ثائر ضد النظام السوري السابق، ترك عمله في تجارة الحبوب وانخرط في الحراك السلمي ضد جيش الأسد ثم حمل السلاح في وجهه مع بداية تنكيل النظام بالمتظاهرين وقتلهم، وعرف في تلك الفترة بـ"حجي مارع". أسهم في تأسيس "لواء التوحيد" التابع للجيش السوري الحر، ومات متأثرا بجراحه في غارة استهدفته أواخر عام 2013.

المولد والنشأة

عبد القادر الصالح من مواليد بلدة مارع في الريف الشمالي لحلب عام 1979، وكان متزوجا وله 5 أطفال.

ويشتهر بلقب "حجي مارع" نسبة إلى بلدة مارع التي كان من أوائل المنظمين فيها للنشاط السلمي والمظاهرات، وأول من حمل فيها السلاح، كما يعتبره كثير من السوريين "الأيقونة الأغلى" للثورة السورية.

التجربة الثورية

وعقب إنهائه خدمته العسكرية في وحدة الأسلحة الكيميائية بجيش النظام السوري، اتجه للعمل داعية إسلاميا ونشطا في كل من سوريا والأردن وتركيا وبنغلاديش.

وكان يعمل في تجارة الحبوب والمواد الغذائية قبل أن ينخرط في المظاهرات السلمية المطالبة بإسقاط النظام السوري عام 2011، ويقود فيها الهتافات، وأسهم في تأسيس وقيادة "المجلس الثوري في حلب وريفها" في 21 ديسمبر/كانون الأول 2011.

القائد الأعلى للواء التوحيد عبد القادر الصالح مع مقاتلي المعارضة بسوريا في سبتمبر/أيلول 2013 (الفرنسية)

كان الصالح من أوائل من انخرطوا في النشاط المسلح ضد النظام السوري ردا على بطش قوات النظام وقتلها المتظاهرين السلميين، وشكّل مطلع عام 2012 أول مجموعة مسلحة ضدها في الريف الشمالي لحلب، عرفت بـ"كتيبة قبضة الشمال"، واشتهر عنه بيع الكثير من أملاكه لشراء السلاح لمواجهة النظام وقواته.

إعلان

صار جزءا من "لواء أحرار الشمال" عقب اندماج "كتيبة قبضة الشمال" في كتائب الجيش الحر في ريف حلب الشمالي في 9 مارس/آذار 2012. وأدى دورا بارزا في قيادة معارك الدفاع والتحرير، التي خاضها اللواء في ريف حلب الشمالي، وظهر في مقاطع مصورة أثناء مشاركته في معارك بمدينة إعزاز في محافظة حلب، وتركزت حول مفرزة الأمن العسكري في شهري يونيو/حزيران ويوليو/تموز 2012.

اختير الصالح قائدا لأول مجموعة مسلحة تعمل ضد النظام، قبل أن يعلن رسميا عن تشكيل "لواء التوحيد" بالجيش السوري الحر منتصف 2012، واختير عبد العزيز سلامة قائدا عاما للواء، والصالح قائدا للعمليات العسكرية فيه، وضم غالبية مقاتلي الجيش الحر وكتائب في ريف حلب الشمالي والغربي والشرقي، ونفذ العديد من العمليات العسكرية ضد قوات النظام في الريف الشمالي.

أبرز المعارك

بدأ اللواء أولى معاركه باسم "الفرقان" للسيطرة على مدينة حلب، ودخل إلى المدينة عبر الأحياء الشمالية الشرقية في 21 يوليو/تموز 2012، وأصبح من أكبر التشكيلات العسكرية للجيش الحر في محافظة حلب.

وقاد الصالح وشارك في العديد من المعارك وأهمها معارك السيطرة على مدينة إعزاز الحدودية مع تركيا، ومدن الراعي وجرابلس وغيرها من البلدات الكبرى في ريف حلب الشمالي.

وكان لواء التوحيد من أوائل المجموعات التي دخلت إلى الطرف الغربي لحلب بعد أن بدأت اشتباكات بين ثوار حي صلاح الدين وقوات النظام، على الرغم من تخطيط اللواء المسبق للدخول من الطرف الشرقي لمدينة حلب.

تمكن لواء التوحيد من إدخال 275 مقاتلا في اليوم الأول للمعارك بقيادة أحمد يوسف الجانودي -الذي قتل في وقت لاحق على أيدي قوات النظام- فيما دخل الصالح مع نحو 500 مقاتل في اليوم التالي إلى الأحياء الشرقية لحلب.

شارك الصالح في العديد من المعارك الأولى في مدينة حلب، إذ أسهم في السيطرة على المراكز الأمنية في النيرب والشعار وهنانو والصالحين ومقر الجيش الشعبي وثكنة هنانو ومضافة آل بري ومدرسة المشاة بحلب ومشفى الكندي، واستطاعت قواته السيطرة على نحو 70% من المدينة في أيام.

إعلان

وشارك في معارك كبرى خارج حلب، إلى جانب المئات من المقاتلين من لواء التوحيد في معارك القصير في حمص قبل أن تسيطر عليها قوات النظام بمساعدة مقاتلي حزب الله اللبناني في يونيو/حزيران 2013.

كما شارك في قيادة معارك "قادمون يا حماة" في ريف حماة، وعاد في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه للمشاركة في معارك السفيرة في الريف الجنوبي لحلب، التي تمكنت قوات النظام من السيطرة عليها بعد معارك ضارية.

لم يقتصر موقف الصالح على معارضة النظام، بل امتد ليشمل رفضه لممارسات بعض الفصائل المسلحة. فقد اتخذ مواقف حازمة ضد الانتهاكات، كان أبرزها إقدامه على سجن أحد قادة الكتائب في حلب بعد تورطه في سرقة ذخيرة من مدرسة المشاة.

عرف بقربه من المدنيين وتفقده الدائم لأحوالهم وكان يشجعهم على الإبلاغ عن أي تجاوزات يتعرضون لها من المقاتلين، وعزز هذا النهج مكانته بين الناس، خاصة مع حرصه التمركز في الصفوف الأولى بالمعارك، ولأنه من أوائل من أعلن مواجهة النظام السوري جهرا في وقت لم يجرؤ أحد على ذلك.

شارك لواء التوحيد أثناء فترة قيادة الصالح في جهود توحيد وتنظيم فصائل المعارضة السورية، وشارك في تأسيس المجلس الانتقالي الثوري في حلب وريفها في 30 أغسطس/آب 2012، والمجلس الثوري العسكري في حلب وريفها في 10 سبتمبر/أيلول 2012. كما انضم إلى "جبهة تحرير سوريا" التي عُرفت لاحقا باسم "جبهة تحرير سوريا الإسلامية" بعد تأسيسها في 12 سبتمبر/أيلول 2012.

وكان اللواء أيضا جزءا من "الهيئة الشرعية الرباعية"، التي أصبحت المرجعية القضائية الأبرز في حلب بعد سيطرة الجيش الحر على أحيائها الشرقية منتصف ديسمبر/كانون الأول 2012. كما تم اختيار الصالح قائدا مدنيا للجبهة الشمالية في "هيئة الأركان العامة للجيش السوري الحر" وشارك في مؤتمر انتخابات "مجلس محافظة حلب الحرة" في 9 مارس/آذار 2013.

إعلان

عرف عن الصالح حرصه على الوحدة مع مختلف فصائل المعارضة في الشمال السوري، كما حافظ على تقارب مع الفصائل الإسلامية غير المنضوية تحت الجيش الحر، إضافة إلى الفصائل الجهادية المحلية والسلفية الجهادية مثل جبهة النصرة.

وشارك الصالح في مبادرات وهيئات مشتركة عدة مع هذه الفصائل، وحافظ على خطاب يجمع بين الروح الشعبية والثورية والتوجه الإسلامي المعتدل، وعلى الرغم من ذلك، كان له موقف واضح من الائتلاف الوطني السوري والحكومة المؤقتة، ووقع مع حركة أحرار الشام الإسلامية و"جبهة النصرة" على بيان رافض للاعتراف بهما، داعيا إلى التوحد ضمن "إطار إسلامي واضح".

وكان الصالح ولواؤه في خلاف مع تنظيم الدولة الإسلامية، لكنه لم يصل إلى حد المواجهة المباشرة في حياته، وكان لكل منهما مقرات في مدينة حلب، ولم يسعَ الصالح إلى الصدام مع التنظيم الذي عمد إلى التمدد في المدينة واعتقال ناشطين مقربين من اللواء.

وعندما هاجم تنظيم الدولة الإسلامية لواء عاصفة الشمال في إعزاز في أكتوبر/تشرين الأول 2013، تدخل لواء التوحيد قوة فصل ووساطة، لكنه انسحب لاحقا.

خصص النظام السوري مكافأة نقدية قدرها 200 ألف دولار لمن يسلم الصالح أو يقتله، ووصفه المندوب السوري الدائم لدى الأمم المتحدة بأنه "إرهابي تابع للقاعدة وسيجبر الأقليات في سوريا على الإسلام وإن لم يفعلوا سيقتلهم بالسيف".

حجي مارع يتحدث مع قادة في فصيله بحي العرقوب بمدينة حلب الشمالية في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2012 (الفرنسية)

سبق ذلك اللقاء ظهور الصالح في مقطع مصور يقول فيه "لكثرة ما تتحدثون عن الأقليات صرت أتمنى أن أصبح من الأقليات.. نحترم حقوق الأقليات، والله الأقليات سيعيشون حياة أطيب من الحياة التي يعيشونها في ظل هذا النظام، لن يظهر أي تصرف يهين أو يهضم حق الأقليات".

وشدد عبد القادر الصالح على أن الثورة السورية ليست طائفية، ودعا في أكثر من مرة إلى إقامة دولة معتدلة دينيا، مؤكدا أن "الدولة الإسلامية لن تُفرض على سوريا بقوة السلاح".

إعلان

سعى إلى توحيد الفصائل تحت راية واحدة، ولهذا اجتمع قبل محاولة اغتياله بأيام مع قادة كبرى الفصائل آنذاك، ومنها جيش الإسلام وحركة أحرار الشام وصقور الشام لتحقيق هذا الهدف.

تعرض الصالح لمحاولتي اغتيال، واحدة في يونيو/حزيران 2013، وتزامنت مع اغتيال قائد لواء "أحفاد محمد" عبر تفجير عبوة ناسفة في سيارته بمدينة الميادين في دير الزور. وقبلها أثناء استهداف قائد الجيش الحر العقيد المنشق رياض الأسعد، في محاولة اغتيال أسفرت عن فقدانه إحدى قدميه.

وأصيب الصالح بإصابات بالغة إثر قصف طائرة تابعة للنظام اجتماعا لقادة لواء التوحيد في مدرسة المشاة بحلب -سماها اللواء مدرسة الشهيد أبو فرات وهو قائد عملية السيطرة على المدرسة- كان مخصصا للتخطيط لاستعادة السيطرة على اللواء 80 قرب مطار حلب، والذي تمكنت قوات النظام من استعادة السيطرة عليه قبلها بأيام.

الوفاة

توفي عبد القادر الصالح يوم الاثنين 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2013 في أحد مستشفيات مدينة غازي عنتاب التركية متأثرا بجروح أصيب بها في قصف لقوات النظام استهدف اجتماعا لقادة اللواء في مدرسة المشاة في حلب.

ووري جثمانه الثرى في مسقط رأسه ببلدة مارع، وجرى دفنه في قبر كان قد حفره بنفسه وأوصى بدفنه فيه عند وفاته.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات رمضان فی ریف حلب الشمالی النظام السوری مدرسة المشاة قوات النظام السیطرة على الجیش الحر الصالح فی مدینة حلب من أوائل وشارک فی فی الریف فی معارک فی حلب

إقرأ أيضاً:

الملك بلا تاج.. لماذا رفض الأمير عبد القادر عرش الشام؟.. قراءة في كتاب

الكتاب: الأمير عبد القادر وجزائريو بلاد الشام
الكاتب:كمال بوشامة
الناشر:اتحاد الكتاب العرب، الطبعة الأولى 2024، (240 صفحة من القطع الكبير).


في هذا الجزء الثالث والأخير من القراءة التي يكتبها خصيصًا لـ"عربي21"، يُتابع الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني تسليط الضوء على محطات منسية ومواقف حاسمة في حياة الأمير عبد القادر، كما وردت في كتاب "الأمير عبد القادر وجزائريو بلاد الشام" للكاتب كمال بوشامة. بعد أن رافقنا في الجزءين الأول والثاني في استكشاف مسارات الأمير في المنفى، يأتي هذا الفصل الختامي ليكشف عن عرض فرنسي مفاجئ بتنصيبه ملكًا على بلاد الشام، ولماذا رفضه الأمير رغم ما كان يحمله من نفوذ وهيبة واحترام في المشرق العربي، متشبثًا بمبادئه ووفائه العميق لوطنه المحتل، الجزائر.

الفرنسيون واقتراحهم أن يكون الأمير عبد القادر ملكًا لبلاد الشام

لماذا رفض الأمير عبد القادر الاقتراح الذي يُوليه ملكاً على بلاد الشام؟ وما الدافع الذي جعله لا يقبل بهذا العرض؟

في هذا الجو أصبح من الطبيعي تماماً أن يبرز مرة أخرى دور الأمير ونسله وكذلك دور الجزائريين الذين يعيشون في الشام، فالقدر جعل منهم الممثلين الفعالين في الساحة السياسية في سورية وفلسطين ومصر واليمن وليبيا وتركيا والمغرب، وهكذا أكانوا مع السلطات العثمانية أو مع الحركة القومية العربية لعبوا باستمرار أدوار القادة في الأحداث التي عرفتها هذه المنطقة من الشرق الأوسط.

كانوا في كل مكان، في عام 1860، في دمشق وفي لبنان، بعد ذلك مباشرة كانوا وراء مشروع إنشاء المملكة العربية في سورية والجزائر ومشروع افتتاح قناة السويس ثم كانوا وراء حرب طرابلس على الإيطاليين والثورة العربية والمنظمات السرية الوطنية والنظام العربي في سورية والانتفاضة في المغرب وبالضبط في الريف على الفرنسيين والانتفاضة الفلسطينية خلال الثلاثينيات..

هذه المعلومات مهمة جداً، ولكن هل كانت للأمير عبد القادر بعد ذلك اقتراحات أخرى من الفرنسيين طالما كانوا مجبورين على مغادرة الشام بل على التخلي عن مشروعهم العدواني ضد هذا البلد، وطالما نعلم من جهة أخرى أن الأمير كان صديقاً للويس نابليون الثالث؟ نعم طرحتُ هذا السؤال لأنه مهم جداً، فمما جاء من اقتراح بارز من طرف الفرنسيين تجاه الأمير عبد القادر هو أنهم فكروا أن يكون ملكاً لبلاد الشام.. فقالت السلطات الفرنسية هكذا: لم لا يكون الأمير عبد القادر ملكاً للشام؟ نعم لم لا وعبد القادر مقيم في دمشق. مدينة تاريخية يرجع إنشاؤها إلى آلاف السنين وقد اختارها بدلاً من الإسكندرية وعكا وإسطنبول، إنه بالقرب من قبر سيده محي الدين بن عربي..؟ إذاً لماذا لم يكن حاكم هذا البلد؟

لقد احتسب الفرنسيون المسألة دون كرامة هذا المقاتل الذي لن ينسى أبداً أن فرنسا لم تكن صادقة معه، لأنها ما احترمت التزاماتها بعد قراره بوقف الحرب في عام 1847، فبعد ذلك لم يستطع الأمير إلا أن يرفض هذا الاقتراح "الشهير" بين قوسين، الذي صدر عن لويس نابليون الثالث والذي يجعله ملكاً لبلاد الشام التي كان يَرغَبُ في أن يراها منفصلة عن الإمبراطورية العثمانية..لقد احتسب الفرنسيون المسألة دون كرامة هذا المقاتل الذي لن ينسى أبداً أن فرنسا لم تكن صادقة معه، لأنها ما احترمت التزاماتها بعد قراره بوقف الحرب في عام 1847، فبعد ذلك لم يستطع الأمير إلا أن يرفض هذا الاقتراح "الشهير" بين قوسين، الذي صدر عن لويس نابليون الثالث والذي يجعله ملكاً لبلاد الشام التي كان يَرغَبُ في أن يراها منفصلة عن الإمبراطورية العثمانية، فَجَوابُهُ، جواب الأمير عبد القادر، كان واضحاً ومقروناً بشيء من المرارة.. مرارة ذاك "الملك" بلا "تاج" كما كان يراه السوريون باحترام كبير وصادق. نعم، أجاب بوضوح على الرسول قائلاً: "مملكتي ليست من هذا العالم إن الحق وإجفاء ما سيعطيه الله، مالك الملك، لعباده الصالحين لا يُمكن له العيش مع مملكة دنيوية".

فهذا الرد من الأمير لم يُعجب قط الجنرال شارل "دي بوفور" قائد بعثة القوات الفرنسية إلى سورية في عامي 1860، 1861 الذي كان يُمثل شخصياً الإمبراطور نابليون أمام الأمير كمبعوث خاص.

لقد ذكرنا ذلك ويقال إن "دي بوفور" ردّ على الأمير بلهجة حادة تغمرها بالطبع الكراهية والعنصرية التي تميز ضابطاً من هذا الطراز أمام "البيكو" و"البونيول" كما كانوا يُسمّون الجزائريين بلغتهم -لغة الاستبداد والعبودية-، فقد قال الجنرال "دي بوفور": "عبد القادر ما هو إلا عربي.. ناهيك عما سيكون من المفزع وضع مسلم على رأس لبنان".. هذا كلام خطير!!

فهذا الحدث قد دَوَّنَهُ الجنرال في تقرير بتاريخ 6 أكتوبر / تشرين الأول 1860، والآن هل نستطيع أن نعرف لماذا رفض الأمير عبد القادر هذا الاقتراح المهم من قبل الفرنسيين، هذا الاقتراح إن وصل لغيره لكان قد قبله ربما بكل فخر واعتزاز وبارتياح كبير.. فما الدوافع يا ترى التي جعلته يرفض ذاك العرض؟

نعم، رفض الأمير عبد القادر الاقتراح الذي يُوليه ملكاً على بلاد الشام والدافع الذي جعله لا يقبل هذا العرض بل الحقيقة هي أنه، بصفته جزائرياً.

لم يتقبل أن بَلَدَه يُعاني شرّ ما يعانيه تحت الاحتلال الفرنسي، وأن المستعمرين أنفسهم هم الذين اقترحوا عليه "مشيخة" بلد آخر، عربي ومسلم، ولكن ما سيُبعده عن المثالية التي كان يعتز بها منذ دخوله ساحة القتال والجهاد في عام 1832 " في سهل غريس"، ثم ماذا سيقول آلاف المهاجرين الجزائريين؟ وماذا سيفكر ملايين المواطنين هناك بأرض الوطن وهم يعيشون تحت نير الاستعمار بأن زعيمها هو زعيم في بَلَدٍ آخر؟ بل إنّ أميرهم قد استسلم فعلاً وقَبِلَ أَن من احتل وطنه هو الذي وَضَعَهُ على رأس دولة أخرى؟ ومن هنا من الممكن أن يقول الأمير بل يتساءل قائلاً: هَلْ رَجُلٌ غير صالح في بيته يكون صالحاً في بيوت الآخرين؟ والحقيقة هي إن قبل الأمير عبد القادر ذاك الاقتراح لَصَرَخَ كُلُّ الناس بالفضيحة الكبيرة وأكثر من ذلك بالخيانة العظمى.

فالأمير كما سَلَفَ ذكره لم يقبل عرض الفرنسيين للأسباب التي ذكرته ولكن بعد سنوات في عام 1877م عُرضت عليه المهمة نفسها من طرف إخوانه السوريين مهمة رفضها طبعاً ولكن ليس للأسباب والدوافع نفسها، أما عن إرادة الفرنسيين آنذاك كانت لهم فكرة الاستيلاء على عبد القادر الثاني يعني عبد القادر "رجل المنفى" وليس عبد القادر "رجل المقاومة" يقول هكذا الكاتب المؤرخ الفرنسي بنيامين سطوره في: في كتابه حول الأمير عبد القادر.

أما إخواننا السوريون الذين اقترحوا عليه تلك المسؤولية فلأنهم كانوا يحترمونه كثيراً ويثقون به وبأحكامه وقدراته على جمع الطاقات وتحفيز العرب على العمل والنضال وإخراجهم من سباتهم العميق كانوا يرونه الرجل الحكيم والقائد الوحيد الذي يعرف جيداً أوضاع بلاد المشرق، الشيء الذي يُمكنه من إبعاد بلاد الشام عن قبضة "الباب العالي" وهم يعني الأتراك أو الإمبراطورية العثمانية قصد إرساء مملكة عربية مستقلة.

الأمير عبد القادر الذي عاش بكل جوارحه خديعة فرنسا عندما سَجَنَتهُ، لم ينبهر" بالمشاعر الطيبة" التي أظهرها له "نابليون"، لأنه كان يعرف جيداً طموحات الفرنسيين بهذه المنطقة، سوريا ولبنان، وعلاوة على ذلك فإن الأمير بقي دائماً حذراً من تلك التحالفات التي دهورت المناخ السياسي والاجتماعي وحتى الديني في الشرق الأوسط.فعلاً رفض الأمير عبد القادر اقتراح السوريين رغم ثقتهم واحترامهم لشخصه، ورفضه هذا لا يعني شيئاً سوى ثبات عقله وتشبثه بالمبادئ التي عاش بها منذ نعومة أظفاره وقد كان بالتأكيد يعيش دوامة مع نفسه محاولاً إقناع ضميره بأسباب رفضه لهذه المهمة النبيلة العظيمة في وقت طلبت منه ليكون زعيماً على رأس العرب ليقودهم نحو التقدم والرقي، فيقول لنفسه مسوّغاً إياها حتى يضع حداً لكل التساؤلات: "لا يمكنني قبول أية مهمة على حين إن بلدي الجزائر لا يزال تحت نير الاستعمار".

وقد كان فعلاً هذا هو السبب الرئيسي والحقيقي الذي جَعَلَهُ يأخذ هذا القرار، ولكن -وهناك دائماً "ولكن"- عندما يتعلق الأمر بكبار القوم والسياسيين. نعم، فهذا الرفض لم يمنعه أخيراً من المشاركة الإيجابية بنشاطات ضمن الحركة الانفصالية التي كانت تناضل ضد السلطة العثمانية والتي أنشأها المواطنون السوريون في السنة نفسها أي في 1877م. وهكذا إذاً أظهر نشاطه بتلك الحركة الانفصالية وبحركات أخرى كانت تنشأ في بلاد الشام.

في الواقع الأمير عبد القادر لم يبق مكتوف الأيدي، فقد واصل نضاله بطرق مختلفة ليكون إيجابياً منسجماً مع نفسه بأوساط كان مجتمعها يعاني تدخلات شتى وتحالفات غير طبيعية، ثم أوضاعاً صعبة من قوات الغرب كما أشرنا إليه سابقاً. فالأمير لم يتقاعس عندما يتعلق الأمر بالنظر في المسائل التي تهم الجميع، فكان موجوداً في أهم الحركات التي أُنشئت بالمنطقة.

وهذا ما أكدته في بداية العرض بأنّ الأمير عبد القادر عندما دخل إلى دمشق كان ساكناً بقلوب كل الجزائريين الذين عدوه في مرتبة "الأب الروحي". هذه المحبة منحت له أيضاً من طرف كل الشعب العربي في الشرق الأوسط. فكل هذا الوقار هو لأن الأمير بمجرد دخوله إلى الشام لم يتظاهر بعدم القلق لكل معضلات البلد الذي أواه وقدم له كل وسائل الراحة، فلم يقل في مثل هذه الحالات: "إن النار ليست بمنزلي" بأسطورة "جحا"! إذاً فلماذا يكترث هذا الرجل طالما المصيبة عند غيره؟

لقد كان الأمير عبد القادر مُنتبهاً بل كان يعيش كل معاناة إخوانه السوريين وكفاحهم المصيري لتخليص أنفسهم من الحضور الأجنبي وعواقبه المتعددة، فدخل الأمير، ومعه كل الجزائريين المقيمين في الشام بالنضال الوطني تلقائياً وهم يواصلون ما بدؤوه في وطنهم الجزائر، فأدرجوا بالتاريخ أسماءهم بأحرف ذهبية، فلهذا السبب بات من الضروري إعلام الشباب بمساهمتهم في كل هذه الظروف التي مرت بها سوريا تحت ضغط التحالفات والعدوان الأوروبي.

فالأمير عبد القادر الذي عاش بكل جوارحه خديعة فرنسا عندما سَجَنَتهُ، لم ينبهر" بالمشاعر الطيبة" التي أظهرها له "نابليون"، لأنه كان يعرف جيداً طموحات الفرنسيين بهذه المنطقة، سوريا ولبنان، وعلاوة على ذلك فإن الأمير بقي دائماً حذراً من تلك التحالفات التي دهورت المناخ السياسي والاجتماعي وحتى الديني في الشرق الأوسط.

إقرأ أيضا: الأمير عبد القادر في الشام.. من منفى قسري إلى صرح لوحدة الأمة.. كتاب جديد

إقرأ أيضا: الأمير عبد القادر في دمشق.. بطل جزائري يُنقذ المسيحيين ويُسكت مدافع الفتنة

مقالات مشابهة

  • السلطات السورية تضبط نحو 4 ملايين حبة كبتاغون داخل مستودع في اللاذقية
  • عودة أكثر من 1.4 مليون سوري إلى ديارهم منذ سقوط نظام الأسد
  • 400 ألف سوري عادوا للبلاد منذ سقوط الأسد
  • مفوضية اللاجئين: 400 ألف سوري عادوا للبلاد منذ سقوط نظام الأسد
  • مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين: أكثر من 1.4 مليون سوري عادوا إلى ديارهم منذ سقوط النظام وندعو لزيادة الدعم لتسهيل عودة اللاجئين
  • البنك المركزي السوري يحجز على ممتلكات أحد أذرع النظام المخلوع
  • الملك بلا تاج.. لماذا رفض الأمير عبد القادر عرش الشام؟.. قراءة في كتاب
  • اعتراف قائد صقور الصحراء سابقا بشأن أحداث الساحل السوري يثير الغضب بالمنصات
  • الأمير عبد القادر في دمشق.. بطل جزائري يُنقذ المسيحيين ويُسكت مدافع الفتنة
  • الإحصاء: ارتفاع أسعار الحبوب والخبز بنسبة 8.1% خلال عام