على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (15 – 20)
تاريخ النشر: 18th, March 2025 GMT
على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية
(15 – 20)
“لنْ يستطيعَ أحدٌ أنْ يركبَ على ظهرِك، ما لمْ تَكُنْ منحنياً”
مارتن لوثر كينج
النور حمد
التَّعْمِيِةُ على ما تحصل عليه مصر من السودان
للأنظمة المصرية المتعاقبة نهجٌ ثابتٌ في التَّعْمِيَةِ على ما تحصل عليه مصر من السودان. وربما دخل هذا في باب “يكاد المُريب أن يقول خذوني”.
مصر تُصَدِّر السمسم!
يقول موقع استاتيستا Statista الإحصائي، (https://shorturl.at/Vr5ih)، أنه اعتبارًا من عام 2021، أصبح السودان هو المنتج الرئيسي لبذور السمسم في أفريقيا. أنتج السودان من بذور السمسم ما يزيد عن 11.19 مليون طنا متريا . وتلي السودان في ذلك تنزانيا ونيجيريا بكمية إنتاج بلغت 700 ألف طنا متريا . (راجع موقعStatista على الرابط: (https://shorturl.at/zoHMT. ولنلاحظ هنا الفرق بين السودان وبين ثاني أكبر المنتجين في إفريقيا، وهما نيجيريا وتنزانيا اللتان تنتجان أقل من مليون طنا متري، في حين ينتج السودان أكثر من 11 مليون طن متري. أما مصر فقد جاءت القطر رقم 15 في إنتاج السمسم في إفريقيا، بإنتاجٍ لا يتعدى 45 طنا في السنة، في حين أن إنتاج السودان من السمسم يتعدى 11 مليون طنا. ومع ذلك تصدر مصر السمسم إلى العالم. ويقول موقع تنمية الصادرات المصرية EDA، إن شركة ليجند انترناشونال Legend International Company تستطيع تصدير 100,000 طن من السمسم شهريًا لمن يطلبها. (أنظر موقع هيئة تنمية الصادرات المصرية على الرابط: https://shorturl.at/S5BA1. ويعني هذا أن هذه الشركة تستطيع توفير أكثر من مليون طن من السمسم سنويًّا للمستوردين. فكيف يحدث هذا وإنتاج مصر من السمسم لا يتعدى 45 ألف طنا في العام؟
المعروف أن إنتاج السمسم يكثر في المنطقة المدارية، وأكثر منتجيه في العالم هي دول ميانمار والصين والهند والسودان وتنزانيا ونيجريا وإثيوبيا. يقول موقع تنمية الصادرات المصرية EDA، الذي أشرنا إليه سابقًا، أن شركة أخرى اسمها “ميزا فودز” Meza Foods المصرية، تصدِّر بذور السمسم الذهبي ذات الجودة العالية من مصر إلى الأسواق الخارجية بأسعار تنافسية، وأن في وسعها توفير 100 طنا في اليوم. ففي حين يتحدث موقع تنمية الصادرات المصرية عن هذه المقادير الضخمة التي تقوم هذه الشركة المصرية وحدها بتصديرها إلى الخارج من حبوب السمسم، نجد أن موقع الشروق قد أورد في الأربعاء 3 مايو 2023، ما يفيد بأن مصر غير مكتفية أصلاُ من محصول السمسم، ذاكرًا أنها تستورده بكمياتٍ كبيرة. ويقول الموقع في ذلك، إن واردات مصر من السمسم ارتفعت بنسبة 70.3% لتسجل 9.5 مليون دولارًا خلال شهر فبراير 2023، مقابل 5.6 مليون دولارا خلال نفس شهر فبراير من العام السابق 2022. (راجع: موقع “بوابة الشروق” على الرابط: https://tinyurl.com/mrpckwad). ولابد من الملاحظة هنا أن زيادة الاستيراد قد حدثت بعد عامين من الانقلاب الذي نفذه الفريق البرهان على حكومة الثورة التي ترأس وزارتها عبد الله حمدوك. وغالبًا ما يكون التراجع في واردات السمسم في عام 2022، قد كان نتيجةً لإغلاق ثوار المديرية الشمالية الطريق الرابط بين السودان ومصر.
تقول كاتبة التقرير، أميرة عاصي، إنها استندت على بيانات وردت في نشرة التجارة الخارجية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر. وإن واردات مصر من السمسم قد تراجعت خلال الـ 9 أشهر الأولى من عام 2022، خلال الفترة وهي: (يناير – سبتمبر)، لتبلغ 52.7 مليون دولار، مقابل 64.8 مليون دولار عن نفس الفترة من العام الماضي 2021. أهم ما جاء فيما أوردته الكاتبة أن المساحات المزروعة فى مصر من السمسم تتراوح بين 40-60 ألف فدان سنويًا. (راجع: موقع الشروق على الرابط: (https://shorturl.at/z9nIU). فهذه المساحة المزروعة بالسمسم في مصر لا تساوي 5% من المساحة المزروعة بالسمسم في السودان. وعمومًا فإن ما أقامه الثوار من حواجز على الطريق الرابط بين السودان ومصر في الولاية الشمالية، وما قاموا به من تفتيش للشاحنات المصرية التي تدخل إلى أعمال السودان كشفت أنواعًا مختلفة من المنتجات السودانية التي يجري تهريبها إلى مصر. وقد حدث أن وجدوا سبائك ذهب داخل عبوات الحبوب. وتؤكد مختلف التقارير أن معظم الذهب السوداني الذي يجري إرساله إلى الخارج يذهب عن طريق التهريب. وقد أوردت شبكة “سي إن إن” الأمريكية أن ما يجري تهريبه من إنتاج الذهب السوداني يصل إلى 90%. (راجع: موقع “سي إن، إن”، على الرابط: https://tinyurl.com/aavbhx3s).
مصر تُصدِّر الصمغ العربي!
أورد موقعWorld Integrated Trade Solution ، الذي يُرمز إليه بـ WITS، وموقعه على شبكة الانترنت: https://shorturl.at/dJ51f، إن مصر تُصدِّر صمغًا عربيًا بما يزيد عن مليار دولار سنويا. هذا في حين أن أشجار الهشاب وغيرها من الأشجار من فصيلة أكاشيا التي تنتج الصمغ لا تنبت إلا في الحزام الإفريقي الواقع في المنطقة المدارية في نطاق السافنا الفقيرة. فمن أين لمصر كميات الصمغ التي تصدرها بمليار دولارا سنويا؟ وقد أورد طارق الشيخ الأمين، الذي كان أمينًا عامًا لمجلس الصمغ العربي، حتى مايو/أيار 2022، أن نصيب السودان من تجارة الأصماغ الطبيعية في العالم يتراوح بين 8% و10% على الرغم من أنه ينتج 80% من الإنتاج العالمي. وأضاف قائلاً أننا في السودان: نخسر 90% من القيمة المضافة، فعائد الصادر في أحسن أحواله 120 مليون دولارا ، في الوقت الذي يتضاعف فيه سعر المُنتج بالسوق العالمي خمس مرات. وبطبيعة الحال ليست مصر هي الدولة الوحيدة التي تصدر المنتجات السودانية، فعدد من دول الجوار يجري تهريب المنتجات السودانية إليها. وهذا ما يشير إلى الخلل البنيوي القاتل الذي أحدثة نظام الإخوان المسلمين الكليبتوقراطي في بنية الدولة السودانية. وهذا هو الذي جعل السودان فريسةً سهلةً تتلمَّظ لها شفاه جميع الدول، قويِّها وضعيفِها.
أيضًا، يدخل في تسبيب هذا الانهيار المريع للدولة السودانية وفقدانها السيطرة على مواردها، أصحاب المصالح من الرأسماليين وكبار التجار الذين عُرفوا بانتهاج أسهل السبل لتحقيق الربح. ومن ضمن السبل السهلة لتحقيق الأرباح تصدير الخام بالطرق الرسمية بسبب الفساد والتلاعب بالضوابط، وعن طريق التهريب إلى دول الجوار. فالفساد المؤسسي؛ الذي كانت تمارسه الأحزاب السياسية، والذي تضاعف على أيدي الأنظمة العسكرية، وخاصة النظام اللصوصي الإخواني، هو السبب وراء هذا الهدر الضخم للموارد.
من المهم القول، بعد إيراد تلك الإحصاءات الموجزة التي تشير بوضوح لا لبس فيه، أن مصر تصدِّر منتجاتنا، الإشارة إلى أن مصر لا تفعل شيئًا فيما يخص تصدير منتجاتنا، لا تستطيع الدولة السودانية فعله. فمصر فقط تضع عليها القيمة المضافة التي قد لا تتعدى مجرد الغسل وتبريد ما يحتاج التبريد كاللحوم. إضافةً إلى التغليف الجيد وتقديم العينات المعدة إعدادًا جيدًا التي تنال الموافقة من المستوردين، ثم القدرة على الترويج والتسويق. إلى جانب ذلك، توفير وسائل النقل الجوي والبحري المعدة لمثل هذه الأغراض. ثم يأتي دور المواني الكفؤة، وكل تلك أمورٌ مقدورٌ عليها، بل هي من أوجب واجبات الدولة، لو كانت الدولة في يد حكامٍ وطنيين أوفياء لوطنهم وشعبهم، وليست في قبضة لصوص يدمِّرون منشآت بلادهم ويضعفون قدراتها، ليملأوا حساباتهم الشخصية في البنوك الأجنبية بالدولارات. وقد سبق أن نظَّم البرهان والنظام المصري وتنظيم الإخوان المسلمين ممثلًا في الناظر محمد الأمين ترك، مؤامرة إغلاق ميناء بورتسودان والطريق البري الرابط بينه وبين بقية البلاد لهلهلة حكومة حمدوك وخنقها، ما جعل مصر تفتح موانيها لحركة التصدير والاستيراد السودانية. وقد كسبت مصر من ذلك ماليًّا وسياسيّا.
مصر تعترف بنهب موارد السودان!
قبل 25 يومًا من انقلاب الفريق عبد الفتاح البرهان على حكومة رئيس وزراء الفترة الانتقالية، د. عبد الله حمدوك، كتب د. عبد اللطيف محمد سعيد مقالاً في موقع “النورس نيوز”، سبق أن أشرنا إليه. أورد الكاتب في ذلك المقال جزءًا من كلمةٍ لوزير التجارة والصناعة المصري، الباشمهندس، أحمد سمير صالح جاء فيها، أيضا: “بعون الله تشهد مصر نهضة صناعية وتجارية مطرده أهَّلها لكسب ثقة الأسواق الأوروبية والغربية والعربية، وحتى دول الجوار الافريقي، إذ أنها انتهجت سياسة الدولة الاستراتيجية للصناعات التحويلية. ويقول الوزير المصري، بحمد الله قفز مستوى عدد المصانع في مصر من 320 مصنع في 2016م الي 1200 مصنعَا في عام -2022م. ويشكل هذا التطور نهضةً غير مسبوقةٍ على المستوى العربي والأفريقي، بل على مستوى العالم. وكان ذلك بفضل هذا التطور في كل الصناعات التحويلية من صمغ عربي، وسمسم، وكركدي، وسنمكه، وفول سوداني، وقمح، ودخن، وماريق، وطابت، وقدم الحمام، وغيره من المنتجات الزراعية. وكل هذه المنتجات التي ذكرها الوزير المصري منتجاتٌ سودانية. (راجع: موقع “النورس” على الرابط: https://shorturl.at/lFX9q).
أما على مستوى صناعة المعادن، فيقول وزير التجارة المصري إن الكثير من المعادن السودانية النادرة كالذهب والنحاس والكروم والحديد وغيره ترفد مصانعهم. ويواصل قائلا: “بذلك نخلص إلى تضاعف مستوى العقودات مع الشركات العالمية، حيث تجاوز الستين مليار دولار، لذلك، نحن مهتمون جدًا بمسألة استقرار الأوضاع السياسية في السودان. وندعم الاتفاق الإطاري والتحول المدني الكامل للسلطة، لتستقر الأوضاع، ويستمر تدفق المنتجات السودانية الممتازة. وأيضا تصدير منتجاتنا المصرية إلى السودان الشقيق من سراميك وأسمنت وأدويه ولعب أطفال”. (راجع: موقع النورس على الرابط: https://shorturl.at/lFX9q). غير أن الذي حدث فعلاً أن مصر لم تدعم الاتفاق الإطاري، وإنما عملت بكل مل تملك على نسفه.
للمرء أن يتساءل: أليس من اللافت أن يزداد عدد المصانع في مصر من 320 مصنعًا في عام 2016، إلى 1200 مصنعًا في عام 2022؟ أي، بعد 6 سنوات فقط! واضح من حديث الوزير، أن سبب هذه الزيادة الضخمة في عدد المصانع قد حدثت لاستقبال المواد الخام السودانية التي يتباهى الوزير المصري بجودتها وكأنها من إنتاج بلده، هو وجود الفريق عبد الفتاح البرهان على رأس السلطة في السودان. فهو الذي أتاح هذه الفرصة الكبيرة جدًا لمصر لكي تنهب موارد السودان على هذا النحو العجيب. ويشير هذا أيضًا، إلى سيطرة العسكر على الاقتصاد في السودان، وإدارته بمعزل عن رقابة الدولة، في هذه الفترة الممتدة ما بين 2016 و2023. فالتدفق الخرافي للمواد الخام السودانية إلى مصر ازدادت معدلاته في السنتين الأخيرتين من حكم الرئيس المخلوع عمر البشير، (2016 – 2018). غير أنه تواصل بضخامةٍ أكبر في السنوات الخمس التي تلت ذلك، إبتداءً من ثورة ديسمبر 2018 وإلى عام 2023. وقد كان نتيجةً لسيطرة العسكر على على مقاليد الأمور في السودان، عقب الإطاحة بالرئيس عمر البشير.
لقد عمل الفريق عبد الفتاح البرهان، والتنظيم الإخواني على عرقلة كل محاولات الإصلاح التي حاولت حكومة د. عبد الله حمدوك القيام بها، ومنها تقييد تصدير الخام. فالفريق البرهان قام عقب الانقلاب على حكومة حمدوك في أكتوبر 2021 بوضع يده على شركات المؤسسة العسكرية السودانية، التي أصبحت الأنبوب الذي تشفط عبره مصر موارد السودان الاقتصادية الخام. لتقوم مصر نيابةً عن السودان بوضع القيمة المضافة عليها ومن ثم تصديرها. ويجري هذا عبر اتفاق بين المؤسستين العسكريتين في كل من السودان ومصر، اللتان تعملان باستقلالٍ تامٍّ عن الدولة الأم في كلا البلدين.
مرةً أخرى، وجدت مصر في البرهان أنموذج الحاكم العسكري الذي ظلت تبحث عنه منذ استقلال السودان. فما وجدته في الفترة التي سيطر فيها على مقاليد الأمور من فرصٍ لشفط منتجات السودان وإعادة تصديرها لم تجد ما يماثلها طيلة السبعين عامًا الماضية. لذلك انخرطت مصر بكل الوسائل لهندسة الأحوال السياسية السودانية الداخلية، بما يُبقى البرهان على قمة السلطة في السودان، ولأطول فترةٍ ممكنة. أسهمت مصر، وبقوةٍ، عبر جهاز مخابراتها وسيطرتها على رئيس جهاز المخابرات السوداني السابق صلاح قوش، المقيم في مصر، وعبر اختراقها لجهاز الاستخبارات العسكرية السودانية، في تعطيل ثورة ديسمبر 2018 من بلوغ أهدافها. وقد أعانها في ذلك، أيضًا، ما أبداه الفريق عبد الفتاح البرهان من استعداد لا محدود لخدمة أجندتها في السودان، نظير دعمها له؛ سياسيًّا، ودبلوماسيًّا، وعسكريّا. بسبب كل ذلك، أسهمت مصر بفكرة فض اعتصام القيادة العامة، ليكون على نسق فض اعتصام ميدان رابعة العدوية في مصر، وممارسة أقصى درجات الوحشية فيه بما يُحدث صدمة هائلة، ينتج عنها خضوعًا كاملا. وكذلك عبر تشكيل الحاضنة الشعبية الضرار، من بقايا النظام القديم ومن الكارهين للثورة، وعبر إغلاق الموانئ والطرق السريعة لخنق حكومة عبد الله حمدوك، تمهيدًا للانقلاب عليها. ولا يزال النظام المصري منخرطًا، حتى هذه اللحظة، عبر أذرعه العديدة من السودانيين الذي وضعهم في خدمته في محاولة هندسة الأمور في السودان، والذهاب بعامل الحرب نحو حلٍّ يبقي على الفريق البرهان مسيطرًا على الأمور في السودان تحت مظلة ما يسمى “الحوار السوداني السوداني”. لتتشكل دائرة ديكورية من السياسيين المعروفين بالارتشاء من سدنة النظام القديم، ومن أصحاب المصالح تقدم السند السياسي للفريق البرهان، للزعم أن بقاءه في السلطة خيارٌ شعبيٌّ محض.
(يتواصل)
الوسومالمصرية الهيمنة د. النور حمد على طريق الإنعتاقالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: المصرية الهيمنة د النور حمد على طريق الإنعتاق
إقرأ أيضاً:
???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
( عميد التَنوير ، نِحرِير النبوءاتِ العَتيقة )
في أعمق لحظاتي مع نفسي صدقاً ، لا أراني أعظَمُ مَيلاً للحديث عن الشخصيات، إن تكرَّمَت وأسعفَتني الذاكرة ، فقد كتبتُ قبل عن فيلسوفِ الغناء مصطفى سيد أحمد ، والموسيقار الكابلي ، والمشير البشير ، وشاعر افريقيا الثائر ؛ الفيتوري .
لا أجدُني مضطراً لمدح الرّجال ، ولكنها إحدى لحظات الإنصاف ، ومن حسن أخلاق الرجال أن ينصفوا أعداءهم، دعك من أبناء جلدتهم ونبلائها ، والرجلُ ليس من قومنا فحسب، بل هو شريف قوم وخادمهم ، خطابه الجَسور يهبط حاملاً “خطاب” ابن يعمر الإيادي لقومه ، وخطبة درويش “الهندي الأحمر” ، و”بائية” أبي تمّام ، وتراجيديا الفيتوري في “التراب المقدّس” ..
عبد الرحمن ، لم يكن حالة مثقفٍ عادي ، “عمسيب” مثالٌ للمثقف العضوي قويّ الشَّكِيمَة ، العاملِ علَى المقاومة والتغيير والتحذير ، المحاربِ في ميادين التفاهة والتغييب والتخدير ، المتمرّد على طبقته ، رائد التنوير في قومه ، ظلّ يؤسس معرفياً وبأفقٍ عَالمٍ لنظرية اجتماعية ، نظرية ربما لم تُطرح في السوح الثقافية والاجتماعية من قبل ، أو لربما نوقشت على استحياء في همهمات أحاديث المدينة أو طُرحَت في ظلام الخرطوم عَهداً ثم غابت . هذا الرجل امتلك من الجسارة والثقافة العميقة بتفاصيل الأشياء وخباياها ، ما جعله يُقدم على تحطيم الأصنام السياسية والثوابت الاجتماعية وينفض الغبارَ عن المسكوت عنه في الثقافة والاجتماع والسياسة.
عمسيب قدم نظريةً للتحليل الاجتماعي والسياسي ، يمكن تسميتها بنظرية ( عوامل الاجتماع السياسي) أو نظرية ( النهر والبحر) في الحالة السودانية ، فحواها أن الاجتماع البشري يقوم على أسس راسخة وليس على أحداث عابرة . فالاجتماع البشري ظلّ منذ القدم حول ( القبيلة Tribe ) ثم ( القوم Nation ) ثم ( الوطن Home) ثم ( الدولة country) . هذا التسلسل ليس اجتماعيٌ فحسب، بل تاريخيٌ أيضاً ، أي أن مراحل التحَولات العظيمة في بِنية المجتمعات لا يصح أن تقفز فوق الحقب الاجتماعية ( حرق المراحل).. فالمجتمعات القَبَلية لا يمكنها انتاج (دولة) ما لم تتحول إلى (قومية) ، ثم تُنتج (وطن) الذي يسع عدد من القوميات ، ثم (دولة) التي تخضع لها هذه القوميات على الوطن ، مع تعاقد هذه القوميات اجتماعيا على مبادئَ مشتركة، وقيمٍ مضافة ، كالأمن والتبادل الاقتصادي وادارة الموارد ، والحريات الثقافية ونظام الحكم .
هذه النظرية تشير إلى أن الاجتماع السياسي في السودان ظل في مساره الطبيعي لمراحل التسلسل التاريخي للمجتمعات والكيانات ، إلى أن جاءت لحظة ( الاستعمار) Colonization . ما فعله الاستعمار حقيقة ، أنه وبدون وعي كامل منه ، حرق هذه المراحل – قسراً – وحوّل مجتمعات ما قبل الدولة ( مجتمعات ما قبل رأسمالية) إلى مجتمعات تخضع للدولة.
فالمجتمعات التي كانت في مرحلة ( القبيلة) او تلكَ في مرحلة( القومية) قام بتحطيم بنيتها وتمحوراتها الطبيعيه وتحويلها إلى النموذج الرأسمالي الغربي ، خضوع قسري لمؤسسات الدولة الحديثة، مجتمع ما بعد استعماري ، تفتيت لمفاهيم الولاءات القديمة الراسخة ، بل وتغييرها إلى نظم شبه ديموقراطية، وهذا بالطبع لم يفلح، فبعد أن حطّم المستعمر ممالك الشايقية ودولة سنار ومشيخات العرب بكردفان ومملكة الفور ، وضم كل ذلك النسق الاجتماعي ( القبلي / القومي) إلى نسق الوطن/ الدولة.. أنتج ذلك نخب وجماعات سياسية ( ما بعد كولونيالية ) تعيش داخل الدولة ، لكنها تدير الدولة باللاوعي الجمعي المتشبّع بالأنساق التقليدية ( القبيلة / الطائفة / القومية) ، أي مراحل ماقبل الوطن والدولة.
ما نتج عن كل هذه العواصف السياسية والاجتماعية ، والاضطرابات الثقافية، أن هذه المجتمعات والقوميات التي وجدت نفسها فجأة مع بعضها في نسق جديد غير معتاد يسمى ( الدولة) ، وأقصدة بعبارة ( وجدت نفسها فجأة) أي أن هذا الاجتماعي البشري في الاطار السياسي لم يتأتَ عبر التمرحلات الطبيعيه الانسانية المتدرجة للمجتمعات، لذا برزت العوامل النفسية والتباينات الثقافية الحادة ، الشيئ الذي جعل الحرب تبدأ في السودان بتمرد 1955 حتى قبل اعلان استقلاله . ذات الحرب وعواملها الموضوعيه ومآلاتها هي ذات الحرب التي انطلقت في 2002 ثم الحرب الأعظم في تاريخنا 2023 .
أمر آخر شديد الأهمية، أن دكتور عبد الرحمن ألقى حجرا في بركة ساكنة، وطرق أمراً من المسكوت عنه ، وهو ظاهرة الهجرات الواسعة لقوميات وسط وغرب افريقيا عبر السبعين عاما الماضية ( على الأقل) , فظاهرة اللجوء والهجرات الكبيرة لقبائل كاملة من مواطنها لأسباب التصحر وموجات الجفاف التي ضربت السهل الافريقي، ألقت بملايين البشر داخل جغرافيا السودان، مما يعني بالضرورة المزيد من المنافسة العنيفة على الأرض والموارد وبالتالي اشتداد الحروب والصراعات بالغة العنف، وانتقال هذا التهديد الاستراتيجي إلى مناطق ومجتمعات وسط وشمال السودان ( السودان النّهري)
اذن ، سادتي ، فنظرية (الاجتماع السياسي ، جدلية الهوية والتاريخ ) هذه تؤسس لطرائق موضوعيه ( غير منحازة) لتفسير الظواهر الاجتماعية والثقافية وجدليات الحرب والسلام ، وتوضّح أسباب ظاهرة تعدد الجيوش والميليشيات القبلية والمناطقية والخطابات المؤسسة ديموغرافياً ، وما ينسجم معها من تراكمات تاريخيه وتصدّعات اجتماعية عميقة في وجدان تلك الجماعات العازية .. التوصيات البديهية لهذا الخطاب ، أن الحلّ الجذري لإشكاليات الصراع في السودان هو بحلّ جذور أزمة الهوية، والهوية نفسها لم تكن ( أزمة) قبل لحظة الاستعمار الأولى ، بالتالي تأسيس كيانات جديدة حقيقية تعبّر عن هويات أصحابها والعقد الاجتماعي المنعقد بين مجتمعاتها وقومياتها .
النظرية التي أطلق تأسيسها دكتور عبد الرحمن، لم تطرح فقط الأسئلة الحرجة ، بل قدمت الإجابات الجسورة وطرقت بجراءة الأبواب المرعبة في سوح الثقافة والاجتماع والسياسة في السودان.
Mujtabā Lāzim
إنضم لقناة النيلين على واتساب