تعاونيات الكتابة قفزة أم حفرة؟
تاريخ النشر: 18th, March 2025 GMT
حظي الكاتب (الشاعر والمسرحي) فـي العصور اليونانية (ق.م) بهيمنة عالية، فكان هو الصانع الأكبر بلغة الفلاسفة والمتحّكم فـي مقدرات الشخصيات ومصائرها المتحوّلة. وكان اهتمام النقد بهيمنة الكاتب يصدر عن هالة أسهم فـي خلقها الفلسفة ومقولات الفلاسفة (أرسطو وأفلاطون). كان السؤال عن موقف الكاتب من الوجود والمجتمع والنوع الأدبي الذي ينتسب إليه، سؤالا وجوديا، وموقفا فكريا؛ فلماذا يكتب مسرحية، ولا يكتب رواية؟ ما الخطاب الذي تقوله الرواية، ولا تقوله القصة القصيرة؟ وفـي سياق ذلك، تشكلت مناهج نقدية ركزت على الكاتب والظروف التي أنتج فـيها إبداعه (الاجتماعي، والنفسي والتاريخي).
ظل الكاتب ينال تقديره حتى جاءت النظريات الألسنية الحديثة، التي أعطت للقارئ امتيازا، فتراجعت المناهج النقدية وتياراتها الفكرية التي كان الكاتب محورها، بحيث لم يعد التركيز على الكاتب وشخصيته ومرجعيته الثقافـية فـي التحليل، لتتصدر اتجاهات أخرى (الفـينومونولوجيا/ الظاهراتية، الهرمنيوطيقا/ التأويلية) وتركيز الأولى على الخبرة المباشرة للوعي والظواهر ودور اللغة فـي تشكيل الخبرة، واهتمام الثانية بالبنية اللغوية للنص وتفسيرها وبحثها عن المعاني المخفـية، وأخذ التوجه الألسني مع تيار البنيوية بالانتشار والاتساع، متزامنا مع منجزات الحداثة. وينبغي النظر إلى البنيوية انطلاقها ضمن سياق الحداثة ككل فـي داخل فلسفة تؤمن إيمانا بالعلوم الطبيعة والبنية الثابتة والعلميّة الصارمة فـي تفسير اللغة، وبالتالي يتعدى ذلك إلى قراءة الوجود وتأويله.
إن السؤال عن موقف الكاتب ونظرته إلى العالم والوجود والنوع الأدبي، كانت أحد المرتكزات التي تعلمناها. وانطلاقا من ذلك، تجري قراءة العمل الإبداعي وتحليله. يفـيد ذلك فـي معرفة المرجعيات التي تشكّل إبداع المؤلف وأساليب اللغة التي تكوّن معجمه البلاغي. فالكاتب وحده هو المسؤول عن النص الذي يبدعه، فالنص نتاج صوت واحد متفرد.
تغيرت النظرة السابقة بزاوية كبيرة! لم يعد الكاتب يحظى بالهيمنة التي وصلت إلى حد التبجيل والقداسة، فالكاتب لم يعد محيطا بالأسرار، ولا تشكّل حياته وظروف إنجازه للعمل الإبداعي شيئا يُذكر أو ذا بال. ففـي السابق كان الاهتمام بإنتاج مبدع كنجيب محفوظ يحتل مساحة من الاهتمام بالبحث وعقد الندوات، فانتشرت البحوث حول شخصيات رواياته وحاراته ورمزية فضاءاته وما تخبئه إزاء الواقع المجتمعي. وفـي السياق نفسه، فـي زمن الثمانينيات على سبيل المثال كان ظهور السيناريست المخضرم الذي ينطلق من قراءة للرواية سوف تقوم شركة الإنتاج تحويلها إلى عمل درامي تلفزيوني أو سينمائي، أو أن يؤلف السيناريست عملا جديدا من عنده، يعد مرحلة من مراحل معرفة درجات وعي السيناريست الناضج نحو الكتابة المسؤولة. كان المتلقي يُشاهد فـي عمل درامي ما، أعتى التحولات السياسية والمتغيرات الاجتماعية، فكان يُعجب بشخصية درامية وكيفـية تحولها من حال فقير إلى خال الغنى؟ أو كيف انتقلت من حيز العبودية إلى ملك العالم! يمكن التمثيل هنا مثلا إعجاب القارئ بشخصية راسكولينكوف فـي رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي، التي لا تقل إبداعا عن شخصية علي البدري فـي مسلسل ليالي الحلمية عام 1987م أو شخصية حسن فـي مسلسل أرابيسك: أيام حسن النعماني وهما عملان بتوقيع كاتب السيناريست الضليع أسامة أنور عكاشة. وتتداخل خيوط أخرى ترفع من قيمة الإعجاب بالشخصية الدرامية، فلا شك فـي أن بقاء الشخصية الفنية الدرامية فـي التلفزيون أو السينما أو المسرح، لا يقتصر على أسلوب صياغتها وميزان أقوالها وأفعالها وبنائها الفني وحده، بل يساعد على ذلك وجود الممثل الباحث؛ الذي يبحث فـيما وراء الشخصية المتخيلة وأبعادها النفسية والمادية والاجتماعية، فـيضع يده على مفاتيحها الباطنية ولسانها وطبقة صوتها وميكانيزم حركتها حتى يمكنه إبداعها، لجعلها شخصية حاضرة موجودة بالفعل بأبعادها فـي أعماق المشاهد.
والحقيقة، إذا كان الكاتب قد مات بحسب (رولان بارت) وأن مسؤوليته عن النص انتقلت إلى المتلقي، أو لنطلق عليه القارئ الباحث، الذي لا تقل مهمته عن الناقد الباحث فـي تثقيف نفسه بقراءة النظريات والإبقاء على اتصال مع التيارات والمقاربات النقدية، لكنه قارئ لا يهتم بتحليل النصوص تحليلا نقديًا معقدا، ويذكرني هذا بصيغة القارئ العادي The Common Reader الذي اجترحته فرجينيا وولف؛ إنه قارئ يعمل على النقيض من القارئ الأكاديمي أو المتخصص، ومن أهم سماته: الشغف بالأدب وقراءته بدافع المتعة والاستكشاف، وامتلاكه الحرية الكافـية فـي الانتقال بين الأنواع الأدبية، يقرأها ويستطيع الحكم على جودة الأدب، ولا يُشغل بالمصطلحات النقدية الصارمة كما يهتم بها الناقد.
إن ما يهمّ الكاتب حسب تقديري هي الرؤيا التي ينظر بها إلى العالم وينطلق منها: ما موقفه من أقطاب الصراع والمواجهات بين الحضارات، هل الحضارات فـي موقف حوار وتفاعل وفعل وتفاعل، أم فـي محل احتدام، وصراع، وتحزّب، واقتتال؟ وكيف رؤيته إلى إرادات الشعوب، ومكونها النفسي، ونوازعها، وطموحها. هل هي شعوب قادرة ومفكرة أم مسلوبة الإرادة ومطحونة؟ هل تبحث الشعوب عن بطل شعبي أم عصري أم تقني! هل ما زال لديها أحلامها وأمنيات وطموحات؟ أم صارت الشعوب ومجتمعاتها مريضة تعاني أزمات خانقة وتطرّف؟ ما مسؤولية الأنظمة تجاه شعوبها، وتحقيق الأمن والأمان لها إلى جانب توفـير فرص العمل والغذاء والتعليم؟ إن الكاتب المبدع الحرّ صاحب المبادئ والأفكار الإيجابية الداعمة، مسؤول مسؤولية كاملة عن كتابته السردية وخطوط شخصياته الدرامية، مسؤول عن وعيها وتحركها، وصعودها، ودرجات هبوطها وغرقها فـي وحل الآخرين. وهذا الطرح إذا كان يتنافى مع مقولة بارت (موت المؤلف- 1967م)؛ فالكاتب لم يعد المصدر الوحيد لمعنى نصه! وعندئذ نتساءل عن أشكال الكتابة التعاونية (Writes Room) التي تنفذها خلايا الورش، من المسؤول عن رؤيتها إلى العالم؟ ما الموقف الفكري تجاه المجتمعات؟ ما نوع الحوار المطلوب وجوده فـي سيناريوهات التلفزيونات والمنصات التي تُغدق بأنواع من جيوش الكتابة المشتركة؟
أعادني السؤال السابق إلى موقف قديم وآخر جديد. أما الموقف القديم، فـيخص أول رواية قرأتها فـي سياق التأليف المشترك، وشدتني عوالمها على الرغم من اختلاف أسلوبي الكتابة، وكانت لكاتبين يؤلفان بالتناوب معا هما الروائي عبدالرحمن منيف والروائي المتميز بأسلوبه الواقعي المشتبك مع القضايا السياسية، والشاعر جبرا إبراهيم جبرا المعروف بأسلوبه الشعري التأملي ذي النبرة الصوفـية، عندما كتبا رواية (عالم بلا خرائط)، فكنت أشغل نفسي بالبحث عن المعنى وكيف استطاعا أن يكتبا رواية فريدة فـيها من الوضوح ما يوازي الغموض، منطلقة من فكرة أن الكاتبين ليسا وحدهما المسؤولان عن المعنى، ما يعني نفـي موتهما. أما الموقف الجديد، فـيخص الذكاء الاصطناعي. على الرغم من موت المؤلف وهيمنة تعاونيات الكتابة المشتركة فـي تنفـيذ المسلسلات، يرى القائمون على إنتاج العمل التلفزيوني أن الموجّه أو المشرف العام على السيناريو موجود، وهذا ينفـي إلى حد ما وجود أكثر من سلطة على المشهد أو السيناريو. من ناحية أخرى، يستنكر الكاتب المؤمن بكتابته وأسلوبه وموقفه الإبداعي، الكيفـية التي يندرج فـيها اسمه مع عدد من الكتبة المتعاونين. فـي بعض الأحوال التي أجهل إذا كانت حسنة أو سيئة، يلجأ القائمون على إنتاج السيناريو إلى الذكاء الاصطناعي لمراجعة السيناريو وضخ الأفكار الجديدة والمعالجات الممكنة لمنح السيناريو حياة كائن حي (ChatGPT & Script Book).
المعضلة التي نحن إزاءها تتحرك فـي اتجاهات متباينة: - إن نظرية موت الكاتب عززت من وجود المتلقي وإعلان مسؤوليته عن إنتاج المعنى، وأن كتابة التعاونيات رفعت من تعددية المعنى؛ لأن الكتّاب مختلفون، وحتى إذا كان المتلقي يشارك فـي إنتاج المعنى، فالمحصلة هي وجود أكثر من معنى منتشر فـي المكان، كالسلطة تماما بتعبير ميشال فوكو. إن تعاونيات الكتابة (بحسب متصفحات البحث الكثيرة والبحث عن آراء المنتجين والكتّاب)، فـي الغرب ساعدت على تحسين الأعمال الفنية ذات المواسم الكثيرة، وأقرب مثال كلاسيكي مسلسل (Friends) الذي أنجزت كتابته فـي غرفة كتابة تتكون من مجموعة من الكتّاب، يقودهم مؤلفان أساسيان، بينما فـي عالمنا العربي، فإن الأمور تتجه إلى أساليب مختلفة. إن تعاونيات الكتابة تسهم فـي تحسين جودة العمل الفني وتطوير الحبكة بشكل جماعي، وهي كما يبدو الأسلوب الأكثر شيوعا، ولكن من دون ثقافة ووعي معرفـي مسؤول ومرجعيات وبنية إنتاجية واضحتين، فإن أساليب تطورها لدينا ستكون منفرة وضيقة الأفق ومهلهلة. فهل تعاونيات الكتابة قفزة نحو المستقبل أم حفرة ندفن فـيها المعاني؟
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الإعلام الحكومي: رواية العدو بشأن قصف المستشفى المعمداني كاذبة ومفبركة
الثورة نت/..
اعتبر مكتب الإعلام الحكومي، الادعاءات التي أطلقها جيش العدو الصهيوني لتبرير جريمته النكراء بقصف المستشفى الأهلي المعمداني في مدينة غزة باطلها وكاذبة.
وأكد الإعلام الحكومي في بيان اليوم الأحد، أن هذه المزاعم الكاذبة لا تعدو كونها محاولة يائسة للتغطية على جريمة مكتملة الأركان، بحق منشأة طبية مدنية محمية بموجب القانون الدولي.
وشدد بشكل قاطع على أن المستشفى المعمداني، منذ تأسيسه، هو مؤسسة طبية تعمل على تقديم الخدمات الصحية للمدنيين من المرضى والجرحى، ولم يكن يوماً مقراً لأي نشاط عسكري من أي جهة كانت كما يدعي العدو ويحاول تضليل الرأي العام لتبرير جريمته البشعة.
وأضاف: “الادعاء بوجود مجمع قيادة وسيطرة داخل المستشفى هو ادعاء مختلق، يفتقر لأي دليل، ويأتي ضمن سياسة التضليل الإعلامي التي ينتهجها العدو في كل مرة يرتكب فيها مجازر بحق المدنيين الأبرياء وبحق المؤسسات المدنية والطبية خصوصاً”.
وأشار الإعلام الحكومي إلى أن ما يفنّد رواية العدو بشكل قاطع، هو أن القصف والغارات استهدفت مبنى المستشفى بشكل مباشر ومتعمد، في وقت كان يكتظ بمئات المرضى والجرحى والطواقم الطبية والمرافقين.
وتساءل قائلًا: “فأين هي غرف القيادة والسيطرة المزعومة التي يدّعي العدو وجودها؟ وهل يُعقل أن تُنشأ مراكز عسكرية داخل مرافق يعالج فيها الجرحى وبين أسرّة المرضى؟!”.
وأوضح الإعلام الحكومي، إن هذا الادعاء السخيف لا يصمد أمام أبسط منطق، ويُعد غطاءً مفضوحاً لجريمة ضد الإنسانية موثقة بكل المعايير، لا يمكن تبريرها بأي ذريعة ولا تغطيتها بأي كذبة.
ولفت إلى أن تذرّع العدو باستخدام ذخائر “دقيقة” لا يبرر استهداف منشأة طبية محمية، كما أن إطلاق تحذيرات مزعومة لا يعفي الجاني من المسؤولية القانونية، خاصةً في ظل استمرار استهداف المرافق الطبية والمؤسسات الإنسانية بشكل متكرر منذ بدء الحرب.
وتابع: “لقد اعتاد العدو على استخدام فزاعة المقاومة داخل المرافق المدنية كمبرر لارتكاب المجازر، دون تقديم أي أدلة موضوعية، وهو سلوك متكرر يعكس استخفافاً صريحاً بالقانون الدولي الإنساني واستهانة بحياة المدنيين بهدف تدمير المرافق الصحية والطبية والحيوية تحت مبررات كاذبة وواهية”.
وجدد الإعلام الحكومي تأكيده أن رواية العدو باطلة جملة وتفصيلاً، معربًا عن رفضها بشكل قاطع.
وحمل العدو المسؤولية الكاملة عن استهداف المستشفى المعمداني، واعتبره جريمة حرب مكتملة الأركان.
وطالب الأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، والمنظمات الدولية والحقوقية، بإيفاد لجان تحقيق دولية محايدة للكشف عن حقيقة هذه الجريمة، ووضع حد للتضليل الإعلامي الذي تمارسه آلة العدو الكاذبة.
ودعا وسائل الإعلام إلى الحذر الشديد وعدم التورط في ترويج رواية العدو دون تحقق، لما يُشكله ذلك من تواطؤ ضمني في تبرير جرائم حرب ضد المدنيين والمنشآت الإنسانية.
وشدد الإعلام الحكومي، على أن محاولات العدو لتبرير جرائمه لن تُسقط من ذاكرة العالم هول الفظائع التي ارتكبها بحق أبناء الشعب الفلسطيني، وسيبقى المستشفى المعمداني شاهداً على جريمة لا يمكن طمسها بالبيانات الكاذبة ولا بالإخراج الدعائي والتسويق الفاشل.