إن ردّ فعلنا الطبيعي إزاء أي اعتداء أمريكي على أي بلد من بلدان منطقتنا والجنوب العالمي هو إدانة هذا العدوان، وهو الموقف السليم. وليست الاعتداءات الأمريكية على اليمن استثناءً، لا سيما أنها تترافق بقطع المساعدات الإنسانية عن قسم كبير من هذا البلد الفقير والمنكوب. هذا ينسجم تماماً مع النهج الإمبريالي الذي تتبعه الولايات المتحدة في منطقتنا على الأخص، وقد تصاعد بقوة منذ احتضار الاتحاد السوفييتي، ومن ثم انهياره.
يندرج كل ما سبق وصفه في طبيعة الأمور، إذ إننا نتحدّث عن سلوك دولة إمبريالية هي أعظم قوة عسكرية في العالم. ولهذا السبب بالذات، ينبغي على الأنظمة المناهضة لهذه القوة العظمى أن تتفادى ما يعطيها ذريعة للهجوم العسكري عليها، حتى عندما تكون خاضعة لشتى الإساءات من قِبَلها. فعلى سبيل المثال، تخضع كوبا لحظر مجرم منذ عشرات السنين، لكن حكمها أذكى من أن يقوم بممارسات من شأنها أن تعطي واشنطن ذريعة لشنّ اعتداء عسكري على الجزيرة من شأنه أن يفاقم أزمتها الاقتصادية إلى حد خطير. تصوّروا مثلاً لو قرّرت كوبا قصف البواخر الأمريكية في محيطها البحري ردّاً على خنقها من قِبَل واشنطن. لكان هذا السلوك مشروعاً تماماً من وجهة نظر الحق، لكنّه أرعن تماماً من وجهة النظر العملية نظراً لما سوف يجلبه بالتأكيد على الجزيرة من ويلات.
ومن وجهة النظر هذه، والحق يُقال، فإن سلوك الحوثيين في قصف البواخر الأمريكية في البحر الأحمر شبيه بالفرضية أعلاه. إنه مشروع في منظور الحق، وليس التضامن مع شعب غزّة مشروعاً وحسب، بل هو واجب أخلاقي. لكنّ الاعتداء على بواخر قوة عظمى في ممرّ بحري دولي إنما هو سلوك أرعن من حيث عواقبه المحتملة، لا بدّ من أن يجرّ الويلات على شعب اليمن الذي هو بالتأكيد غنيّ عنها بعد كل ما تكبدّه خلال حرب طاحنة بدأت قبل عشر سنوات ولم تنته، وإزاء الفقر المدقع والمجاعة المستشريين في صفوفه.
والحال، حيث أن أمريكا لم تتضرر من أعمال الحوثيين بما يجدر ذكره، وإسرائيل تضررت قليلاً، كان المتضرَّر الرئيسي هو مصر التي انخفض مدخولها من الملاحة عبر قناة السويس بنسبة 60 في المئة في عام 2024 مقارنة بالعام السابق، بخسارة بلغت 7 مليارات دولار، وهي خسارة كبرى لبلد كمصر يعاني من أزمة اقتصادية متفاقمة. والحقيقة أن نظرة قسم كبير من شعب اليمن إلى أعمال الحوثيين مختلفة تماماً عن نظرة الذين يصفّقون لأفعالهم من الخارج وكأنها بطولات. ففي الشطر الآخر من اليمن من يرون في سلوك الحوثيين مزايدة سياسية يوظّفها حكم صنعاء في صراعه الطائفي والسياسي معهم، كما يوظّفها في دغدغة مشاعر المواطنين في الشمال للتغطية على إخفاقه الكبير في المجال الاقتصادي.
والحقيقة أن حكم الحوثيين، حكم «أنصار الله» حسب التسمية الرسمية، غارق في الظلامية والرجعية الاجتماعية والسياسية، أقرب ما هو إلى حكم الطالبان في أفغانستان، وقد نتج عن انقلاب رجعي على التسوية المشروعة ديمقراطياً التي نجمت عن الانتفاضة الشعبية في عام 2011، وذلك بالتحالف لوهلة مع الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح الذي لا يجمعه بالحوثيين سوى الانتماء الطائفي. وقد انتهز الحكم الحوثي جوّ التعبئة الذي خلقه من خلال ممارساته في البحر الأحمر كي يشدد قبضته القمعية على المجتمع، حتى انقض على منظمات الإغاثة على غرار ما فعله الطالبان، فاعتقل أكثر من مئة من أعضائها في وقت تحتاج اليمن أمسّ الحاجة إلى المعونة والإغاثة الدوليتين.
هذا ويبدو أن تصعيد الضربات العسكرية الأمريكية على مناطق الحوثيين جاء بحثّ من حكام الشطر الآخر من اليمن. ذلك أن واشنطن كانت قد اكتفت حتى الآن بضربات محدودة إذ لم تشكل ممارسات الحوثيين إزعاجاً كبيراً لها، بل جرى إحباط كافة هجومات الحوثيين على البواخر الحربية الأمريكية بالصواريخ البالستية والمسيرات لتدنّي مستواها التكنولوجي مقارنة بما لدى أمريكا (وهذا من حسن الحظ، فلو أصاب الحوثيون إحدى هذه البواخر وقتلوا بعض بحّارتها، لانهال على مناطقهم ما هو أخطر بكثير مما شهدناه حتى الآن).
وقد نقلت صحيفة «ذي غارديان» البريطانية قبل شهرين عن عيدروس الزبيدي، نائب رئيس الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، ورئيس المجلس الانتقالي الجنوبي في الوقت نفسه، نقلت عنه دعوته الرئيس الأمريكي الجديد ليصعّد الهجوم على الحوثيين، منتقداً الإدارة السابقة لقلة حزمها في مواجهتهم. كما دعا الزبيدي إلى التنسيق بين الضربات الأمريكية وبين هجوم القوات الحكومية اليمنية على الأرض، وهو ما قد نشهده في المستقبل القريب. ولو تم ذلك تكون ممارسات الحوثيين قد فسحت المجال أمام تجدد الحرب اليمنية بتدخل عسكري أمريكي مباشر هذه المرة، بما ينسجم مع عدوانية إدارة ترامب ضد إيران، راعية الحوثيين، التي تفوق بكثير عدوانية إدارة بايدن.
فلمّا كان دونالد ترامب رئيساً للمرة الأولى، صوّتت أكثرية مجلس الشيوخ في عام 2019 على قرار ينهي الدعم الأمريكي للتدخل السعودي في اليمن، وكان القرار بمبادرة من السيناتور اليساري بيرني ساندرز. فأبطل ترامب هذا القرار بممارسة الفيتو الرئاسي. ثم لمّا تلاه جو بايدن في البيت الأبيض، كان أحد أول قراراته تجميد مبيعات السلاح للمملكة السعودية والإمارات المتحدة (لاحظوا الفرق عن معاملته للدولة الصهيونية). أما الآن وقد عاد ترامب إلى البيت الأبيض بعنجهية تفوق كثيراً ما بدا عنه في ولايته الأولى، فإن احتمال إعادة تسعير حرب اليمن بمشاركة أمريكية مباشرة بات احتمالاً قوياً، بما يندرج في الضغط الأمريكي على إيران وتهديد ترامب لها بالاعتداء العسكري المباشر على أراضيها.
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه العدوان اليمن الحوثيين امريكا اليمن الحوثي العدوان مقالات مقالات مقالات سياسة مقالات اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
وزارة الخارجية الأمريكية: أيام الردود المحدودة على الحوثيين انتهت
قالت وزارة الخارجية الأمريكية اليوم الاثنين إن ما يحدث الآن هو رد على عرقلة الميليشيات الحوثية للملاحة.
الهجوم على الحوثيينوأكدت الخارجية الأمريكية في تصريحات لفضائية "العربية" أن أيام الردود المحدودة على الحوثيين انتهت، مضيفا أن الحملة ضد الحوثيين ستنتهي عندما تتوقف هجماتهم.
وفي وقت سابق من اليوم الاثنين، أعلن البيت الأبيض اليوم الاثنين أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمر بتنفيذ عمل عسكري حاسم ضد الحوثيين المتمركزين في اليمن.
ترامب يهدد إيرانوأوضح البيت الأبيض في بيان له أن ضعف الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن شجع الحوثيين على استهداف السفن وتعريض المدنيين للخطر.
في نفس السياق، أفادت وسائل إعلام تابعة للميلشيات الحوثية، أن غارات أمريكية استهدفت مديرية باجل في محافظة الحديدة غربي اليمن.
وفي وقت سابق من اليوم الاثنين، قال الرئيس ترامب إن "كل طلقة يطلقها الحوثيون ستُعتبر من الآن فصاعدًا طلقة أطلقتها أسلحة وقيادة إيران، وستتحمل إيران المسؤولية وستتحمل العواقب، وستكون تلك العواقب وخيمة".