تابعنا فـي الأيام الماضية قضية محمود خليل، الطالب الفلسطيني فـي جامعة كولمبيا، الذي قاد التظاهرات الطلابية منذ لحظة انطلاقها، التي شملت التخييم فـي حدود الجامعة وامتدت لتشمل جامعات أخرى فـي البلاد. خرج خليل صادحًا بالمطالبة بوقف فوري للإبادة فـي غزة، ومساءلة الحكومة الأمريكية حول دعمها غير المحدود لدولة الاحتلال الإسرائيلية بالأسلحة وغيرها.
وعلى الرغم من امتلاك محمود خليل «البطاقة الخضراء» والتي وفقًا للدستور الأمريكي تجعله فـي مصاف المواطن خصوصاً فـيما يتعلق بحرية التعبير، وأن زوجته مواطنة أمريكية، إلا أن قوات فـيدرالية اختطفت محمود خليل من بيته، ووضعت الأصفاد على يديه، ونقلته على نحو تعسفـي لسجن فـي منطقة أخرى، يُعرف بسوئه. متهمة محمود خليل بالإرهاب واتخاذ قرار الإبعاد فـي حقه.
لم يكن مفاجئا للشارع الأمريكي هذا التصرف الأرعن بحق محمود خليل، من قبل حكومة يمينية متشددة أبهرتنا فـيما يشبه الكرنفال أو السيرك بطريقتها فـي التعامل مع الملفات على اختلافها كانت داخلية أو خارجية. لكن قرار الإبعاد تحديداً هو تهديد مباشر للدستور وحرية التعبير الأساسية فـي أمريكا، إنها تمثل خرقًا يهدد مواطنين أمريكيين حول مواطنتهم، وإن لم تكن مع محمود خليل أو لا تعرف ما هي قضيته وملابساتها، إلا أنه ينبغي عليك أن تقول شيئاً ما هنا وإلا فأنت التالي. هذا ما قاله العديد من الناشطين الأمريكيين على وسائل التواصل الاجتماعي، التي قضيت وقتاً فـي متابعتهم خلال الأيام الماضية.
فـي أحد البرامج الحوارية الشهيرة فـي أمريكا يتداخل عضو فـي فريق ترامب للإشارة لكون خليل إرهابيا يتلقى دعماً مالياً من منظمة إرهابية هي «حماس» ثم ما أن يستشيط جميع من فـي الاستوديو حول هذا التصريح ويطالبون المتحدث بتقديم أدلة حول اتهام خطير كهذا، يتهرب بالإشارة إلى أن الفريق الذي يعمل على القضية ويترأسه بنفسه لم يشاركه التفاصيل بعد. عضو فـي منصب آخر فـي حكومة ترامب وبينما تسأله الصحفـية عن رأيه فـي قضية محمود خليل وهو يسير فـي صالة تنتهي إلى مصعد، لا يرد سوى بأنه إرهابي مع ضحكة ساخرة، تسأله بوضوح كيف يكون كذلك؟ ثم يرد بكلمة هو إرهابي ويضحك مجدداً. لا يقدم أي إجابة سوى ترديد أنه إرهابي مهما اختلف السؤال، مع نبرة ساخرة. يتحدث آخر عن قدرة الحكومة الأمريكية على الرجوع عن موقفها من إعطاء أي أحد البطاقة الخضراء، خصوصاً وأنها امتياز تمنحه الحكومة الأمريكية لا ينبغي أن يتمتع به الإرهابيون.
تبدو المسألة محسومة ما أن تذهب قضية محمود خليل إلى المحكمة إذا ما تم الاحتكام إلى القانون والدستور، إلا أن ما يحدث فـي أمريكا، هو عملية اختراق كبيرة لكثير من القوانين الدستورية، مع وجود فساد غير مسبوق، فها هو ممثل ولاية تكساس جيمس ستارلكو فـي اجتماع مع الديمقراطيين والجمهوريين فـي عاصمة الولاية يتحدث عن اثنين من المليارديرات يحاولان شراء تكساس بطريقة لم تحدث سابقاً.
ومحاولتهما الاستيلاء على الحكومة، معلنا عن اسميهما، وقال بكل صراحة لقد اشتروا بالفعل: المحافظ، نائب الحاكم والمدعي العام ومجلس الشيوخ فـي الولاية والآن لإكمال استيلائهم على الولاية فهما يحاولان شراء « Texas House». مشيراً إلى أنها أكثر الحكومات فساداً فـي تاريخ تكساس. ولا يمثل هذين الملياريرين «اوليغارشية» تعمل فـي الغاز والنفط، بل ينطلقون من موقف ديني قومي متطرف، وصفهما فـيها سترالكو بالقساوسة، أنفقوا أكثر من مئة مليون دولار لحظر الإجهاض فـي تكساس وحظر الكتب أيضا. وهما يحاولان الآن إغلاق المدارس العامة فـي تكساس. قائلاً: «هذا أكبر من كونه مجرد حفلة» ولا يمكن تحويل تكساس إلى دولة «ثيوقراطية».
لكن هل كنا نتوقع أكثر من ذلك؟ لطالما تحدثت الأدبيات والمنظرين حول التحالف بين السياسيين ومجموعات المصالح «أصحاب رؤوس الأموال تحديدًا». يحذر فواز طرابلسي على سبيل المثال من التشخيص «السياسوي» الذي يطمس السلطة الاقتصادية وتدخلاتها فـي عالم السياسة. يقول طرابلسي عن الأوليغارشية فـي مقاربتها الأولى أنها تعين طبيعة السلطة الاقتصادية وعلاقتها بالسلطة السياسية. ويشير للمرحلة التي نعيشها وهي النيوليبرالية المتأخرة إذا يبرز «الأوليغارك» وهم السلطة الاقتصادية الذين أثروا من قبل رأسمالية الدولة نفسها، أي امتيازات تمنحها الدولة لقلة من الناس مقربة من الدولة تحديداً.
أي «إنتاج مصالح اقتصادية من خلال الدولة» أن الثراء الذي تحظى به السلطة الاقتصادية بعد هذه العلاقة، لا يمكن إلا تنتج ولاءً مطلقاً للسلطة السياسية من جهة ومن جهة أخرى تقدم نموذجاً ثانياً عندما تخلق سياسيين فاعلين (أي تقدمهم السلطة الاقتصادية). يشير طرابلسي إلى أن ما يحول دون التغيير هو عدم معرفتنا الواقع الذي نريد تغييره. فالتشخيص السائد للسلطة «سياسوي» أي فهم السلطة على أنها سياسة وسياسيون وهو عميق الصلة بالنيوليبرالية القائمة على فكرة أن الدولة عائق أمام تطور القطاع الخاص وتطور الحريات. وبالتالي ينغي أن «يُحرر الحمل الوديع: السلطة الاقتصادية» من سيطرة السياسيين والسياسة.
باختصار أن تتمظهر العلاقة بين الاقتصاد والسياسة عبر ترأس ترامب أهم منصب رئاسي فـي العالم، أو علاقته الوثيقة بإيلون ماسك ودعم هذا الأخير لحملة ترامب هي تجسيد مباشر لما قيل حول «الأوليغارشية» وبهذا كيف يمكن الحفاظ على المواثيق التي قطعتها الدولة على نفسها تجاه مواطنيها؟ كيف تستمر فـي تقديم الرعاية الاجتماعية لهم؟ كيف تحفظ حقهم فـي التعبير؟ وكيف تلتزم بالمطلق بدساتيرها؟ إن ما يحدث هو تحطيم للدولة، وإطلاقها للسوق وطبيعته، من يدفع أكثر هو من سيحدد كيف ينبغي أن تتوقف الإبادة فـي غزة وإذا ما كانت ستتوقف أصلا مع عودة استئنافها يوم الثلاثاء من هذا الأسبوع، هذه السلطة التي تأكل أي ما يأتي فـي طريقها هي من ستبعد محمود خليل وكل ما يجسده هذا النموذج من مساءلة للسلطة الحاكمة والوقوف كند لها، فـي شعور بالمسؤولية تجاه الذات والعالم.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: السلطة الاقتصادیة محمود خلیل
إقرأ أيضاً:
مجلة أمريكية: قضية محمود خليل تؤكد على معركة ترامب الخاسرة ضد حرية التعبير
نشرت مجلة "ذي نيوركر" مقال لبنجامين والاس- ويلز تناول فيه قضية الناشط الفلسطيني محمود خليل الذي اعتقل السبت الماضي وهو يدخل شقته في جامعة كولومبيا مع زوجته الحامل في الشهر الثامن.
وقال والاس- ويلز إن إدارة الرئيس دونالد ترامب تقف على الجانب الخطأ من هذه المعركة، لأن الدفاع عن حرية التعبير يظل مبدأ قويا وواضحا من الناحية السياسية.
وقال إن خليل المتخرج حديثا من جامعة كولومبيا استقبله في بهو بناية للشقق في مورنينغ سايد هايتس أربعة عملاء بالزي المدني من وزارة الأمن الداخلي، وأخبروه أنه تم إلغاء تأشيرته كطالب وأنه اعتقل تمهيدا لترحيله. وكان خليل المولود في سوريا وحامل الجنسية الجزائرية ومن أصل فلسطيني، قائد الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين التي شهدتها جامعة كولومبيا العام الماضي. واتصل مع محاميته آمي غرير، وتحدثت مع واحد من العملاء. وعندما أخبرته غرير أن خليل لا يحتاج إلى تأشيرة طالب، لأنه مقيم في أمريكا بشكل دائم ويحمل البطاقة الخضراء، ألغى العميل بطاقته الخضراء أيضا. وعندما طلبت غرير الإطلاع على مذكرة الاعتقال، أغلق العميل الهاتف في وجهها.
ويبلغ خليل من العمر 30 عاما وحصل على شهادة في الإدارة العامة وتدرب مرة في الأمم المتحدة، وزوجته مواطنة أمريكية من أصل سوري وستضع طفلا الشهر المقبل.
ويقول الكاتب إن خليل كان وسيطا مع إدارة الجامعة في خضم التظاهرات التي رصدت قوة عمل جامعية أجواء "خطيرة ومتفشية" من معاداة السامية، حيث استهدف الطلاب اليهود وتعرضوا للمضايقة. وفي تصريحات علنية، نفى خليل معاداة السامية، وأصر على أن تغيير حكومة "إسرائيل" سيمثل تحررا للفلسطينيين واليهود على حد سواء.
فهل هذه حقا المعركة التي أرادت إدارة ترامب خوضها؟ وكما اتضح، فبمجرد أن أوضحت الإدارة ما كانت تنوي القيام به، كان هذا هو بالضبط ما أرادته.
وصرح مسؤول في البيت الأبيض لموقع "فري برس": "الادعاء هنا ليس أنه كان يخالف القانون". وذكر بيان صادر عن وزارة الأمن الداخلي، بشكل غامض، أن خليل "قاد أنشطة متحالفة مع حماس"، وهي صياغة تشوه التمييز الحاسم بين معاداة السامية ومعارضة السياسة الإسرائيلية.
واستند أمر الترحيل الحكومي إلى قانون هجرة غامض صدر عام 1952 يسمح لوزير الخارجية بإلغاء الإقامة الدائمة لأي شخص يراه يقوض السياسة الخارجية الأمريكية. وبدا أن الإدارة مستعدة للقول بأن "استمرار وجود خليل في هذا البلد"، كما وصفته صحيفة "نيويورك تايمز" يهدد السياسة الخارجية، وهو ما يجعل الهدف الأمريكي المتمثل في مكافحة معاداة السامية أكثر صعوبة.
ومن الواضح أن محاولة ترحيل خليل نابعة من مجرد أن الإدارة لم تعجبها تصريحاته.
ويرى الكاتب أن أكثر تصرفات ترامب الراديكالية تنبع من قوته وضعفه السياسي. وفي الوقت الحالي، تنبع قوته من غياب أي معارضة سياسية فعالة في واشنطن، مما سمح له بإجراء تخفيضات كبيرة على العديد من البرامج الفدرالية الشائعة (في انتظار أحكام المحكمة، في بعض الحالات).
لكن استمرار تلك الإجراءات وتهديداته التي لا تنتهي بالرسوم الجمركية، أثارت مخاوف الأسواق وحولت في وقت قصير ومذهل، التوقعات الاقتصادية الصاعدة إلى توقعات تثير مخاوف حدوث تباطؤ. وبعد أن رفض ترامب استبعاد الركود، سأل بيتر دوسي من قناة "فوكس نيوز" ساخرا، في مؤتمر صحفي، عما إذا كان أي شخص في البيت الأبيض يبيع على المكشوف في مؤشر "داو جونز". لذا فمن المنطقي أن ينتهز الرئيس قضية مألوفة في حملته الانتخابية، وهي احتجاجات الحرم الجامعي، وبخاصة في جامعة كولومبيا، لأنه يعتقد أن الرأي العام في صفه.
إلا أن مشكلة ترامب تكمن في هدفه واختياره لجامعة كولومبيا، فرغم تاريخها الحافل بالنشاط الطلابي، إلا أنها لا تتناسب مع الصورة التي رسمها اليمين المتطرف لمؤسسة ثورية مصممة على التلقين الفكري لفكرة التنوع والمساواة والشمول.
وقد ردت الجامعة على الاحتجاجات جزئيا بتشكيل لجنة قد يشمل عملها تأديب الطلاب الذين، على حد تعبير وكالة "أسوشيتد برس"، "عبروا عن انتقاداتهم لإسرائيل". ومن هنا كانت الضربات السياسية غير مباشرة.
ففي البداية، أعلنت الإدارة أنها ستلغي تمويلا بقيمة 400 مليون دولار على الأقل عقابا، كما قال ترامب، للجامعة وفشلها في حماية الطلاب اليهود، على الرغم من أن ذلك كان له تأثير في تقليص الدعم الفدرالي لنظام رائد يوفر رعاية صحية عالمية المستوى لسكان نيويورك الفقراء.
ثم تحركت الحكومة ضد خليل. وقال مستشار في البيت الأبيض لموقع "أكسيوس"، إن الإدارة ستستخدم نظاما جديدا للذكاء الاصطناعي في البحث بوسائل التواصل الاجتماعي عن تصريحات معادية للسامية أو معادية لإسرائيل يدلي بها طلاب أجانب، وستلغى تأشيراتهم بعد ذلك، و"لكن لا ضرر أبدا من أن تكون على الجانب الصحيح من القضية".
وعليه، فلو ظهرت إدارة ترامب بأنها تقف على الجانب الخطأ في هذه المعركة، فهذا لأن الدفاع عن حرية التعبير يظل مبدأ سياسيا قويا وواضحا، فخلال إدارة جو بايدن، ادعى الجمهوريون أكثر من مرة أن المحافظين كانوا ضحايا للرقابة. والآن يبدو أنهم حريصون بشكل خاص على منع تدفق الخطاب والأفكار.
وفي بداية الشتاء الحالي، استطاع ترامب تسوية دعوى قضائية مع شبكة "إي بي سي" التي اتهمها بالتشهير به وبمساعديه. وقام مساعدوه بتغيير مقاعد مراسلي إعلام رئيسية مثل "أسوشيتدبرس" و"سي أن أن" في المؤتمرات الصحفية بالبيت الأبيض ومنحها إلى مؤسسات إعلامية بتوجهات أيديولوجية.
وحتى المؤسسات التي أنشأها ترامب لتعزيز الكفاءة الحكومية ومحاربة الإهدار، كما أشارت فيرونيك دي روجي في مجلة "ريزون" الليبرالية "تبدو مدفوعة في الغالب باستئصال سياسات الثقافة اليسارية وممارسيها في واشنطن". وأضاف والاس- ويلز أن ترامب وحلفاءه السياسيين دأبوا على خلط الخطاب الذي لا يروق لهم بالعنف. ووصف رئيس مجلس النواب مايك جونسون، خليل بأنه "إرهابي شاب طموح". وعندما سئل ترامب، خلال فعالية في البيت الأبيض، بدت وكأنها تهدف إلى الترويج لسيارة تيسلا التي يملكها إيلون ماسك، والتي تراجعت مبيعاتها وأسهمها بشكل حاد، عما إذا كان ينبغي اعتبار حوادث التخريب المتفرقة في وكالات تيسلا أعمال إرهاب محلي. فقال: "سأفعل ذلك. علينا أن نوقفهم".
وفي المقابل يقول الكاتب إن شجاعة ترامب وحلفاءه في انتهاك حرية التعبير لم تقابل بشجاعة وثبات من الطرف الآخر. فلم تتمكن مجموعة من أعضاء الكونغرس التقدميين الذين وزعوا رسالة تدين ترحيل خليل من الحصول إلا على أربعة عشر توقيعا، وهو ما قد يدل على مدى تردد الديمقراطيين وشكهم من الارتباط بالاحتجاجات.
لكن الدفاع عن حق خليل في التعبير لا يتطلب الدفاع عن آرائه. حتى آن كولتر، المعلقة المحافظة المتحمسة، تدرك ذلك. وكتبت عن المتظاهرين: "لا يوجد تقريبا أي شخص لا أريد ترحيله، ولكن ما لم يرتكبوا جريمة، ألا يعد هذا انتهاكا للتعديل الأول؟" بالفعل.
وقال ترامب، الاثنين، إن اعتقال خليل هو بداية اعتقالات عدة. وبحلول موعد جلسة الاستماع الأولى في المحكمة الفدرالية بمدينة نيويورك، بعد يومين، كان خليل محتجزا بعيدا عن الإجراءات، في مركز احتجاز تابع لدائرة الهجرة والجمارك الأمريكية الهجرة والجمارك في ريف جينا، لويزيانا.
وتجمع مئات المتظاهرين خارج محكمة مانهاتن. ولعلهم، مثل ترامب، أدركوا أن قضية خليل ليست نهاية معركة دستورية حاسمة، بل هي البداية.