•• فـي كل مرة أناقش فـيها مسؤولا فـي قضية من قضايا الوطن السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافـية أو حتى الرياضية يخلص نقاشنا إلى عبارة متكررة دائما: «هذا دور الإعلام» أو «الإعلام هو السبب» فـيما وصلنا إليه، بل إن الأمر تجاوز المسؤولين إلى اعتقاد شبه جمعي أن «الإعلام هو السبب»، إلى حد اعتقدت معه أن الجميع مصاب بـ«متلازمة الإعلام هو السبب»!

•دائما عندما يكون الإعلام فـي قلب العاصفة، فهو العمل الوحيد، تقريبا، الذي يتابع الناس تفاصيله أولا بأول وأي خطأ فـيه يشاهده الناس على الهواء مباشرة، دون أي تجميل؛ ولذلك فإن الجميع يشتركون فـي الحكم على ما ينتجه الإعلام، كما يشتركون فـي توجيه أصابع الاتهام نحوه كلما حصل إخفاق مجتمعي أو أزمة قيمية أو برزت ظاهرة غريبة.

. وتتكرر نفس السردية التي نسمعها فـي كل مكان: الإعلام هو المحرك، الإعلام هو المدمر، «الإعلام هو السبب»!. وهذا فـي الحقيقة تبسيط مخل جدا يعاد فـيه إنتاج وهم مريح بأن المجتمع، بكل مؤسساته، ضحية بريئة، والإعلام هو الجاني الوحيد.

•لكن، ماذا لو كان هذا الطرح مجرد إسقاط جماعي يخفـي الفاعلين الحقيقيين خلف ستار شاشة التلفزيون وعناوين أخبار الصحف اليومية؟!

•لا بد من القول إنني أكون سعيدا فـي ربط الإعلام بكل التفاصيل التي نعيشها ومرد ذلك أن الجميع يدرك أهمية عملنا الإعلامي فـي كل تفاصيل بناء وتشكيل المجتمعات، وفـي دوره باعتباره الوسيلة التي تعبر عن المجتمعات وعن آمالها وطموحاتها وفـي قدرته على صياغة الرأي العام، لكن سرعان ما يتبدد الأمر عندما تكال التهم، جزافا للإعلام، دون وعي حقيقي بالتفاصيل ودون رغبة فـي النقاش الحقيقي؛ فالإعلام فـي نهاية المطاف، لا يعمل فـي فراغ، بل يتفاعل مع بيئات سياسية واجتماعية تحدد له المساحة التي يتحرك فـيها؛ لذلك، فإن تحميله مسؤولية كل الإخفاقات المجتمعية هو اختزال مخل للأسباب الحقيقية التي تشترك فـيها السياسات العامة، والتعليم، والقيم الاجتماعية، وقدرة المؤسسات على احتواء التغيرات الثقافـية التي تحدث فـي المجتمعات، بل وفـي قدرة المجتمع على تحمل أدواره الحقيقية التي تشكلت عبر التاريخ.

•لا يمكن أن يتراجع المجتمع عن دوره فـي بناء القيم والأخلاق، أو تقصر المؤسسات الأخرى فـي عملها ثم يُتهم الإعلام أنه هو السبب.. ولا يمكن فهم توجيه أصابع الاتهام للإعلام فـي اللحظة التي تتصاعد فـيها الكثير من النزعات أو تسود أطروحات سطحية حتى فـي بعض المؤسسات الأكاديمية! وهنا علينا أن نطرح السؤال الأهم: هل هذه المشكلات من صنع الإعلام، أم أنه يعكس واقعا اجتماعيا أكثر تعقيدا مما يبدو لنا فـي الوهلة الأولى؟

•يوضح المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي والصحفـي إدوارد هيرمان فـي كتابهما الشهير «تصنيع القبول» كيف تعمل الأنظمة الإعلامية على إعادة تشكيل الوعي الجماعي بحيث يصبح من السهل قبول الكثير من القرارات دون مقاومة.. ما يحدث اليوم لا يختلف كثيرا، لكن هذه المرة، الإعلام نفسه هو الضحية، حيث يتم تصويره كقوة مسؤولة عن كل التحولات الأخلاقية والاجتماعية التي تحدث فـي المجتمعات ويبنى وعي جمعي وفق هذا الطرح، متجاهلين أن هذا الإعلام، فـي أغلب الأحيان، لا يعمل فـي معزل عن جميع مؤسسات الدولة، ولا يعمل بعيدا عن سياسة الدولة التي لها فلسفة واضحة ومسار على الإعلام أن يسير فـيه.

•وما أسهل أن يبحث الجميع عن كبش فداء أو مشجب تعلق عليه الأخطاء، ويبدو أن الإعلام هو الخيار الأمثل فهو مرئي للجميع ويمتلك قدرة على نشر الأفكار وبناء الرأي العام وحتى توجيهه ما يجعله «عدوا» مثاليا يمكن «شيطنته» بسهولة. لكن هذه التهم، التي يتحملها الإعلام والعاملون فـيه ويصبرون عليها، تخلق وهما زائفا يمكن شرحه عبر هذا التساؤل: لو كان الإعلام كما يتمناه كل واحد فـينا هل ستُحل مشاكل الجميع، أفرادا ومؤسسات؟! الإجابة العميقة سهلة جدا: لا، لن تحل!

•ويبدو أن هذا اللوم المستمر له وظيفة نفسية واجتماعية تتمثل فـي أنه يبعد المسؤولية عن الأفراد وعن الأسر وعن المؤسسات التعليمية وعن المساجد وعن الأندية ويلقي بها فـي وجه الإعلام. يحدث هذا فـي ظل غياب قدرة الأفراد على النقد والتفكير النقدي، وفـي ظل تحديات حقيقية تواجهها الروابط الأسرية وإعلاء مكانة الحوار فـي المجتمعات، فـيكال السخط على الإعلام باعتباره النموذج الذي يَعتقدُ الجميع أن عليه حمل المثالية والتمسك بها حتى النفس الأخير. وهذا فـي حد ذاته يُشعر العاملين فـي الإعلام بالفرحة.. ولكن أيضا بالمسؤولية الكبيرة التي تحتاج إلى دعم كبير من كيان الدولة ومن جميع مؤسساتها.

•وهذا الطرح ليس طرحا محليا، فقط، ولكنه طرح عالمي. وتشير الدراسات فـي أمريكا إلى أن الإعلام كان متهما على الدوام بدوره فـي تفكيك الشكل التقليدي للعائلة، وفـي أوروبا، يتهم الإعلام بأنه وراء النزعة الفردية، أما فـي العالم العربي فإن أكبر وأخطر تهمة توجه له بأنه وراء انحلال القيم العربية الأصيلة!

•هل الإعلام هو السبب فعلا؟ أم أنه مجرد مرآة تعكس تحولات مجتمعية أعمق؟ شأن الإعلام مثل شأن كل مؤسسات الدول، فهي لا تعمل فـي معزل عن سياسة الدولة وعن اقتصادها وعن حركة المجتمع فـيها وعن خططها الاستراتيجية، وكلما مُكّن من أداء دوره استطاع أن يكون مُرضيا أكثر واستطاع أن ينجح فـي بناء الوعي الحقيقي المناط به فـي المجتمعات وتمكينها من فهم الحقائق التي تشكل المجتمع وتشكل وعيه وتحدد حركته فـي السياق التاريخي، وفـي غياب تمكين الإعلام، وتمكينه من أدواته يكون أكثر عرضة للهجوم والإشارة له بأصابع الاتهام.

•صحيح أن الإعلام أداة من أدوات التعليم لكنه لا يمكن، ولا يراد له أيضا، أن يكون بديلا عن المؤسسات التعليمية والسياسية والاجتماعية التي عليها القيام بأدوارها فـي بناء وتوجيه الناس. وعندما لا تقوم المؤسسات بأدوارها فإن الإعلام لن يستطيع، قطعا، سد هذه الفجوة، بل سيكون مجرد ساحة لمحاولات قد لا يكتب لها النجاح هذا إذا كانت إمكانيات الإعلام تسمح له بذلك من حيث الموارد المالية ومن حيث التمكين.

•وإذا أردنا تجاوز هذه «المتلازمة» التي تحاصر الإعلام فعلينا التوقف عن استخدامه كذريعة، والبدء فـي مساءلة جميع مؤسسات المجتمع عن أدوارها لفهم أين يكمن الخلل. مساءلة التعليم ومساءلة العائلة والأسرة عن دورها فـي بناء القيم.. إلخ.

•إن معركة أي مجتمع قوي لا يجب أن تكون ضد الإعلام بل ضد الجهل والتجهيل. رغم ذلك فإن الإعلام ليس كامل البراءة، ومن كان يوما كامل البراءة؟!، لكنه، أيضا، ليس العدو ولن يكون كذلك، فهو جزء من بيئة اجتماعية واقتصادية وسياسية. والتغيير الحقيقي الذي نريده لا يأتي من لوم الإعلام فقط، بل من خلق بيئة واعية قادرة على قراءة وتحليل ما يُعرض عليها، ومساءلة مؤسسات المجتمع. •

عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة عمان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فـی المجتمعات أن الإعلام فـی بناء

إقرأ أيضاً:

احذر.. هذه الأعراض تشير لإصابتك بمتلازمة القولون العصبي

متلازمة القولون العصبي (IBS) هي حالة شائعة تؤثر على ملايين الأشخاص في جميع أنحاء العالم، وهو اضطراب وظيفي في الجهاز الهضمي يتميز بألم مزمن في البطن، وعدم الراحة، وتغيرات في وتيرة البراز وقوامه، لا يسبب القولون العصبي ضررًا مباشرًا للأمعاء، لكنه قد يؤثر بشكل كبير على نوعية حياة المريض، وبما أن الأسباب الدقيقة لمتلازمة القولون العصبي لا تزال غير معروفة، فإن العلاج يركز على السيطرة على الأعراض والحفاظ على مستوى معيشي مريح.

جمال شعبان يحذر.. شرب الماء المثلج على الريق قد يسبب الوفاةنصائح ذهبية لتحسين صحة الأمعاء والهضمأسباب وأعراض القولون العصبي

يمكن أن تحدث متلازمة القولون العصبي بسبب مجموعة متنوعة من العوامل، بما في ذلك النظام الغذائي، والتوتر، والتغيرات الهرمونية، ومن المهم ملاحظة أنه على الرغم من أن متلازمة القولون العصبي ليست مرض التهاب الأمعاء، إلا أن أعراضها غالبًا ما تتداخل مع اضطرابات هضمية أخرى، تشمل الأعراض الرئيسية ما يلي:

ألم وعدم راحة في البطن.تغيرات في عادات الأمعاء (الإمساك أو الإسهال).الانتفاخ وتكوين الغازات.تفاقم الأعراض بشكل دوري، والذي قد يكون مرتبطًا بالطعام أو التوتر.

غالبًا ما يتطلب تشخيص متلازمة القولون العصبي استبعاد الحالات الأخرى، مثل مرض كرون أو التهاب القولون التقرحي، مما قد يجعل العملية طويلة ومعقدة.

علاج القولون العصبي

إن أحد العناصر الأساسية لإدارة متلازمة القولون العصبي هو تعديل النظام الغذائي، والذي قد يشمل إدخال نظام غذائي منخفض في الفودماب (FODMAPs) القابلة للتخمير، والثنائيات السكاريدية، والأحادية السكاريدية، والبوليولات، يمكن أن يساعد هذا في تقليل أعراض الانتفاخ والغازات. 

قد يشمل العلاج الدوائي استخدام مضادات التشنج، والبروبيوتيك، ومضادات الاكتئاب، ومن المهم أن نتذكر أن العلاج الذاتي قد يؤدي إلى تفاقم الأعراض أو حدوث مضاعفات، لذلك يجب استشارة الطبيب قبل استخدام أي أدوية.

المصدر gosta media

مقالات مشابهة

  • رمضان بين القدسية والانحلال .. أزمة وعي
  • أبوخشيم: يجب محاسبة وسائل الإعلام التي تروج لخطاب الكراهية
  • فاسدة وغسر شرعية..ترامب يهاجم ووسائل الإعلام التي تنتقده
  • احذر.. هذه الأعراض تشير لإصابتك بمتلازمة القولون العصبي
  • الأمير محمد بن فهد -رحمه الله-.. رمزٌ للعطاء والإنسانية في بناء المجتمع
  • وزير الإعلام اللبناني: تشكيل لجنة لمتابعة النقاط التي عرضها صندوق النقد الدولي
  • شرطة أبوظبي تحذر من تحميل برامج التحكم عن بُعد لهذا السبب..
  • سوريا: لا مفاوضات لاستيراد النفط العراقي ولم نبحث تفعيل خط كركوك بانياس
  • إلى قادة الدولة: أحذروا من مزالق اختراق جبهة الإعلام