة مئوية). يلاحظ أن التبريد الزائد قد يأتي بنتائج سالبة. ثم أن يتناول الماء (بدرجة حرارة في حدود العشرين درجة مئوية أو أدنى قليلا) على جرعات قليلة، مثل شرب الطائر، و الأفضل عن طريق الحقن الوريد بالتنقيط.
والذى يتعرض للإجهاد الحراري تحت تاثير الشمس، قد تدخله في تشنجات وفقدان وعي تعرف بضربة الشمس. وضربة الشمس عادة ما تصيب العاملين مباشرة تحت الشمس ولساعات عديدة أو المشي أوالبقاء تحت الشمس دون غطاء. حتى الوقوف طويلاً تحت الشمس في إنتظار المواصلات قد يصيب الشخص بضربة الشمس أو الإنهاك الحراري. وضربة الشمس قد تتطلب نقل الشخص للحوادث للتدخل العلاجي المتقدم، الذي يشمل الحقن بمهدىء وحقن الجسم بمحلول تروية، وتعريض الجسم للتبريد بطريقة طبية.

الصوم والإجهاد الغذائي:
وفي حالة الصوم، ييب الإجهاد الغذائي، الإجسام المجهدة غذائياً، حالة الجوع الطويل، في حالات المجاعات أو المرض المزمن الذي ينخفض فيه مؤشر كتلة الجسم (تحسب كتلة الجسم بالوزن بالكيلوجرامات على مربع الطول بالمتر). وانخفاض كتلة الجسم بسبب عدم وجود مخزون كافي من السكر والنشاء والشحوم والبروتين (جلد على عظم)، وهذا ما يعرف بالهزال.
يكون الشخص الهزيل أكثر عرضة لتدهور الصحة والدخول في غيبوبة. كذلك يكون أكثر عرضة للإصابة بالأمراض المعدية والمفضية للمزيد من الضعف والهزال. حتى مجرد الزكام. وتفيد ذلك نتائج جائحة الكورونا، التي أزهقت أرواح الكثير من النحاف المنهكين. ومثل حالة الهزال الشديد أحرى أن لا يمارس الصوم. فحفظ الحياة أولى.
الإجهاد المائي Dehydration ويتمثل في جفاف الجسم، ومؤشره أن يفقد الجلد مرونته، حاله شده، فلا يرجع طبيعياً. والذي سببه عدم تناول قدر كافي من الماء. كذلك لفقدان الماء أسباب أخرى تشمل الإصابة بالاسهالات الحادة. وفي مثل هذه الحالات يسعف الجسم بمحلول تروية كشراب أو عبر الوريد، وهو محلول من سكر الجلكوز والملح بنسب معلومة. ويلاحظ أنّ من أفضل الوجبات التي تعيد للصائم تروية جسمه، شوربة أو بليلة مملحة، وكوب عصير منخفض تركيز السكر، وكوب ماء زلال.

حالة خاصة أحوج للرعاية
لكن يُرجي الإنتباه إلى فئة يصيبها الإجهاد والإعياء أكثر من غيرها، وتصوم بتأثير الكبار أو بتاثير الأقران. صبيان وصبيات، ذوو أعمار في منتصف العقد الثاني أو نحوه تزاول الصوم مع أجساد منهكة. وليس معروفون أهم بالغون أم مراهقون. فالذي يلاحظ أن كثيراً وكثيراً جدا من أفراد هذه الفئة العمرية يعانون من نحافة وهزال مفرط. فما أشق الصوم عليهم في الجو الحار. وقد أفاد أحد الأصدقاء استاذ جامعي، أنه كان في صباه نحيفاً. يذكر كم كان ينهكه الصوم. فهذه الفئة طبياً أحوج للرعاية. وليمعن النظر الآباء والأمهات كم من هؤلاء الصغار أضطر أن يقطع صيامه بسبب الإنهاك.
وليت بحثاً أجري لفحص الصوم لدى هذه الفئة من الصائمين. وثمة فئة أخرى هي النساء كبيرات السن واللائي كثيرا ما يعانين نوبات السكري وهشاشة العظام والهزال. فهؤلاء أيضاً كثيرا ما يضطر ذووهن لأخذهن إلى دور الشفاء.
أما الحالات الفردية من الجنسين في جميع الأعمار فحدث ولا حرج، إصرار على الصوم مع وجود العذر البين.

الخلاصة
خلاصة الأمر أن المطلوب من الصوم تحقيق التقوى بالاستجابة لأمر الله، دون إزهاق النفس، ودون إجهادها، مع توفر البديل تأجيلاً للصوم أو تبديلاً له بصدقة معلومة. ومحور الصوم الواجب هو الإستجابة (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإاليك المصير). ويرد البارئ جل وعلا: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها). وفي آية في سورة الإسراء: (ربكم أعلم بما في نفوسكم، إن تكونوا صالحين، فإنه كان للتوابين غفوراً).
وأن شدة الحرص على الصوم مهما كانت حالة الجسد، كمثل حال الكثيرين المجهدين المغالين في صيامهم. فالتعنت دون الاستجابة للآيات أمر ليس التقوى في شيء. وذلك نوع من الغلو والرهبانية التي لم يكتبها الله على الناس المتعبدي.
وكل صائم عليه أن يراعى حالته الصحية، بتقدير حالته حق قدرها، حتى لا يدخل في دائرة الإجهاد المفضي للمرض.. وذلكم يحتاج إلى تدابير وتوعية كثيفة، وقبلها التوعية بأن الله قد أبان سبل التيسير ولا يؤاخذ عليها أحد. وعلى مؤسسات البحث أن تعمد لمتابعة فسيولوجيا الصوم.
ولقد أوصى الكاتب أن يتفقه الأطباء بحسب أنهم مرجع للناس في شأن الصوم. وأن يتعرض الفقهاء لكورسات في الفيسيولوجيا والعلوم الطبيعية والإنسانية المجاورة، بغرض أن يحسنوا من منتجاتهم الفقهية ومن وعظهم وتوجيههم للناس.
اللهم سألك أجر هذا العرض، فقد يُحي نفساً، أو يرفع عنتاً، أو يحسن نوع الفتيا والاستشارة الطبية تجاه الصائمين. وأسألك اللهم رزقاً وفيراً حلالاً مباركاً. وعيشاً رغيداً، وأسألك حسن خاتمة ألقاك بها ضاحكاً مستبشراً ووالديّ وأهلي وذريتي، إنك سميع مجيب.

sadigabdala@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الإجهاد الحراری صلى الله علیه درجة مئویة تحت الشمس الصوم فی فی الجسم فی السنة بما یشمل إلى درجة على الذی أن الصوم لا یکلف أن یفطر بما فی فی وقت فی علم

إقرأ أيضاً:

من«الشعانين»إلى «القيامة»... قصة أسبوع يعيشه الأقباط حدادًا على آلام المسيح

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

يستعد الأقباط الأرثوذكس لبدء أقدس وأكثر الأيام الروحانية في الفكر الكنسي، حيث يبدأون أيام البصخة المقدسة أو "أسبوع الآلام"، وهو الأسبوع الثامن والأخير من الصوم الكبير، ويبدأ الأسبوع بأحد الشعانين "السعف" وينتهي باحتفالات عيد القيامة أو عيد الفصح المسيحي.

تحظى هذه الأيام بمكانة خاصة في قلوب مسيحيي مصر والعالم، لكونها تحمل في طياتها الفصل الأخير من قصة فداء البشرية من الخطية الأولى في المعتقد المسيحي، وتنفرد الكنيسة القبطية في هذه الأيام المقدسة بطقوس استثنائية تعبّر عن الحزن والتأمل العميق في آلام السيد المسيح.

تتحول كل كنائس مصر خلال هذه الأيام إلى أماكن للصلاة والتأمل، حيث تُقام الصلوات اليومية المعروفة بـ"البصخة المقدسة" وسط ألحان حزينة وستائر سوداء تتزين بها الكنيسة حدادًا روحيًا على آلام السيد المسيح. وفي ظل تلك الأجواء، تأخذكم "الـبوابة نيوز" في رحلة روحية مسلطين الضوء على معالم تلك الأيام.

من البداية 


بدأ الصوم الكبير من العصور الأولى للمسيحية، ومرّ بتطورات كثيرة عبر تاريخ الكنيسة، في البداية بعض المسيحيين كانوا يصومون يوم أو يومين قبل عيد القيامة، لكن مع مرور الوقت بالتحديد في مجمع نيقية سنة 325م، تم الاتفاق فيما بين الكنائس على تثبيت الصوم الأربعيني قبل عيد القيامة اقتداءً بصوم السيد المسيح نفسه حينما صام 40 يومًا و40 ليلة في البرية قبل بداية خدمته مثلما ذكر في إنجيل متى 4:2.

وقال الباحث في التاريخ الكنسي “كيرلس كمال” خلال حديثه لـ"البوابة نيوز": تُعد آلام وقيامة السيد المسيح من الأحداث المهمة التي اهتمت بها الكنيسة في قرونها الأولى حيث كانت الكنيسة الأولي تحتفل بأيام الفصح المسيحي منفصلاً عن الصوم الكبير، وكان البعض يصوم الجمعة الكبير وسبت الفرح فقط وهناك من كان يصوم أربعين ساعة المدة التي قضاها المخلص في القبر، ولكن بدأت كنيسة أورشليم تصوم وتحتفل أسبوعاً كاملاً من ليلة الإثنين حتي الاحتفال الفصحي بليلة القيامة المجيدة وبعد مجمع نيقية المنعقد سنة ٣٢٥ م أصدر الإمبراطور قسطنطين أمراً بجعل أسبوع الآلام إجازة رسمية للعاملين بالدولة ومن هنا بدأت كل الكنائس تحتفل بهذا الأسبوع العظيم.

وذلك ما أكده أيضاً الباحث مينا سليمان خلال حديثه لـ"البوابة نيوز": أن أسبوع الآلام تاريخيًا حينما كان يُصام فقط يوم الجمعة العظيمة تذكارًا لصلب المسيح ومع الوقت تمت إضافة اليوم التالي وهو السبت والصوم في هذين اليومين كان كنوع من الاستعداد لتذكار فصح "قيامة" المسيح -كان هناك البعض الذين يصومون ثلاثة أيام-، ثم تطور الأمر بعد ذلك في القرن الثالث الميلادي أو قبل ذلك بقليل ليصبح الصوم ستة أيام قبل عيد القيامة. 

وتابع، كان صوم الأسبوع العظيم منفصلًا عن الصوم المقدس؛ فقد كانت الكنائس تصوم الصوم المقدس المعروف بالصوم الأربعيني بعد عيد الثيئوفانيا المعروف بعيد الغطاس الذي اعتمد فيه المسيح على يد يوحنا المعمدان وبعد ذلك تم ضم صوم الأسبوع المقدس المعروف باسم أسبوع الآلام إلى الصوم الأربعيني وكانت المحاولات الأولى في حبرية البابا ديمتريوس الكرام البابا الثاني عشر في تعداد باباوات الإسكندرية وأصبح الصوم الأربعيني يحوي صوم الأسبوع المقدس حيث وقتها لم يكن الصوم الأربعيني ينته بجمعة ختام الصوم كما في أيامنا هذه ولكن كان ينتهي بالجمعة العظيمة وظل هكذا حتى أصبح صوم الأسبوع المقدس بعد نهاية الصوم المقدس الأربعيني المعروف حاليًا بالصوم الكبير.

وتطور الصوم الكبير في الكنيسة القبطية بعدها ليأخذ شكله الحالي المكون من 55 يوما (7 أيام استعداد + 40 يوم صوم السيد المسيح + أسبوع الآلام)، بينما في الكنائس الأرثوذكسية البيزنطية، كاليونانية والروسية، يمتد الصوم الكبير إلى 48 يومًا تقريبًا، ويبدأ يوم الاثنين الذي يلي أحد مرفع اللحم، ويُعرف بـ"الاثنين النظيف"، لا يُحتسب أسبوع الآلام ضمن الأربعين يومًا، بل يُفصل عنه طقسيًا، على عكس الكنيسة القبطية.

في الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية، يبدأ الصوم الكبير يوم الأربعاء الرمادي، يمتد حتى السبت المقدس قبل عيد القيامة، أي نحو 46 يومًا، لكن يُستثنى منها أيام الآحاد من الصوم، باعتبارها أيام احتفال بالقيامة، فيتبقى فعليًا 40 يومًا من الصوم، بينما غالبية الكنائس البروتستانتية لا تفرض صيامًا إلزاميًا، لكنها تحتفل بزمن الصوم الكبير كموسم للتأمل والتوبة، ويمتد بنفس المدة المعتمدة في الكنيسة الكاثوليكية، مع مرونة في الصوم بحسب اختيار الفرد أو الطائفة.

طقوس أسبوع الآلام

تنفرد الكنيسة القبطية خلال هذه الأيام المقدسة بطقوس استثنائية تعبّر من خلالها عن أحزانها وتأملها العميق في آلام السيد المسيح وتُمارس الكنيسة خلال هذه الفترة مجموعة فريدة من الطقوس التي تجمع بين الرمزية العميقة والدقة الطقسية، تهدف من خلالها إلى مرافقة السيد المسيح روحيًا في رحلة الآلام، ساعةً بساعة ويومًا بيوم، حتى القيامة المجيدة.

وتسرد كُتب "طقوس الليتورجية" في الكنيسة القبطية كل الطقوس الخاصة بهذه الأيام نذكر منها كتاب اللآلئ النفيسة في شرح طقوس الكنيسة لـ"القمص يوحنا سلامة"، وبالنسبة للطقوس الكنسية فهى كالآتي:

تبدأ صلوات البصخة المقدسة في أسبوع الآلام بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية مساء أحد الشعانين "أحد السعف"، تغطيَ المنجليتين -حاملات الكتب المقدسة- القبطية والعربية بالستور السوداء. يغلق باب الهيكل وتدلى عليه الستائر السوداء، وتغطي أعمدة الكنيسة أيضا بالستائر السوداء، ويوضع في وسط الكنيسة أيقونة المسيح بإكليل الشوك أو مصلوب ويوضع أمامها 3 شمعات إشارة إلي قراءات البصخة الثلاث (النبوات "العهد القديم"، المزامير، البشارات الأربعة "العهد الجديد).

يحتسب اليوم في طقس الكنيسة من الغروب إلي غروب اليوم التالي، تتكون صلوات البصخة المقدسة من 10 ساعات، وينقسم اليوم إلي خمس ساعات نهارية وخمس ساعات لليلة، ويستمر هكذا إلي يوم الجمعة العظيمة ويضاف علي هذه الصلوات صلاة الساعة الثانية عشر.

 

الأديرة القبطية

 

كانت الكنيسة قديماً تصلي كل صلاة في وقتها ثم يرتاح الشعب بعدها إلي وقت الساعة التالية ، ومازالت الأديرة القبطية تتبع هذا النظام إلي وقتنا هذا، أما الكنائس الأرثوذكسية حالياً تجمع الصلوات النهارية معا والمسائية معا، وتقام الصلوات في هذه الأيام خارج خورس الشمامسة والهيكل وذلك لأن السيد المسيح تألم وصلب علي جبل الجلجثة خارج أورشليم.

ويقرأ البشارات الأربعة علي مدار هذه الأيام، يقرأ إنجيل متي بأكمله يوم الثلاثاء، وإنجيل مرقس يوم الأربعاء، وإنجيل لوقا يوم الخميس، وأما إنجيل يوحنا قبل تسبحة نصف الليل يوم أحد القيامة المجيدة

وفي التقليد الكنسي من لليلة الأربعاء إلي آخر يوم السبت "لليلة العيد" لا يقبل الكهنة والشعب بعضهم بعضاً وذلك، استنكار لقبلة يهوذا الخائن للسيد المسيح مقابل ثلاثين من الفضة.

لا تصلي الكنيسة بالأجبية "كتاب السواعي" في أيام البصخة لأنها مليئة بالمزامير التي تحوي نبوءات عن المسيح من ميلاده حتي صعوده؛ فاختارت الكنيسة القبطية منها ما يناسب صلوات البصخة المقدسة، حتي تتفرغ تماماً الكنيسة في صلواتها لآلام المسيح.

- لا تقام جنازات علي الموتي خلال هذا الأسبوع والسبب لأن الكنيسة خصصت هذا الأسبوع للصلاة والصوم والتسبيح وإحياء للآلام المسيح علي مدار هذه الأيام المقدسة، وتصلي الكنيسة عقب قداس أحد الشعانين صلاة الجناز العام لجميع الموتي في هذا الأسبوع فقط ولذلك يجب حضور الشعب كله لهذه الصلاة، وإذا توفي أحد فإنه يعد تمت الصلاة عليه، لكن لا يوجد مانع بدخول المتوفي إلي الكنيسة ليحضر صلاة ساعة من البصخة ثم ينصرفون به.
 

 البصخة المقدسة


ومن جانبه يقول الباحث مينا سليمان: الأسبوع المقدس عُرف تاريخيًا بأسماء عدة منها البصخة المقدسة أو الأسبوع الكبير أو أسبوع القيامة أو الأسبوع العظيم وغيرها من الأسماء وصولًا إلى أسبوع الآلام الأسبوع المقدس عُرف باسم أسبوع البصخة أو الفصح وذلك لأن كلمة بصخة وفصح لهما معنى واحد وهو "عبور أو اجتياز" وهو العمل الذي قام به المسيح حينما مات وقام حيث اجتاز وعبر الموت لصالح البشر وجعل كل مؤمن به وبعمله يقبل الحياة الأبدية حيث يرجع للصورة الإلهية التي وضعها الله في الإنسان مرة أخرى؛ هذه الصورة التي فُقدت بسبب سقوط أبوينا.

وتابع، خلال الأسبوع المقدس المعروف بأسبوع الآلام تضع الكنيسة في أذهان أبنائها صورة المسيح الذي تألم لأجلهم "مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ ٱلنَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ ٱلْحَزَنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ.لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ ٱللهِ وَمَذْلُولًا. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لِأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لِأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلَامِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ" (إش53: 3- 7). 

 

قيامة لعازر



وأكمل، حيث تضع الكنيسة القبطية القراءات من الكتاب المقدس بعهديه؛ فمن العهد القديم حيث النبوات عن تحقيق خلاص المسيح وكذلك قراءة الإنجيل حيث نجد ترتيب أحداث الآلام لحظة بلحظة مع المسيح المخلص ووضعت الكنيسة تذكار الآلام بداية من يوم السبت المعروف بسبت لعازر وذلك خلال القرنين السادس والسابع حيث اعتبرت الكنيسة أن الآلام قد بدأت بقيامة لعازر من الأموات حيث قرر اليهود قتل المسيح بسبب إيمان كثير من اليهود بالمسيح بسبب تلك المعجزة العظيمة مرورًا بأحد السعف الذي يعتبر تذكار دخول المسيح إلى أورشليم كملك والكنيسة تعتبره عيدًا ويبدأ الأسبوع من ليلة الإثنين لحظة بلحظة وساعة بساعة حتى جمعة الصلبوت وتذكار موت المسيح وطيلة أيام الأسبوع نجد الكنيسة لا تدخل الهيكل وتصلي خارج الهيكل وذلك تطبيقًا لقول الكتاب "فَلْنَخْرُجْ إِذًا إِلَيْهِ خَارِجَ ٱلْمَحَلَّةِ حَامِلِينَ عَارَهُ" (عب 13: 13) إلا أن الكنيسة ترجع للهيكل فقط تصلي قداس خميس العهد وتخرج مرة أخرى إلى أن تعود مرة أخرى في صلوات ليلة السبت التي تنتهي بقداس السبت الكبير الذي يُدعى سبت الفرح وينتهي تذكار الأسبوع بفرحة القيامة في ليلة الأحد.

واختتم الباحث مينا سليمان قائلاً: وتتميز صلوات هذا الأسبوع بألحان خاصة بها تعزية لنفوس المؤمنين؛ حيث يتأمل المؤمنون ويعيشون مع المسيح المخلص ويشاركونه آلامه حتى يكون لهم نصيب في قيامته المجيدة، فصلوات هذا الأسبوع هي صلوات تمتد لوقت طويل وذلك لأن في القديم كان المؤمنون يقضون هذا الأسبوع في الكنيسة حيث نجد الملوك والأباطرة المسيحيين يمنحون موظفي الدولة عطلة ليتفرغوا للصلوات والعبادة في الكنيسة خلال هذا الأسبوع ومن الأمور الجيدة حينما نقرأ عن بعض الأباطرة ومنهم الإمبراطور ثيئودوسيوس الكبير الذين كانوا يطلقون أسرى في هذا الأسبوع ليشتركوا في العبادة مع باقي المؤمنين كنوع من الرعاية الروحية.

موعد عيد الفصح

والتباين بين الكنائس في فترة الصوم لم تقتصر على مدته فقط بل امتدت إلى تحديد موعد عيد القيامة، حيث الكنائس حول العالم لا تحتفل بعيد الفصح في يوم واحد يجمعهم؛ وذلك لاختلاف التقويم المتبع من كل كنيسة عن الأخرى.

 وفي ضوء ذلك يكمل الباحث كيرلس كمال حديثه: تحديد موعد عيد القيامة كان السبب الرئيسي الثاني لَانعقاد مجمع نيقية المجمع المسكوني الأول سنة 325 م هو تحديد موعد عيد القيامة بسبب الخلاف الحادث منذ القرن الثاني الميلادي حول موعد الاحتفال بهذا العيد بين يوم 14 نيسان مع الفصح اليهودي أو الأحد الذي يليه، حيث أن كنائس آسيا الصغرى احتفلت بعيد القيامة يوم الرابع عشر من نيسان "الفصح اليهودي" باعتباره يوم الصلب غير مهتمين بموقع هذا التاريخ في أي يوم من أيام الأسبوع، وقد سميت هذه الكنائس أو المجموعة التي تحتفل بهذا العيد في ذلك اليوم بـ"الأربعة عشريين" غير أن كنائس الغرب في روما والإسكندرية كانوا يعيدون في الأحد الذي يلي الفصح اليهودي.

وتابع، بدأت هذه المناقشة حوالي سنة 155 م بين القديس بوليكاربوس الذي كان يؤيد الاحتفال يوم 14 نيسان، وبين أنسيطَوس أسقف روما عندما زار قيصر روما بوليكاربوس ولكن هذا الخلاف لم يمنع المحبة والسلام بينهم، وفي زمن فيكتور أسقف روما المؤيد للاحتفال يوم الأحد الذي يلي 14 نيسان وكانت صراعات كبيرة عقد بسببها فيكتور أسقف روما مجمع حرم كل من يحتفل بالعيد يوم 14 نيسان مع اليهود لكن تدخل القديس إيريناوس يهدأ من روع الأمور حتى لا تحدث انشقاقات داخل الكنيسة.
وأكمل، لينعقد مجمع نيقية وحل هذه القضية حيث قرر أن كنيسة الإسكندرية هي من تحدد موعد هذا العيد علي أن يكون الأحد الذي يلي الفصح اليهودي بعد الاعتدال الربيعي والفصح اليهودي ١٤ نيسان، وحسب نص الدسقولية "فصل 31" يجب أن يأتي عيد القيامة يوم أحد ويكون يوم الأحد الذي يسبق الفصح اليهودي أي بعد الاعتدال الربيعي الموافق "21 مارس من كل عام".

وتابع، يكون الاحتفال بعيد القيامة مرة واحدة فقط في السنة، ارتبط عيد القيامة بتحديد موعد الفصح اليهودي حتى يكون الأحد الذي يليه لذلك صار يُحسب موعد هذا العيد تبعاً للفصح اليهودي الذي يتبع التقويم العبري القمري، ويكون الفصح اليهودي يوم 14 من الشهر العبري الأول نيسان.

وأضاف كمال، وقد وضع البابا ديمتريوس الكرام الحساب الأبُقطي لَاحتساب الفرق بين التقويمين الشمسي والقمري دون الرجوع لليهود لتحديد اليوم الذي يأتي فيه الفصح اليهودي كان موعد تحديد عيد الفصح حسب السنة الدينية اليهودية يقتصر على كهنة اليهود فقط وليس يعرفه الشعب وكانت الحساب التقويمية اليهودية معقدة جداً لذلك وضع البابا ديمتريوس هذا الحساب لتحديد موعد الفصح بدقة ولا يحتاج لمعرفته من اليهود.

ويختلف موعد الصوم من سنة لأخرى بسبب طبيعة التقويم القمري الذي تختلف دورته عن التقويم الشمسي، حيث أن الشهر العبري القمري عبارة عن "29، 30" يوم وكذلك السنة القمرية أقل من السنة الشمسية حوالي 11 يوما، فالحسَاب الأبقطي يحسب الفرق أو الباقي بين التقويمين ليحُدد بدقة موعد العيد.


 


 

 

الباحث مينا سليمان
 الباحث كيرلس كمال

مقالات مشابهة

  • مخاوف كبيرة بعد زلزال أماسيا: المدينة التي يبلغ عدد سكانها مليون نسمة في حالة تأهب!
  • العرموطي يكشف تفاصيل تمرير المادة 4 من قانون المرأة والمخالفات التي حصلت
  • علي جمعة يكشف عن اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب
  • السيسي: نستهدف زيادة عدد السائحين الذين تستقبلهم مصر سنويا إلى 30 مليون
  • داعية: حالة واحدة يحصل فيها المسلم على نصف الأجر في صلاة السُنة
  • هل يُسمح بأكل السمك في أحد الشعانين؟
  • من هو عبد الله البلوشي الذي شكره محمد بن راشد على حسن وداعه لمسافرة
  • من«الشعانين»إلى «القيامة»... قصة أسبوع يعيشه الأقباط حدادًا على آلام المسيح
  • اليوم العالمي لـ«الهيموفيليا».. «عبدالغفار»: ارتفاع نسبة الأطفال الذين يتلقون العلاج الوقائي لـ80%
  • حج النافلة أم الصدقة.. أمين الفتوى: العبادة التي يصل نفعها للغير أولى