سودانايل:
2025-04-13@09:40:50 GMT

مناوي يشدد على ضرورة مقاومة دعوات انفصال دارفور

تاريخ النشر: 16th, March 2025 GMT

بورتسودان: السوداني/ نفى حاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي، وجود أي تجنيد من قِبل حركات الكفاح المسلح في أي منطقة في السودان، ووصف الحديث حول الأمر بالترويج من قبل المليشيا المتمردة وداعميها، ودعا الجميع إلى العمل للدفاع عن السودان الذي يتعرّض للاستباحة من قبل المليشيا المتمردة.

وأضاف خلال اللقاء الصحفي بمنزله، أنّ حكومة إقليم دارفور هي جزء من حكومة السودان وتعمل ضمن خطة الدولة في تأمين البلاد.



وشدد مناوي على ضرورة مقاومة دعوات انفصال دارفور التي يُروِّج لها البعض، مشيراً إلى أن اتفاق جوبا أوقف الحرب بدارفور في وقتها وحفظ البلاد، وأضاف أن اتفاق جوبا هو إضافة حقيقية للقوات المسلحة في معركة الكرامة، حيث دافعت عن البلاد عامّة، لأنها تؤمن بوحدة السودان أرضاً وشعباً.

وأشار إلى أن الهدف الأول والأخير هو تحرير السودان من دنس المليشيا المتمردة وداعميها.  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

حميدتي.. قصة صعود رجل الجن والإبل

حين احتشد السودانيون في العاصمة الخرطوم مطالبين بالإطاحة بالرئيس عمر البشير ونظامه نهاية عام 2018، كان الرجل الأربعيني الذي يعتبره البشير أحد حماة النظام يعاير حساباته بدقة. كان حميدتي واحدا من أولئك المنحدرين من أطراف السودان التي توصف في أدبيات الصراع بالمهمشة  لكنه وجد ضالته في التحالف مع المركز وممارسة القمع نيابة عنه في الأطراف وفي مقدمتها إقليم دارفور.

لكن الانتفاضة ضد البشير كانت بمثابة لحظة وحدة نادرة هتف خلال الجميع ضد النظام بشعار "كلنا دارفور" فيما بدا وكأنه تمرد على التقسيم الضمني التقليدي بين الحواضر المركزية والأطراف المهمشة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2النظرية خضراء والتجربة رمادية.. لماذا تعثر الإسلاميون في السودان؟list 2 of 2ماذا فعل عبد الله حمدوك بنفسه وبالسودان؟end of list

أغرت نشوة الثورة أهالي دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق لدعم الحركة الاحتجاجية، ولتذكير الحشود في الخرطوم أيضًا بالأهوال التي واجهوها. وبالتزامن مع ذلك احتشدت مجموعة أخرى من سكان دارفور في شوارع العاصمة في نفس الوقت تقريبًا هي قوات الدعم السريع حاملة إرث ميليشيا الجنجويد التي كانت مسؤولة عن معظم أعمال العنف في دارفور وضواحيها.

ولكن في هذه المرة قرر رجال حميدتي دعم الاحتجاجات ضمنيا وتنكروا لأوامر البشير لإخماد المظاهرات ما أكسبه شعبية في العاصمة لا تتناسب مع إرثه الدموي، غير أن أولئك القادمين من دارفور والمناطق الأخرى التي مزقتها الحرب ظلوا حذرين تجاه نوايا الرجل الذي يعرفونه أكثر من غيرهم.

إعلان

تبدأ قصتنا إذن من الهامش وليس من المركز المتهم باحتكار المنعة والسيطرة، من إقليم دارفور الممتد غربي السودان على مساحة شاسعة تعادل خمس مساحة البلاد، وتناهز مساحة فرنسا بالكامل تقريبا.

يتسم الإقليم بتنوع واسع في المناخ والتضاريس، فمن الجنوب حيث الأمطار الغزيرة تنتشر السافانا الغنية، بينما تقل كثافتها في الوسط مفسحة المجال لهضبة مبسوطة تحيط بها الجبال، أما الشمال، فتشغله صحراء شاسعة مترامية الأطراف. وفيما وراء كل ذلك تقبع الموارد الطبيعية الوفيرة، يحوطها موقع جيوسياسي متميز يتغذى بتاريخ سياسي يعود إلى ما قبل نشأة السودان الحديث، إذ تأسست سلطنة دارفور الإسلامية عام 1596، ما جعل الإقليم كيانا سياسيا مستقلا لعقود طويلة.

خريطة السودان ويظهر عليها إقليم دارفور المحاذي لتشاد (الجزيرة)

في تلك المنطقة الغنية جغرافيا وتاريخيا، استوطنت قبائل عربية رحّالة امتهنت رعي الإبل، عُرفوا بـ "الأبالة"، وتنقلوا بحرية بين السودان وتشاد قبل ترسيم الحدود بين البلدين. وقد ساهمت موجات الجفاف والصراعات، لا سيما في تشاد بين الستينيات والثمانينيات، إلى دفع العديد من هذه القبائل إلى النزوح نحو السودان، ومن بينها عشيرة "أولاد منصور"، التي تنتمي إلى فرع "الماهرية" من قبيلة "الرزيقات" إحدى أعرق قبائل المنطقة، وأكثرها مكانة وتجذرا.

كان "دقلو" الأب زعيم هذه العشيرة في تشاد، وخلفه ابنه "جمعة"، الذي قاد "أولاد منصور" خلال رحلة النزوح إلى شمال دارفور في أواخر الثمانينات، إلا أن سلطات الإقليم لم تعترف بزعامته، مما دفع العشيرة إلى البحث عن موطئ قدم في الجنوب، حيث لاقت ترحيبًا من السلطات المحلية، واستقر بهم المقام في منطقة كانت تابعة لقبيلة الفور وأعادوا تسمية الموقع من "دوغي" (بلغة الفور) إلى "أم القرى".

وفي منتصف السبعينيات رُزق "حمدان"، شقيق جمعة دقلو، بابنه محمد، الذي أطلقت عليه والدته لقب "حميدتي"، أي "محمد الصغير".

إعلان

لم يُكمل "حميدتي " تعليمه، إذ انقطع عن الدراسة في الصف الثالث الابتدائي ليمتهن النشاط التقليدي لعشيرته: رعي الإبل والتجارة على امتداد الحدود بين السودان وتشاد وليبيا. لاحقًا، وسّع أعماله لتشمل تجارة الأثاث والتحف، وامتلك متجرًا كبيرًا في نيالا، حاضرة جنوب دارفور. وربما كانت قصة حميدتي لتنتهي هناك – منقطعًا عن الدراسة، رحّالًا، تاجر إبل، ورجل أعمال صغير- لولا أن اندلاع التمرد في دارفور قلب مساره رأسًا على عقب، بل وربما أعاد رسم معالم المشهد الجيوسياسي في السودان والمنطقة بأكملها.

حميدتي.. من دروب الصحراء إلى معسكرات الجنجويد

منذ استقلال السودان عام 1956، كانت البلاد مسرحا لصراعات داخلية ممتدة، شملت عقودا من الحروب الأهلية المتتالية وزهاء 20 محاولة انقلابية منها 3 انقلابات كبرى ناجحة (1958 و1969 و1989) وثورتين شعبيتين في عامي 1964 و1985 أطاحتا بحكومتي الرئيسين إبراهيم عبود وجعفر نميري على التوالي، بخلاف انتفاضة عام 2019 التي انتهت بإطاحة الجيش بالرئيس عمر البشير.

وقد لجأت الحكومات السودانية المتعاقبة، بدءاً من عهد النميري، إلي تسليح القبائل واستخدامها للقتال بالوكالة، لمواجهة حركات التمرد المسلحة في الأطراف التي رفعت شعارات المساواة في التنمية والمشاركة في السلطة.

لتحقيق ذلك، تبنت الدولة خطابًا اعتبر تحريضيًا يقوم على إذكاء العداءات التاريخية بين القبائل، وهي في الأساس صراعات على الموارد مثل الأراضي الزراعية والمراعي، وقد منحت هذه الميليشيات القبلية الحكومة ميزة لا يمتلكها الجيش الرسمي، إذ كانت أكثر دراية بجغرافيا الإقليم، وأكثر قدرة على تبني تكتيكات حروب العصابات التي تستخدمها الحركات المسلحة، باستخدام السيارات المسلحة رباعية الدفع مقابل الجيش الذي ينتهج الخطط العسكرية المتأنية القائمة على الترابية بما لا يساعد في المناورة السريعة في أرض المعركة والتصدي لتلك الحركات.

إعلان

ظهر أول نموذج لهذه الميليشيات في عهد نميري، عندما استعان بـ "القوات القبلية الصديقة" لمواجهة التمرد في جنوب السودان بقيادة العقيد اليساري جون قرنق، ثم واصل الصادق المهدي النهج ذاته في الثمانينيات عبر تأسيس ميليشيا "المراحيل"، قبل أن يتبنى نظام الإنقاذ هندسة مقاربة أكثر تنظيما للفكرة ذاتها بإنشاء "قوات الدفاع الشعبي" عام 1989.

جعفر النميري هو الرئيس الرابع للسودان خلال الفترة من 25 مايو/أيار 1969 إلى 6 أبريل/نيسان 1985. (غيتي)

سار البشير على نفس الاستراتيجيات السابقة التي انتهجها سابقوه لمواجهة التمرد وكان ميدان المواجهة الرئيسي هذه المرة هو دارفور، بيد أنه لم يتوقع ربما أن النار التي أشعلها هناك في أقصى الغرب ستقضي على نظامه يومًا ما في الخرطوم.

كانت البداية عام 2003 عندما أعلنت حركتان مسلحتان، هما حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة، وكانتا تتكونان من جماعات زراعية تعود جذورها إلى قبائل افريقية أبرزها الزغاوة والفور تمردهما على السلطة المركزية في الخرطوم، متهمتين إياها بتهميش الإقليم الغربي تنمويا وسياسيا.

وسرعان ما أربك التمرد الجديد خطط حكومة البشير التي كانت قد أحرزت آنذاك تقدمًا كبيرًا في مفاوضاتها مع حركة جون قرنق في الجنوب، والتي تُوّجت لاحقًا باتفاق سلام في مطلع 2005، مهّد لانفصال جنوب السودان في يوليو/ تموز 2011 بموجب استفتاء شعبي منصوص عليه في الاتفاقية.

سرعان ما تصدرت أخبار الحرب في دارفور وسائل الإعلام العالمية، غير أن الخرطوم اتهمت واشنطن بالمبالغة في توصيف الصراع للتغطية على غزوها أفغانستان والعراق.

وفي غضون فترة قصيرة تمكنت الحركات المسلحة من توجيه ضربات قاسية للحكومة، أبرزها هجوم عنيف على مطار الفاشر ما دفع البشير للجوء إلى الزعيم القبلي موسى هلال من فرع المحاميد بقبيلة الرزيقات، التي قاتلت مع الحكومة أثناء الحرب الأهلية في الجنوب (1983-2005).

إعلان

وهكذا، تأسست مليشيا "الجنجويد" -والتي تعني "الجن على ظهر الخيل" كناية عن الإقدام- بزعامة هلال، للقتال في دارفور نيابة عن الحكومة والبشير، فيما تولى مكتب استخبارات حرس الحدود الإشراف عليها وتنظيمها.

موسى هلال كان من مؤسسي قوات الجنجويد (الجزيرة)

تشكلت نواة الجنجويد من شباب القبائل العربية، لا سيما المحاميد والماهرية من قبيلة الرزيقات إضافة إلى مهاجرين تشاديين، وكان بعض منسوبيها من "المتمردين السابقين". وكان من أبرز المنضمين إلى صفوف ميليشيات موسى هلال أولاد عمومتة من عشيرة أولاد منصور ومنهم حميدتي الذي تتضارب المعلومات حول طريقة انضمامه إلى الجنجويد بين روايتين مختلفتين.

الرواية الأكثر شيوعا هي أنه اضطر إلى حمل السلاح في صراع دارفور والانضمام للجنجويد عندما هاجم مسلحون إحدى قوافله التجارية، وقتلوا 60 من أفراد عائلته ونهبوا جماله.

أما الرواية الثانية، فقد نشرتها صحيفة التلغراف البريطانية عام 2019 في تحقيق لكبير مراسليها الأجانب رولاند أوليفانت، نقلاً عن أحد ضباط جهاز الأمن والمخابرات الذي كان مشاركًا بنفسه في الأحداث كما تقول الصحيفة.

وفقًا للضابط المذكور، كان حميدتي زعيمًا لعصابة تهاجم القوافل التجارية في صحراء دارفور لنهب الوقود وبيعه للمتمردين، إلى أن اعتُقل بواسطة جهاز الأمن والمخابرات وبمشاركة الضابط نفسه.

تعرض حميدتي للتعذيب أثناء اعتقاله بعد أن حاولت عصابته تهريبه من السجن، لكن بعد فترة وجيزة، تفاجأ الضابط عند استدعائه إلى الخرطوم بأن أسيرهم السابق قد أُطلق سراحه، ومنح زي جهاز الأمن والمخابرات، وأُقنع بقيادة عصابته ضد المتمردين.

وقد أشارت الصحفية والكاتبة السودانية نسرين مالك في تحقيق نشرته بصحيفة الغارديان عام 2023 إلى رواية مشابهة لذلك عن حميدتي، استنادًا إلى مصادر عايشت تلك الفترة.

إعلان

استمرت ما باتت تُعرف بـ"حرب دارفور الأولى" حتى عام 2008 وأدت إلى تدمير المنطقة تماما وعانى على إثر ذلك سكان دارفور المدنيون معاناةً بالغة طوال فترة الصراع، إذ قُدّرت أعداد القتلى بأكثر من 300 ألف شخص وفقًا للأمم المتحدة، نتيجةً للعنف، أو الأمراض، أو المجاعة أو الجفاف الناجم عن الحرب، فيما شُرّد نحو 3 ملايين داخل السودان وخارجه.

واتُّهم مسؤولون حكوميون وقادة الجنجويد بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب في دارفور، وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق الرئيس البشير في عامي 2009 و2010 على خلفيّة أحداث دارفور، لكنها لم تُنفّذ حتى الآن.

خلال تلك الحرب المدمرة سطع نجم حميدتي وبرز مقاتلا شرسا. على سبيل المثال في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2004، قاد هجوما منسقا تديره الدولة باستخدام الجنجويد والجيش ضد قرية "عدوة" في ولاية جنوب دارفور، مما أسفر عن مقتل 126 شخصًا، ووفقًا لشهود عيان لمجلة فورين بوليسي، قاد حميدتي مئات الرجال في غارة على منطقة شمال دارفور التي يسيطر عليها المتمردون، حيث دهس الجنجويد مدنيين بشاحناتهم الصغيرة واغتصبوا النساء لدرجة أن أساليبه العنيفة خلقت توترات مع ضباط الجيش المرافقين له.

وأكسبت التأثيرات الميدانية التي خلفها حميدتي ومقاتلوه في قمع التمرد على الأرض ثقة هلال والبشير ليصبح أحد أمراء الحرب المرموقين في الجنجويد منذ عام 2006 وما بعدها.

حميدتي.. من التمرد إلى الدعم السريع

في غضون ذلك بدأ حميدتي يشعر أنه يستحق موقعا أفضل في هياكل النفوذ والسلطة في السودان، لذا فقد شرع عام 2007 في تمرد ضد الحكومة، وهو ما وثّقه تحقيق ميداني مصور لشبكة سي إن إن بعنوان "في حضرة الجنجويد" أو "Meet the Janjaweed"، حيث ظهرت المذيعة نعمة الباقر لأول مرة في معسكرات الجنجويد ومخيمات النزوح في دارفور.

ظهر حميدتي في الفيلم قائلًا إن الحكومة، وعلى رأسها البشير، جندته لقتال المتمردين وزودته بالسلاح، مشيرًا إلى أن رجاله بريئون من الجرائم التي وثقتها التقارير الأممية، كما ظهر في الوثائقي شقيقه عبد الرحيم دقلو متحدثًا عن خيانة الحكومة لهم.

إعلان

ووفقًا للباحث والمؤلف جيروم توبيانا الذي نشر تقريرا عن حميدتي في مجلة فورين بوليسي، فإن السبب الحقيقي لتمرد دقلو هو اتفاق سري أُبرم مع وزير الدفاع التشادي بشارة عيسى جاد الله، وهو قريب لحميدتي، نص على امتناع الأخير عن قتال الحركات المتمردة في دارفور في سياق التوترات بين حكومتي البشير في السودان وإدريس ديبي في تشاد.

بعد تمرد استمر ستة أشهر قاتل خلالها حميدتي الحكومة وأسقط مروحية عسكرية للجيش، جرت تسوية الوضع معه، حيث عُيّن مستشاراً في لجنة أمن ولاية جنوب دارفور في نيالا ومنح مبلغًا ماليًا مجزيًا، كما دُفعت رواتب جنوده المتأخرة.

في لقائه مع جيروم توبيانا في تحقيق فورين بوليسي  قال حميدتي "لم نصبح متمردين حقًا. أردنا فقط لفت انتباه الحكومة، وإخبارهم أننا هنا، من أجل الحصول على حقوقنا: الرتب العسكرية، والمناصب السياسية، والتنمية في منطقتنا".

بحلول عام 2008 انتهت عملياً حرب دارفور الاولى تحت وطأة الضغط الدولي علي حكومة البشير خاصة مع تصاعد توثيق الفظائع المرتكبة في الإقليم، ما اضطرها  لقبول نشر بعثة حفظ سلام مشتركة بين الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة  وبالتالي لم يعد استمرار الجنجويد في دارفور ممكنا.

وقتها جرى استدعاء هلال وحميدتي إلى الخرطوم للمكافاة، حيث عُيّن الأول مستشارًا للبشير، بينما مُنح حميدتي الذي لم يكمل تعليمه الأساسي رتبة "عميد".

تزامنا مع تلك "الترقية" أوكل نظام البشير إلى حميدتي قيادة مجموعة من الميليشيات لاستكمال العمليات ضد التمرد ولكن هذه المرة عبر الأراضي التشادية، حيث كُلّف بالقتال ضد نظام الرئيس إدريس ديبي الذي كانت الخرطوم تتهمه بدعم المتمردين في دارفور.

ومع نهاية عام 2009، بدا أن خطة الخرطوم قد نجحت، إذ تحسنت علاقتها مع إنجمينا بتوقيع اتفاق يمنع أي طرف من دعم المتمردين ضد الطرف الآخر.

إعلان

وفي عام 2011 تم توقيع اتفاق سلام في الدوحة بين الحكومة وأبرز الحركات المتمردة في دارفور برعاية الأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي.

بعد أدائه الاستثنائي في دارفور وإنجمينا أصبح محمد حمدان دقلو شخصية موثوقة لدى الخرطوم، لكن مليشيا الجنجويد كانت قد اكتسبت سمعة سيئة، وأصبح مجرد ذكر اسمها وصمة عار لكل قياداتها السابقة.

في تصريح لصحيفة "نيويورك تايمز"، عبّر حميدتي عن استيائه من وصف قواته بالجنجويد قائلًا "الجنجويد يعني قطاع طرق ينهبونك على الطريق. إنها مجرد دعاية من المعارضة". وفي إطار سعيها للتخلص من هذا الإرث، أصدرت حكومة البشير قانونًا في 2013 يقضي بإنشاء "قوات الدعم السريع" كجزء من جهاز الأمن والمخابرات الوطني.

بموجب هذا القرار، تحولت مليشيات الجنجويد رسميًا إلى قوات الدعم السريع في محاولة للتخلص من إرث الميليشيا المرعب.

تولى حميدتي قيادة القوة الجديدة بعد أن منح رتبة جنرال رغم عدم مروره عبر الكلية الحربية، في المقابل جرى تهميش موسى هلال في موقعه كمستشار للبشير.

وفي غضون فترة قصيرة تحول الدعم السريع إلى قوة لا يُستهان بها، مزوّدة بأسطول من سيارات الدفع الرباعي الصغيرة المحملة بالرشاشات الثقيلة وامتدت مهامها إلى محاربة التمرد وأي تهديدات للنظام ليس فقط في دارفور، بل أيضًا في جنوب كردفان والنيل الأزرق وحتى في العاصمة الخرطوم حيث استُخدمت في قمع الاحتجاجات.

وخلال انتفاضة سبتمبر/ أيلول 2013، اتُهمت قوات الدعم السريع بقتل 185 متظاهرًا أثناء احتجاجهم على سياسات التقشف التي أقرها البشير حينها.

بحلول 2012، جرت تحضيرات لإعادة إرسال قوات الدعم السريع إلى دارفور باسمها الجديد، ولكن بنفس تكتيكاتها الوحشية.

بدأت طبول الحرب تُقرع مجددًا في الإقليم بعد أقل من عامين على اتفاق سلام الدوحة، وبعد عقد على اندلاع الحرب الأولى، مدفوعة باكتشافات الذهب الهائلة في جبل بني عامر ومناطق أخرى في الإقليم.

إعلان

رأت الخرطوم في هذا الذهب تعويضًا عن خسائر النفط الحاصلة إثر انفصال الجنوب، لكن سيطرتها عليه لم تكن مضمونة، إذ أظهرت القبائل المحلية مقاومة، بينما بدأ موسى هلال، الذي شعر بالتهميش، في بناء قوة جديدة تحت مسمى "مجلس الصحوة الثوري"، وفرض سيطرته على بعض المناجم تزامن ذلك مع تصاعد عمليات "الجبهة الثورية" وهو تحالف واسع  للحركات المسلحة المعارضة للبشير والتي تمكنت في 2013 من السيطرة على مدينة "أبو كرشولا" بجنوب كردفان.

هنا، دخلت قوات الدعم السريع المشهد رسميا بعد حصولها على بطاقات هوية من جهاز الأمن والمخابرات الوطني، ما منح أفرادها حصانة قانونية بالتزامن مع اكتسابها صفة "قوة نظامية".

بالتوازي مع ذلك، وسّع حميدتي قواته بضم مقاتلين من قبائل أخرى، إضافة إلى عناصر أجنبية، وبحلول فبراير/ شباط 2014، وصل تعدادها إلى 6000 مقاتل مزودين بـ 750 مركبة. وفي ديسمبر/ كانون الأول 2014، أعلن البشير الحرب على "التمرد" في دارفور مجددا بشكل رسمي مع تحييد دور البعثة المشتركة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور (يوناميد)، لتبدأ "حرب دارفور الثانية" بقيادة حميدتي، الذي شنّ خلالها حملتي "الصيف الحاسم 1 و2" بين عامي 2014 – 2015.

في عام 2013 أصدرت حكومة البشير قانونًا يقضي بإنشاء "قوات الدعم السريع" كجزء من جهاز الأمن والمخابرات الوطني.  (مواقع التواصل)

وثّقت منظمات دولية، أبرزها "هيومن رايتس ووتش" في تقريرها تحت عنوان "رجال بلا رحمة" جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبتها قوات الدعم السريع خلال العمليتين، تضمنت القتل الجماعي، والاغتصاب، والتعذيب، والتهجير القسري، ونهب الممتلكات.

كما كشفت منظمة العفو الدولية في تقريرها "أرض محروقة وهواء مسموم" عن استخدام أسلحة كيميائية في هجوم جبل مرة 2016 الذي نفذته قوات حميدتي مدعومة بالقوات المسلحة السودانية، مستهدفةً الجماعات غير العربية، وخاصة قبيلة الفور، فيما وصفته بأنه "إبادة جماعية".

إعلان

إضافة إلى ذلك، نشر الباحث إريك ريفز دراستين حول تغيير التركيبة السكانية في دارفور وجرائم الاغتصاب الممنهجة، تضمنت أرشيفًا موسعًا لحوادث العنف العرقي، التي قُدرت بنحو ألف حادثة، وشملت القتل، والتهجير القسري، وتدمير القرى.

وبالتزامن مع هذا الدمار الموسع، استفاد حميدتي من الحرب ترسيخا لنفوذه وسلطته بعدما أفضت إلى إزاحة موسى هلال، الذي اعتُقل في عام 2017 بمساعدة حميدتي، وزُجّ به في السجن بالخرطوم، مما كرّس صعود الأخير كأقوى قائد عسكري خارج المؤسسة الرسمية.

حميدتي.. بين الثروة والسلطة

مع نهاية حرب دارفور الثانية أصبح حميدتي وقوات الدعم السريع رقما صعبا لا غنى عنه في دولة البشير الذي أصدر قانونا عام 2017 ضم بموجبه قوات الدعم السريع لتصبح جزءا من القوات المسلحة تابعة مباشرة لسلطة الرئيس (البشير)، بهدف أساسي هو حماية نظامه من المتمردين، إضافة إلى الخصوم المحتملين سواء من الجيش أو قطاع الأمن.

وقد جرى إصدار هذا القانون للالتفاف على رفض قيادات الجيش لممارسات ونفوذ الدعم السريع، كما رُقي بموجبه حميدتي مجددا إلى رتبة فريق، ومنحت قواته تواجدا رسميا في العاصمة الخرطوم وباقي مدن السودان لحماية النظام، إلى جانب تسليحها بأسلحة ثقيلة. وتوثقت مع ذلك علاقة البشير بحميدتي وكأنه ابنه الذي لم يلده حتى أطلق عليه لقب "حمايتي" حسب بعض الروايات.

غير أن النفوذ الذي حصل عليه حميدتي لم يقتصر على القوة العسكرية، لكنه جاوزها إلى بناء إمبراطورية اقتصادية انطلاقًا من سيطرته على مناجم الذهب في جبل عامر، التي كانت السبب الرئيسي في اندلاع حرب دارفور الثانية.

بادئ ذي بدء، تشير وثائق مسربة إلى أن قوات الدعم السريع تمتعت باستقلال مالي عن الدولة، حيث امتلكت حسابات مصرفية خاصة باسمها، لكن رأس حربة الإمبراطورية الاقتصادية لحميدتي وعائلته هي شركة "الجنيد"، التي سُميت تيمنا بجدّ قبيلة الرزيقات، ويمتلكها رسميا ثلاثة أفراد من عائلة دقلو: شقيق حميدتي، الفريق عبد الرحيم حمدان دقلو، ونجلاه عادل وعلاء عبد الرحيم، بينما شغل حميدتي عضوية مجلس إدارتها.

سلط تحقيق لمنظمة "غلوبال ويتنس"، نشر منتصف 2019 بمشاركة الصحفي والباحث المصري الراحل محمد أبو الغيط، الضوء على الشبكة المالية المتطورة لشركة "الجنيد" ودورها في تسليح قوات الدعم السريع عبر سيطرتها على معظم مناجم الذهب في البلاد، بما في ذلك جبل عامر، إضافة إلى توسع أنشطتها الاقتصادية باستخدام بنوك وشركات حكومية كواجهات لعملياتها العابرة للحدود، وبشكل منفصل تمامًا عن الخزانة العامة في السودان.

إعلان

تأكدت هذه الحقائق لاحقًا عندما فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على "الجنيد" في منتصف 2023 عقب اندلاع الحرب الأخيرة في 15 أبريل/ نيسان، وجاء في نص القرار: "شركة الجنيد للأنشطة المتعددة المحدودة هي شركة قابضة سودانية يسيطر عليها قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو وشقيقه نائبه عبد الرحيم دقلو.

تتخذ الشركة من الخرطوم مقرًا لها، وتدير 11 شركة تابعة لها في قطاعات اقتصادية متعددة، بما في ذلك تعدين الذهب. منذ استيلاء قوات الدعم السريع على منجم جبل عامر عام 2017، أصبح الذهب وتصديره مصدر دخل حيوي لعائلة دقلو وقوات الدعم السريع"

بيد أن نفوذ حميدتي وقواته تجاوز حدود السودان، حيث أصبحت قوات الدعم السريع لاعبًا بارزا في الأمن الإقليمي. ففي 2015، أُرسلت فرقها للقتال في حرب اليمن، كما لعبت دورًا بارزًا في دعم قوات الجنرال خليفة حفتر في ليبيا. والأكثر إثارة للجدل، أن الاتحاد الأوروبي استعان بقوات الدعم السريع ضمن جهوده لمكافحة تدفق المهاجرين الأفارقة عبر السودان إلى أوروبا، وذلك ضمن عملية "الخرطوم"، رغم سجل هذه القوات الدموي في دارفور.

وقد كشف مؤسسة كلينجدال الهولندي للشؤون الدولية "Clingendael" في تحقيق استقصائي عن قيام الاتحاد الأوروبي بدفع 200 مليون يورو  لحكومة البشير في الفترة بين 2016 حتى  2018 مقابل ذلك التعاون مع الاتحاد الأوروبي في ملف الهجرة.

وقد أكد حميدتي نفسه هذه الحقيقة خلال خطاب متلفز نقله التلفزيون السوداني الرسمي في وسط حشد من جنوده، بل إنه هدد بإعادة فتح الحدود إذا لم يتم الاعتراف بمجهوداته وتقديرها بشكل مناسب.

فيما كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" لاحقاً أن قوات الدعم السريع لعبت دورًا مزدوجًا خلال عملية "الخرطوم"، حيث قامت بملء شاحناتها بالمهاجرين الأفارقة ثم بيعهم إلى المتاجرين الليبيين، الذين غالبًا ما كانوا يسجنونهم في بيوت تعذيب ويجبرونهم على دفع فدية أو يحولونهم إلى عبيد.

إعلان

من خلال هذه الأدوار الإقليمية، تدفقت الأموال إلى جيوب حميدتي وخزائن قوات الدعم السريع، ليس فقط من عقود القتال، ولكن أيضًا من أنشطة شركة "الجنيد"، التي توسعت أعمالها لتشمل النقل والبنية التحتية، وتجارة الشاحنات الثقيلة، وبناء الطرق والجسور، والأعمال الهندسية، ونفايات التعدين، وحتى تجارة الإبل كنوع من العرفان لأصولهم الرعوية.

هذا التوسع المالي والعسكري أدى إلى تضخم غير مسبوق لقوات الدعم السريع، ووفقًا للبروفيسور أليكس دي وال "تضاعفت قوتها عشرة أضعاف" في أواخر حكم البشير، ليصل قوامها إلى 70 ألف مقاتل وأكثر من 10 آلاف شاحنة "بيك آب" مسلحة، مما جعلها بمثابة قوات المشاة الفعلية للسودان. وبينما تطورت هذه القوات، ظل هيكل القيادة على حاله، إذ استمر في التكون من رجال قبائل عربية من دارفور تنتظم تحت قيادة عائلة دقلو.

لكن الأمور لا تدوم على حال كما يقولون، فبعد 30 عاما من الحكم أصبح سقوط  البشير وشيكاً وسط احتجاجات شعبية استمرت لأكثر من خمسة أشهر منذ نهاية عام 2018 وحتى الربع الثاني من عام 2019.

ورغم أن حميدتي كان يدين للنظام بكل ما حققه من نفوذ عسكري واقتصادي، وفي الوقت الذي ربما كان البشير يظن أن وجود حميدتي إلى جانبه يضمن له الثبات، أدرك تاجر الإبل السابق والميليشيوي المخضرم ببراغماتية ثابتة أن الرهان على النظام بات خاسرا، وكان ما يشغل باله حقا إبان الانتفاضة هو كيفية إعادة التموضع في نظام ما بعد البشير بطريقة تضمن الحفاظ على المكتسبات التي حازها على مدى سنوات طويلة.

وعلى عكس جنرالات الجيش الذين تميزوا بالحذر والخجل، وقادة الاحتجاجات الديمقراطية الذين كانوا يتشاورون بحرص، تصرف حميدتي بجرأة وحزم واضحين.

في البداية، ركز حميدتي على تثبيت نفوذه داخل المؤسسات الانتقالية في حقبة ما بعد البشير، رافضا المجلس العسكري الانتقالي برئاسة وزير الدفاع عوض بن عوف الذي خشى حميدتي أن يحد من طموحاته، وهو رفض غلفه بالتمسك بتسليم السلطة للمدنيين والتماهي مع الرفض الشعبي لشخصية بن عوف باعتباره وزير دفاع "البشير".

إعلان

لكن في أعقاب تخلي بن عوف عن منصبه لصالح الفريق أول عبد الفتاح البرهان بعد يوم واحد فقط من إعلان توليته، عدل حميدتي عن موقفه وقبل الانضمام إلى المجلس العسكري الانتقالي في منصب نائب رئيس المجلس، بعد ترقيته لرتبة فريق أول ليصبح أصغر من يتقلد هذه الرتبة في تاريخ العسكرية السودانية العريقة.

كان البرهان خيارا مقبولا لحميدتي بالنظر إلى علاقتهما القديمة التي تعود إلى حرب دارفور الأولى عام 2003. ووفقًا لماجاك داجوت، مدير جهاز المخابرات السوداني آنذاك (ونائب وزير الدفاع في جنوب السودان لاحقا)، في تصريحات لـ"بي بي سي" فإن البرهان وحميدتي عملا معًا في دارفور بانسجام.

كما أشار الصحفي جيروم توبيانا في "فورين بوليسي" إلى أن علاقتهما توثّقت أكثر خلال مشاركتهما في حرب اليمن عام 2015، حيث كان البرهان قائدًا للقوات البرية المشرفة على العمليات، بما في ذلك قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي.

وتؤكد مقاطع فيديو متداولة تعود إلى عام 2017 متانة هذه العلاقة، إذ يظهر الرجلان في تسجيل تلفزيوني يتحدثان عن سحق التمرد المسلح في دارفور خلال حملات نزع السلاح الحكومية آنذاك.

بالتزامن مع ذلك، كان مداعبة الشارع الثائر ركنا أصيلا في محاولة حميدتي لإعادة تقديم نفسه في حقبة ما بعد البشير، حيث أصر على تضمين اسم قوات الدعم السريع في بيان الإطاحة بالبشير، ليؤكد موقفه الداعم للثورة.

ومنذ ذلك الحين انقسمت الآراء تجاهه إلى ثلاث تيارات: الأول رأى فيه رجلًا استُخدم بدهاء من قبل البشير لكنه أدرك اللحظة الحاسمة وانحاز للثورة، مستشهدين برفضه المزعوم استخدام العنف ضد المتظاهرين وهي سردية سعى حميدتي دوما إلى تكريسها.

أما الفريق الثاني، فاعتبره امتدادًا للبشير وصنيعةً له، محاججًا بأن رفضه قمع الاحتجاجات – إن صح – لم يكن إلا براغماتية سياسية، إذ أدرك استحالة مواجهة المد الثوري.

إعلان

بينما تبنى فريق ثالث رؤية أكثر واقعية، محذرًا من أن إقصاء حميدتي في تلك اللحظة قد يفضي إلى حرب أهلية تقوّض مكتسبات الثورة، ما استدعى التعامل معه مرحليًا. هذا الجدل كان في جوهره يخدم مصلحة حميدتي، إذ لم يكن يسعى سوى إلى العبور بسلام عبر زخم الثورة المشتعل.

بادر حميدتي إلى استمالة الشارع فزار جرحى المظاهرات التي أطاحت بحكم البشير وأطلق عليها ثورةً ديسمبر 2018،  في المستشفيات، مؤكدًا لهم رفضه أوامر تفريقهم، كما أُشيع، كما ظهر في مشهد إعلامي وهو يعلن إطلاق سراح مئات الغارمين عقب زيارة لسجن كوبر، متكفلًا بدفع نحو 35 مليون جنيه سوداني (780 ألف دولار) نيابة عنهم، خلال الزيارة ذاتها، دعا إلى مراجعة أوضاع الشرطة وحثّ على تعزيز انتشارها الميداني.

كما أعلن تقديم أكثر من مليار دولار لبنك السودان المركزي، زاعمًا دعم الاقتصاد الوطني وعندما سُئل عن مصدر هذه الأموال، رد قائلًا "لدينا رواتب جنودنا الذين يقاتلون في الخارج، ولدينا ذهب واستثمارات".

على الصعيد الأمني، تبنّى حميدتي نهجًا ينتقل بمرونة بين اللين والقمع. وبينما انشغلت القوى المدنية بمفاوضات تقاسم السلطة مع المجلس العسكري، استمر جزء من الشارع في المطالبة بحكومة مدنية، ونظموا اعتصاماً أمام مقر القيادة العامة للجيش، وساعتها خلع حميدتي ثياب الحمل محذرا إياهم أن "للصبر حدود".

وفي 3 يونيو/ حزيران 2019، وقع فضّ الاعتصام بالقوة، ما أسفر عن سقوط أكثر من 125 قتيلًا، وقد وثقت جهات إعلامية تصدر عناصر قوات الدعم السريع لمشهد فض الاعتصام حيث صاح الجنود بالمعتصمين "أحضرنا دارفور إليكم"، وبعد أيام، قال حميدتي محذرًا "الخرطوم قد تتحول إلى كتم"، في إشارة إلى قرية أُفرغت من سكانها بدارفور.

أسقطت "جريمة" فض الاعتصام جميع الأوهام حول انحياز حميدتي للثورة وأظهرت وجهه الحقيقي الذي أفصح عنه بوضوح في دارفور، وفي محاولة لاحتواء الأضرار نفى حميدتي مسؤوليته عن المجزرة، مدعيًا أن منفذيها كانوا يرتدون زي الدعم السريع، لكنهم لم يكونوا منهم.

إعلان

وأُعلن عن لجنة تحقيق لم تصدر نتائجها حتى اليوم، فيما دفعت الضرورة السياسية نحو تسوية انتهت باتفاق سياسي، لتطوى تلك الصفحة الدموية من عمر الانتفاضة السودانية طي النسيان.

حميدتي.. بين التمكين الداخلي والشرعية الخارجية

في 21 أغسطس/ آب 2019، أُعلن عن "الوثيقة الدستورية" التي أرست تقاسم السلطة بين المجلس العسكري الانتقالي والقوى المدنية، بقيادة "قوى الحرية والتغيير" وعلى إثر ذلك تشكل مجلس السيادة الانتقالي برئاسة الفريق أول عبد الفتاح البرهان فيما شغل حميدتي منصب نائب الرئيس، عرفيا دون أن تنص الوثيقة على ذلك فيما تولى عبد الله حمدوك رئاسة الوزراء.

ممثل تحالف الحرية والتغيير أحمد ربيع (يمين)، يلوح بإشارة النصر إلى جانب الجنرال عبد الفتاح البرهان (الثاني من اليمين)، رئيس المجلس العسكري الانتقالي الحاكم في السودان، خلال حفل توقيع "الإعلان الدستوري" الذي يمهد الطريق للانتقال إلى الحكم المدني، في العاصمة الخرطوم في 17 أغسطس/آب 2019، برفقة محمد حمدان دقلو "حميدتي" (الثالث من اليسار)، نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي وقائد قوات الدعم السريع. (الفرنسية)

خلال تلك الفترة واصل حميدتي محاولاته لصقل صورته كرجل دولة، فخصص مكافآت لمعلمي "الكنترول" في الشهادة السودانية وتعهد بصرف حوافز ضخمة لعمال قطاع الكهرباء المضربين، كما وزّع سيارات على زعماء القبائل في دارفور في إطار تصدّره ملف المصالحات بالإقليم كما تزعم مفاوضات جوبا للسلام مع الحركات المسلحة التي كان عدوها اللدود حتى وقت قريب لينال على إثر ذلك إشادة دولية، في حين عزز نفوذه برئاسة المجلس الاقتصادي للطوارئ، مقلّصًا دور المكون المدني في السلطة الانتقالية بقيادة رئيس الوزراء حمدوك.

خارجيًا، أطلق حميدتي حملة دعاية عالمية لتحسين صورته، متعاقدا مع شركة الضغط الكندية "ديكنز آند مادسون" بقيمة 6 ملايين دولار وهي الشركة التي عمل رئيسها، آري بن مناشي، ضابطا سابقًا في الاستخبارات الإسرائيلية.

إعلان

تزامن ذلك مع تقرّبه من نشطاء حقوقيين محليين عارضًا عليهم مبالغ مالية لكسب ودّهم، إلى جانب ترتيبه دورات تدريبية لعناصر قواته في القانون الإنساني عبر الصليب الأحمر الدولي، في محاولة لتحسين صورة قوات الدعم السريع، وفتح مقره الكبير في جنوب الخرطوم أمام وسائل الإعلام الأجنبية، حيث استضافهم بحفاوة وأسَرَهم برواياتٍ عن كيفية تدخله هو وقواته لـ"إنقاذ البلاد من الفوضى".

في غضون ذلك كثّف زياراته للعواصم العربية، كما لم يُخفِ رغبته في كسب ودّ إسرائيل، حيث صرّح في مقابلة تلفزيونية مطلع عام 2020 قائلاً "بصراحة نحن بحاجة إلى إسرائيل، ولسنا خائفين من أحد"، مشيداً في اللقاء ذاته بـ"التطور الإسرائيلي"، ولم تمضِ سوى أشهر حتى انضم السودان إلى "اتفاقات إبراهيم" التي رعتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأولى، ليُرفع على إثر ذلك اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.

لاحقًا، كشف موقع "واللا" العبري في تقرير له يستند إلى جهات دبلوماسية إسرائيلية أن حميدتي، ومنذ بداية عملية تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسودان، حاول إقامة قنوات اتصال مستقلة مع إسرائيل، من أجل دفع أجندته ورفع أسهمه الخاصة وسط منافسيه من القادة السودانيين خاصة البرهان وحمدوك، وأشار الموقع في هذا السياق إلى لقاءات عقدت في الخرطوم بين ضباط موساد وجنرالات الدعم السريع.

في المجال الرقمي، لم يغفل حميدتي أهمية السيطرة على الخطاب الإلكتروني، فقد كشف تقرير لمنصة التواصل فيسبوك عن تفكيك شبكة حسابات مرتبطة بقوات الدعم السريع، كانت تروّج لروايات مؤيدة له. كما رصد مختبر الأبحاث الرقمية التابع للمجلس الأطلسي (DFR Lab) أن العديد من هذه الحسابات كانت تتبنى تكتيكات تضليلية، متظاهرةً بأنها وسائل إعلام مستقلة، في حين كانت تضخ محتوى دعائيًا لصالح حميدتي.

إعلان

بعد نحو عامين ونصف من الثورة، تحديدًا في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، كان حميدتي قد بلغ ذروة نفوذه، مستفيدًا من تصاعد السخط الشعبي ضد حكومة حمدوك والانقسامات داخل "قوى الحرية والتغيير"، ومع اقتراب موعد انتقال رئاسة مجلس السيادة إلى المكون المدني، قرر التحرك بالتنسيق مع البرهان.

اذ أطاح العسكريون في 25 أكتوبر بالحكومة واعتقلوا رئيس الوزراء حمدوك وجمدوا العمل بالوثيقة الدستورية، وأعلنوا حالة الطوارئ.

غير أن المفاجأة جاءت من الشارع، الذي خرج بمظاهرات حاشدة اعتبرت ما حدث "انقلاباً علي ثورة ديسمبر"، وتحت الضغط الداخلي والدولي أُطلق سراح حمدوك بعد شهر واحد، ليعود إلى منصبه قبل أن يستقيل في يناير/ كانون الثاني 2022، معلنًا فشله في تحقيق توافق سياسي.

على مدار العام التالي ازدادت تعقيدات المشهد السوداني، وسط تدخلات إقليمية ودولية للتوسط بين الفرقاء. وفي ديسمبر/ كانون الأول 2022، جرى توقيع "الاتفاق الإطاري" بين الجيش وقوات الدعم السريع والقوى المدنية، محددًا فترة انتقالية جديدة تمتد لعامين. عند هذه النقطة، أدرك حميدتي أن الاتفاق الجديد قد يكون فخًا، فبدأ بإعادة ترتيب تحالفاته، متقربًا من القوى المدنية، استعدادًا لتحركه القادم.

حميدتي.. نذر العاصفة وأتون المعركة

رغم موافقته على انقلاب 25 أكتوبر (2021) للاستيلاء على السلطة، أعاد حميدتي تقييم الوضع في ظل تصاعد الخلاف مع قيادة الجيش، وتحول العلاقة بين الطرفين إلى صراع مكتوم، كانت أصداؤه تُسمع عبر شواهد عدة، أبرزها قيام حميدتي، ضمن مساعيه لبسط سيطرته على المؤسسات الحكومية والجهات المدنية، بتشكيل فريق يضم بين 5000 و8000 موظف في قطاعات حيوية مثل البنوك والتجارة والإعلام، مستغلًا مخاوف بعض القوى المدنية من مساعي الجيش لإعادة أنصار النظام السابق إلى مفاصل الدولة، ومستقطبًا تلك القوى إلى صفه في الوقت ذاته.

إعلان

وتلقى هؤلاء الموظفون رواتب شهرية بلغت 34 مليون جنيه سوداني (750 ألف دولار)، وتركّزت أعلى المخصصات في المؤسسات الإعلامية التابعة للدعم السريع، التي لعبت دورًا في ترسيخ نفوذه. كما أحاط حميدتي نفسه بمستشارين وصحفيين موالين، شكلوا خط دفاعه الإعلامي في مواجهة تصاعد التوتر مع الجيش.

بالتوازي مع ذلك، تعمّد حميدتي الظهور باستقلالية كاملة عن رئاسة مجلس السيادة الانتقالي المتمثلة في البرهان، حتى في العلاقات الدبلوماسية الرسمية والزيارات الخارجية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك زيارته لبعض الدول منها إريتريا قبل شهر واحد من اندلاع الحرب، والتي اعتُبرت محاولة لحشد دعم إقليمي.

لاحقًا، كشف الرئيس الإريتري أسياس أفورقي أنه سأل حميدتي عن سر عدائه للجيش، لكن الأخير لم يقدم إجابة مقنعة، مضيفًا أن حميدتي أبلغه بحاجة السودان إلى استيراد تكنولوجيا زراعية من إسرائيل.

إلى جانب ذلك، شعر حميدتي بأن توليه رئاسة اللجنة الاقتصادية للطوارئ، التي فشلت في التعامل مع تحديات رئيسية مثل أزمة الكهرباء والملفات الاقتصادية المتعثرة، كان مدفوعًا برغبة قيادة الجيش في دفعه إلى واجهة الانتقادات والغضب الشعبي.

كما زاد من توتره إفراج البرهان عن غريمه التاريخي موسى هلال في مارس/ أذار 2021، وعودة الأخير إلى مناطق نفوذ حميدتي القبلية في دارفور، حيث أعاد إحياء "مجلس الصحوة الثوري"، وهي خطوة رآها حميدتي محاولة لتقويضه داخل حاضنته الاجتماعية.

لكن نقطة التحول الحاسمة جاءت مع توقيع "الاتفاق الإطاري" إذ أدرك حميدتي أن الترتيبات التي تلت الاتفاق ستؤدي إلى دمج قواته في الجيش السوداني وفق جدول زمني لا يخدم مصالحه.

ففي حين أرادت قيادة الجيش إتمام الدمج خلال عامين، كان حميدتي يسعى لمدّه إلى عشر سنوات، ليتمكن من ترتيب أوراقه وضمان الحفاظ على نفوذه، وكانت تلك المهلة القصيرة تعني، من وجهة نظره، تسليم كل مكتسباته على طبق من فضة.

لاحقًا، وفي خطاب مسجل، أعلن حميدتي أن "الاتفاق الإطاري" كان السبب وراء اندلاع الحرب، رغم أنه سبق أن رحّب به ووقّع عليه عند إعلانه.

إعلان

وفيما يبدو أنه استعداد ممنهج لمعركة وشيكة، بدأ حميدتي في إعادة ترتيب أوراقه على المستويات العسكرية واللوجستية والإعلامية.

ففي أواخر عام 2022، تعاقد مع شركة "زيرو غرافيتي" لتطبيق استراتيجية دعاية اتصالات جديدة، كما استعان بوكالة "ثينك دكتور" الفرنسية لتحسين صورته لدى صناع القرار الأوروبيين، وإدارة محتوى صفحة قوات الدعم السريع على ويكيبيديا.

على الصعيد العسكري، عزز حميدتي قواته، التي بلغت نحو 100 ألف مقاتل، حتى أصبحت تنافس الجيش السوداني في العدد والتسليح. كما حصل على دعم استراتيجي من أطراف إقليمية ودولية، أبرزها مجموعة "فاغنر" الروسية، التي تورطت في تهريب الذهب لصالحه وتزويده بأسلحة متطورة وبخاصة صواريخ أرض- جو من القواعد العسكرية الروسية في أفريقيا الوسطى.

محمد حمدان دقلو "حميدتيط قائد قوات الدعم السريع، مع نائب وزير الدفاع الروسي أليكسندر موفين في عام 2022 (الأناضول)

وأكثر من ذلك ظهرت صور حديثة لصواريخ المدفعية LAR-160 الإسرائيلية الصنع بحوزة قوات الدعم السريع رصدتها شركة "Military Africa" المختصة بالصناعات الحربية، مما أثار تساؤلات حول دعم إسرائيلي محتمل، رغم إعلان تل أبيب حيادها الرسمي في الصراع.

إلى جانب ذلك، حسّنت قوات الدعم السريع قدراتها الاستخباراتية، إذ أفادت تقارير بأنها باتت تمتلك صور أقمار صناعية حصلت عليها عبر علاقتها بـ"فاغنر"، التي اقتنت أقمارًا صناعية متخصصة في المراقبة من شركة صينية، كما نشرت صحيفة هآرتس العبرية إفادات حول حصول قوات حميدتي على تقنيات تجسس إسرائيلية عالية التشفير بهدف التعمية على تحركات قواته دون ذكر تفاصيل حول كيفية الحصول عليها.

على المستوى السياسي، عزز حميدتي تقاربه مع القوى المدنية، لا سيما "قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي"، التي كانت الطرف الثاني في الاتفاق الإطاري.

إعلان

ثم جاءت القطيعة الكاملة مع الجيش في أغسطس/آب 2022، حين أعلن في مقابلة مع "بي بي سي" أن تحرك 25 أكتوبر كان "خطأً"، متبرئًا منه تمامًا. وبحلول 15 أبريل/ نيسان 2023 دشن حميدتي تحركه الفعلي ضد الجيش بهدف صريح معلن هو الإطاحة بالبرهان وفق تصريحاته الرسمية بعد ساعات فقط على اندلاع القتال.

كانت خطة حميدتي الأولية تقوم على تحييد قيادة الجيش، وعلى رأسها البرهان، والاستيلاء على السلطة صباح 15 أبريل/ نيسان، مستفيدًا من عنصر المفاجأة وانتشار قواته بكثافة داخل الخرطوم، حيث كانت مكلفة بتأمين معظم المرافق السيادية والاستراتيجية في البلاد.

اعتقد حميدتي أن الجيش لن يكون قادرًا على المقاومة، خاصة بعد أن جرى خلال الفترة الانتقالية حل هيئة العمليات التابعة لجهاز المخابرات السوداني، بحجة ارتباطها بنظام البشير.

وكانت هذه القوة، التي تضم نحو 13 ألف مقاتل، بمثابة وحدة النخبة المدربة على حرب المدن، جدير بالذكر أن حميدتي حاول استقطاب عناصر تلك القوة لصفوف الدعم السريع ولكنهم رفضوا وفضلوا التسريح .

قبل ثلاثة أيام فقط من اندلاع القتال، بدأت قوات الدعم السريع في نشر مزيد من القوات داخل الخرطوم وتعزيز مواقعها الاستراتيجية في مدينة مروي الشمالية، في المقابل تراجعت قوات الجيش السوداني تحت وطأة عنصر المفاجأة ونتيجةً لسنوات من الإهمال في التجهيز والإعداد.

ومع ذلك، سرعان ما فشلت الخطة الأساسية لحميدتي في تحييد قيادة الجيش، حيث تمكن البرهان، وبمساعدة جنوده بعد خمسة أشهر من الحصار، من الخروج والوصول إلى مدينة بورتسودان على ساحل البحر الأحمر، والتي أُعلن عنها لاحقًا عاصمةً مؤقتة للبلاد.

عقب هذا الإخفاق، انتقل حميدتي إلى خطة بديلة تهدف إلى فرض السيطرة الكاملة على السودان، وعزل القيادة العسكرية المتحصنة في بورتسودان، إضافة إلى بعض المناطق في الولايات الشرقية والشمالية، تمهيدًا لإسقاطها والاستحواذ على السلطة.

خريطة السودان موضّحا عليها كل من الخرطوم وبروتسودان (الجزيرة)

وخلال العام الأول من الحرب، حققت قوات الدعم السريع تقدمًا ميدانيًا ملحوظًا، حيث لم يبقَ للجيش السوداني سوى السيطرة على خمس أو ست ولايات فقط من أصل 18 ولاية تشكّل السودان، بينما ظلت قواته محاصرة في مواقعها العسكرية سواء في العاصمة أو غيرها التي أحكمت قوات الدعم السريع قبضتها عليها.

إعلان حميدتي بين النجاح التكتيكي والفشل الإستراتيجي

رغم التقدم الميداني الكبير الذي أحرزته قوات الدعم السريع، إلا أن عملياتها العسكرية ارتبطت بانتهاكات واسعة النطاق، وثّقتها منظمات حقوقية دولية، وأكدتها جهات رسمية خارجية.

فقد أصدرت لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي بيانًا وصفت فيه ما ارتكبته قوات الدعم السريع بالإبادة الجماعية ضد المدنيين في السودان، وفرضت إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، عقوبات على محمد حمدان دقلو (حميدتي) شخصيًا، متهمةً قواته بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، وهو ما أيدته تقرير أصدره مراقبون تابعون للأمم المتحدة.

أدت هذه الانتهاكات إلى سقوط ما يقارب 150 ألف قتيل وفق تقديرات لجنة الإنقاذ الدولية ومقرها نيويورك في منتصف عام 2024 إضافة إلى موجات نزوح غير مسبوقة، إذ فرّ ملايين السودانيين من مدنهم وقراهم هربًا من جرائم الدعم السريع، مما جعل السودان يشهد أكبر أزمة نزوح في العالم، حيث قُدّر عدد النازحين بنحو 14 مليون شخص وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة (25 مليون نازح  حسب تقديرات لجنة الإنقاذ الدولية).

وإلى جانب النزوح الجماعي، اتُّهمت قوات الدعم السريع باستخدام العنف الجنسي والتجويع كأدوات للحرب، فضلًا عن انتشار عمليات النهب والسلب التي نفذها أفراد تابعون لها.

كما شهد السودان حملة تدمير واسعة النطاق طالت البنية التحتية والمؤسسات المدنية، بما في ذلك الجامعات والمقار الحكومية، وحتى متحف السودان القومي الذي تعرض للنهب.

وقدرت إجمالي الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الحرب بنحو 200 مليار دولار وفق تقديرات شبه رسمية لوزارة التجارة السودانية.

في غضون ذلك، ظهرت أدلة تشير إلى تجنيد مرتزقة من دول أجنبية للمشاركة في الصراع، ولم يقتصر ذلك على دول الجوار أو حتى القارة الإفريقية، مثل القناصة الإثيوبيين الذين أشارت إليهم صحيفة نيويورك تايمز، بل امتد ليشمل مقاتلين من مناطق بعيدة، إذ كشفت تقارير رسمية عن تجنيد مرتزقة من كولومبيا، الأمر الذي دفع الحكومة الكولومبية إلى تقديم اعتذار رسمي، فيما كشفت وسائل إعلام كولومبية بأن هؤلاء المرتزقة خُدعوا عبر عروض عمل زائفة لأحد دول الخليج العربي، ليجدوا أنفسهم في خضم حرب السودان.

إعلان

مع تصاعد الانتهاكات، وصفت الأمم المتحدة الوضع في السودان بأنه أكبر أزمة إنسانية معاصرة، في حين قدمت البعثة السودانية لدى المنظمة الدولية أدلة على تورط دول إقليمية في تقديم الدعم العسكري لقوات حميدتي، سواء عبر إمدادها بالسلاح أو تجنيد المرتزقة لصالحها.

وفشل حميدتي في مقابل ذلك كله، في بلورة خطاب سياسي يُمكنه من حشد تأييد شعبي، إذ لم يلقَ ادعاؤه بأنه يقود "حركة تحرر من الهامش" أي صدى، إذ لا يمكن لحركة مقاومة حقيقية أن تستبيح مناطقها وقواعدها الشعبية بهذا الحجم من الجرائم المسجلة.

ولم تفلح محاولات حميدتي لتزييف التاريخ عبر الزعم بأن أسلافه من قبيلة الرزيقات كانوا جزءًا من الثورة المهدية، في محاولة لإضفاء شرعية تاريخية على دوره، وفي ترميم صورته حيث تم تفنيدها باعتبارها مغالطات لا أساس لها من الصحة.

في مواجهة هذا التردي الكبير في صورته داخليا، أطلق حميدتي حملة دبلوماسية خارجية في محاولة لاكتساب شرعية دولية تضمن له البقاء في ظل جرائم مستمرة وفي غياب مشروع سياسي واضح.

سافر حميدتي في جولة إلى عدد من العواصم الإفريقية، ساعيا إلى حشد دعم إقليمي وتعزيز صورته كحاكم مستقبلي للبلاد، ظهر خلال هذه الجولة مرتديًا بدلة مدنية أنيقة ورابطة عنق، في محاولة لتقديم نفسه كزعيم سياسي قادر على قيادة السودان.

لم يتوقف الأمر عند القارة الإفريقية، بل امتد إلى محاولة التقرب من إسرائيل مجددا، حيث صرّح يوسف عزت، المستشار السياسي لحميدتي، لقناة إسرائيلية، مشبهًا هجمات الجيش السوداني بالهجمات التي تشنها "حركة حماس الإرهابية"، وفق تعبيره.

كما قام عزت بجولة دبلوماسية في عدة عواصم أوروبية، حيث التقى بمسؤولين في وزارة الخارجية الفرنسية، قبل أن يسافر إلى لندن وبرلين، في محاولة لتصوير حميدتي كقائد مؤهل لقيادة حكومة مدنية وحصن أخير ضد عودة الإسلاميين والمتطرفين إلى الحكم في السودان وفقًا لموقع أفريكا إنتليجنس.

إعلان

وفي محاولة لتعويض غياب مشروع سياسي واضح، توصل حميدتي إلى تفاهم سياسي في أديس أبابا مع تحالف "تقدم"، وهو تجمع مدني واسع يقوده رئيس الوزراء السابق حمدوك.

وحرص حميدتي، في عدة مناسبات، على إعلان استعداده للتفاوض مع الجيش بوساطات إقليمية ودولية، في مسعى لفرض معادلة جديدة يكون فيها الدعم السريع وحميدتي طرفًا ندّيًا للجيش، إن لم يكن صاحب اليد العليا، بحكم تفوقه العسكري على الأرض.

وقد تمسك الجيش بموقفه الرافض للتفاوض، مشترطًا انسحاب قوات حميدتي الفوري من كافة الأعيان المدنية التي سيطرت عليها وعودتها إلى معسكراتها، أو القتال حتى النهاية.

في غضون ذلك بدأ الجيش في إعادة بناء صفوفه، سواء من حيث التسليح أو استقطاب الأفراد، كما عزز تحالفاته الإقليمية، وأعاد عناصر هيئة العمليات للخدمة.

وفتح الجيش أبواب التطوع الشعبي، حيث لقي إقبالًا واسعًا من السودانيين بمختلف انتماءاتهم، ممن عانوا من ويلات قوات الدعم السريع في المناطق الخاضعة لسيطرتها. كما شهدت صفوف الجيش انضمام قطاعات من الحركات المسلحة الموقعة على اتفاقية جوبا، بعد أن التزمت الحياد في بداية الحرب، ولا سيما في دارفور، حيث أعلنت تشكيل "القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح" بهدف القتال ضد حميدتي والدعم السريع.

بدأت الكفة تميل لصالح الجيش ابتداءً من سبتمبر/ أيلول 2024، أي بعد مرور عام ونصف تقريبا على اندلاع الحرب. تمكنت القوات المسلحة لأول مرة من عبور الجسور الاستراتيجية من أم درمان، حيث تتمركز قواعدها وخطوط إمدادها، إلى شرق النيل في الخرطوم بحري والخرطوم.

كما ألحقت هزيمة ساحقة بقوات الدعم السريع في جبل موية الاستراتيجي، وهو ما انعكس في ظهور حميدتي في خطاب مصور بدا فيه مرتبكًا يوزع الاتهامات يمينًا ويسارًا، متحدثًا عن تآمر قوى إقليمية ودولية، من إيران إلى إريتريا، ومن أذربيجان إلى أوكرانيا، مع تركيزه على مصر التي اتهمها بمساندة الجيش السوداني عبر الطيران المزود بقنابل أميركية.

إعلان

استمر تقدم الجيش، وبدأ في استعادة الولايات واحدة تلو الأخرى، من سنار إلى الجزيرة، فالنيل الأبيض، مع تعزيز دفاعاته في النيل الأزرق على الحدود مع جنوب السودان، والتمدد أيضا باتجاه كردفان.

خريطة ولاية الجزيرة (الجزيرة)

كما نجح في تأمين الطرق والممرات حتى بسط سيطرته الكاملة على ولايات الشرق والوسط، ما أدى إلى تقليص سيطرة قوات الدعم السريع إلى غرب السودان، وتحديدًا في كردفان وأربع ولايات من ولايات دارفور الخمس، إذ ظلت الفاشر عصية على السقوط، وصمدت قرابة عام أمام الحصار والهجمات المتواصلة.

مع تراجع موقفه العسكري، لجأ حميدتي إلى تكتيك حرب العصابات، مستهدفًا البنية التحتية المدنية عبر هجمات الطائرات المسيرة، التي ضربت محولات الكهرباء في المدن التي حررها الجيش. تزامن مع الانتصارات المتتالية للقوات المسلحة انشقاق مستشارين لحميدتي وقادة من قواته كذلك مثل "أبو عاقلة كيكل" إضافة إلى قادة من الحركات المعارضة انضموا إلى القتال إلى جانب الجيش، كما أعلنت مكونات قبلية في دارفور وجنوب كردفان، تأييدها للقوات المسلحة السودانية.

أمام هذا الواقع، بدا أن حلم حميدتي وداعميه الإقليميين في السيطرة على السودان كاملاً يتلاشى، ما دفعه للجوء إلى مناورة جديدة وربما أخيرة، إذ أعلنت قواته، بالتعاون مع فصائل سياسية ومسلحة منضوية تحت تحالف "تقدم"، إضافة إلى "الحركة الشعبية – شمال" بقيادة عبد العزيز الحلو، عن تشكيل تحالف جديد باسم "تأسيس"، أُطلق من نيروبي.

كان الهدف من هذا التحالف وضع دستور جديد، وتشكيل حكومة موازية في المناطق الخاضعة لسيطرة الدعم السريع في خطوة قد تفتح الباب أمام سيناريو تقسيم السودان للمرة الثانية. لكن هذه الخطوة قوبلت بتنديد واسع إقليميًا ودوليًا وسط شكوك حول استمراريتها، بسبب الخلافات العميقة بين مكوناتها، وصعوبة تطبيقها عمليا.

إعلان

يأتي ذلك في ظل بيئة إقليمية مضطربة، حيث تعاني المنطقة من أزمات متفاقمة، بدءًا من التوترات بين إثيوبيا وإريتريا، والصراعات الداخلية في الأولى، مرورًا بهجمات حركة الشباب في الصومال، وصولًا إلى الأزمة السياسية بين رئيس جنوب السودان سيلفاكير ونائبه رياك مشار، والتي استدعت تدخل القوات الأوغندية.

كما تعاني الكونغو ومنطقة البحيرات العظمى من صراعات عنيفة، إلى جانب الأزمات الأمنية المتفاقمة في تشاد ودول الساحل. كل هذه التفاعلات تؤثر وتتأثر بالأوضاع في السودان، الذي يقف في قلب منطقة ملتهبة أشبه ببرميل بارود، ربما كان حميدتي نفسه من أشعل فتيله دون أدنى مقدرة على إطفائه.

بحلول منتصف مارس/ أذار، ظهر حميدتي في خطاب بدا فيه شاحبًا ومتوترًا، مرتديًا "الكدمول"- العمامة التقليدية لقبائل الصحراء- ومرددًا عبارات التهديد والوعيد، ومؤكدًا تمسكه بالبقاء في القصر الجمهوري وعدم الانسحاب من الخرطوم.

لكن بعد أيام فقط، نقلت القنوات الفضائية صورًا لقواته وهي تفر من العاصمة عبر جسر جبل أولياء، آخر منافذ الهروب المتاحة قبل إحكام الجيش سيطرته.

وساعات قليلة بعد ذلك، ظهر قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، داخل القصر الجمهوري في وسط الخرطوم، ليعلن رسميًا تحريرها بالكامل من قوات الدعم السريع.

حميدتي.. رواية لم تنته بعد

لا تعد رحلة صعود حميدتي من بدايات متواضعة إلى واحد من أغنى رجال السودان وأكثرهم نفوذًا خلال فترة قصيرة مجرد قصة فردية، بل ربما نموذج متكرر في القارة الأفريقية، حيث تتحول الولاءات العرقية والقبلية إلى أدوات للصعود السياسي والعسكري، في غياب عقد وطني جامع حسب ما تقول الكثير من التحليلات.

هذه الديناميكيات، التي تعود جذورها إلى مخلفات الاستعمار، ما زالت تتجلى، من وجهة نظر محللين سياسيين، في سياسات بعض الدول الأفريقية، حيث يفشل قادتها في بناء نموذج حكم يستوعب التنوع العرقي والثقافي، ويؤسس لدولة المواطنة وسيادة القانون، ما يجعل إعادة إنتاج نماذج أمراء الحرب مسألة وقت وظروف مناسبة ليس إلا.

إعلان

بالنسبة لحميدتي نفسه، بدا أن نجاحاته التكتيكية المتتالية لم تكن كافية للتعمية على غياب أي مشروع استراتيجي بشأن مستقبل السودان بالنسبة له ولداعميه، كما بات واضحا أن الجرائم التي ارتكبها سابقا في دارفور وحتى اليوم أكبر من أن يتم تجاوزها.

ومع التراجع الميداني لقواته، وانشقاق عدد من حلفائه، وانقلاب المشهد السياسي ضده، أصبح حميدتي يواجه أضعف لحظاته منذ أن بدأ رحلته قبل نحو عشرين عامًا كأمير حرب في الجنجويد.

لكن قصة حميدتي درس سياسي مرير بأن القوة لا تُبنى بالمناورة وحدها، بل بالتحام أي مشروع سياسي بجماهيره، لا التنظير عليهم أو الهيمنة بالقوة عليهم.

تلك بعض من حكاية جن ركب ظهر الخيل، وحاول أن يمتطى ظهر وطن عميق التاريخ سخي التنوع.

مقالات مشابهة

  • حميدتي.. قصة صعود رجل الجن والإبل
  • وزير صحة الخرطوم يقف على حجم الدمار الكبير والتخريب الذي الحقته المليشيا المتمردة بمستشفى بن سينا
  • مناوي: المليشيا تعدم 9 من العاملين في منظمة عالمية
  • حكومة شمال دارفور تصدر بياناً حول هجوم المليشيا المتمردة على معسكر زمزم للنازحين
  • الخارجية السودانية: كينيا تستخف بالشرعية الدولية وتستضيف مؤتمر إعلان حكومة المليشيا
  • مناوي يكشف تفاصيل إعدام متطوعين في معسكر زمزم
  • «مقاومة الفاشر»: الدعم السريع تُصفي طلاب خلوة وكوادر طبية بمعسكر زمزم
  • الصحة بشمال دارفور تدين تصفية المدير الطبي لمستشفى ام كدادة بواسطة المليشيا الإرهابية
  • مناوي: مليشيا الدعم السريع المتمردة تهاجم معسكر زمزم للنازحين
  • السودان: «مقاومة الديوم الشرقية» تناشد «الداخلية» استئناف العمل بالأقسام الأمنية