أعادني الكاتب سلطان ثاني في مراجعته التي نُشِرتْ في هذه الجريدة قبل عدة أيام لرواية «الحرب» لمحمد اليحيائي بعنوان «الراء المفقودة في الحرب» إلى تاريخ من الكتابات العربية عن هذا الحرف الهجائي بشكل عام، وعمّا يسببه وجوده في منتصف كلمة «حرب» أو فقدانه منها بشكل خاص.
بادئ ذي بدء سأقول إنه يثير تساؤلي دائما احتفاء الكُتّاب والأدباء بحرف معيّن من حروف الهجاء دون سواه، سواء في عناوين مؤلفاتهم أو حتى في مضامينها، وأتساءل: لماذا هذا الحرف بالذات؟ ما الذي فعله لهم أو بهم لينال هذه الحظوة؟ ثم أليست الكتابة لا تكتمل إلا بالحروف الثمانية والعشرين جميعها؟! نجد هذا مثلًا في ديوان «آية جيم» للشاعر المصري حسن طلب، الذي خصصه كاملًا للاحتفاء بحرف الجيم بعد تأنيثه: «الجيم تاج الأبجدية / وهي جوهرة الهجاء/ جُمانة اللهجات/ أو مرجانة الحاجات».
كثيرة هي الأعمال الأدبية التي تضع حرف الراء في عناوينها، أذكر منها على سبيل المثال «ثلاثية راء» للقاص اليمني سمير عبدالفتاح التي يجمع فيها ثلاث مجموعات قصصية تبدأ كلها بهذا الحرف، هي «رنين المطر»، و«رجل القش»، و«راء البحر». وللراء لدى هذا الكاتب مكانة كبيرة لا يزاحمها أي حرف آخر، فهو يحضر في كثير من عناوين أعماله، ومنها عمله الأدبي «روايات لا تطير» الذي يبدأ به العنوان وينتهي كما نرى، ويصنفه سمير عبدالفتاح على الغلاف «مصغّرات» (أي روايات صغيرة)، ومن ضمنها مصغّرة عنوانها «رواية راء». وهناك أيضًا رواية «حرف الراء» للكاتبة المصرية عُلا صادق، وقصة «البنت التي أحبت حرف الراء» للشاعر والكاتب العراقي قاسم سعودي. وهذان العملان الأخيران سأرجع إليهما بعد قليل.
وبالعودة إلى مقال سلطان ثاني، فإنه يحدثنا عن حرف راء في رواية محمد اليحيائي، سقط فأصبحت الحرب حُبًّا، وهو يحيلنا بذلك على كرسي خشبي في تلك الرواية أراد البطل أن يحفر على أرضيته بسكين عبارة «الحرب خدعة»، لكن السكين أسقطت الراء، فجاءت العبارة هكذا: «الحب خدعة»! وهي في رأيي طريقة مبتكرة من المؤلف لقول عبارة الحب التي تتحول إلى حرب، إذا ما قارنّاها بالطريقة التقليدية في روايات أو قصص أو مقالات أخرى، والتي أصبحت أقرب إلى كليشيهات. على سبيل المثال كتب البابا تواضروس الثاني مقالًا أقرب إلى موعظة بعنوان «حرف الراء اللعين» يُمكن أن نلخّص فكرته بهذه العبارة: ((وهكذا اخترق حرف الراء تلك الكلمات الجميلة «حب» فقسمها وطرحها أرضًا، وتحولت إلى «حرب»)). وهذه شبيهة بعبارة وردت في قصة الفتيان «البنت التي تحبّ حرف الراء» لقاسم سعودي - التي وعدتُ بالرجوع إليها - حيث تبكي كلمة «حُبّ» حزينة، وتشتكي لصديقاتها: ((إني كنتُ سعيدة حتى هاجمني حرف الراء وتوسّطني. صرت كلمة «حرب»)).
أما رواية «حرف الراء» لعُلا صادق فنجد كليشيه راء الحب والحرب على لسان أكثر من شخصية فيها. يقول فارس: «فلم ندرك نحن في الصغر مقدار الفرق الذي قد يُحدِثه حرف الراء بتدخُّله في كلمة طاهرة، صافية، دافئة، وجميلة مثل كلمة حب»، وفي الرواية نفسها تخاطب فيروزة سينا بالقول: «أتمنى لكِ حبًّا لا ينزعه منكِ حرف الراء بتدخُّله السخيف»، ويبدو أن أمنية فيروزة لم تتحقق، فها هي سينا نفسها تقفل أحداث الرواية بدمدمتها المصدومة: «سُحقًا للحروب، سُحقًا للفراق، سُحقًا لحرف الراء الذي شوَّه كل ما يُحيطني من حبّ»!
هذه الكراهية المقيتة لحرف الراء نجدها في التراث العربي في سيرة إمام المعتزلة واصل بن عطاء، الذي كان يلثغ بهذا الحرف، ولذلك يحرص دائما أن يخلو كلامه منه، وله خطبة شهيرة تخلو -رغم طولها من حرف الراء، وقد وظفتها الروائية المصرية منصورة عز الدين في روايتها «بساتين البصرة». يقول ابن عطاء في هذه الخطبة: «الحمد لله القديم بلا غاية، الباقي بلا نهاية، الذي علا في دنوّه، ودنا في عُلوّه، فلا يحويه زمان، ولا يُحيط به مكان، ولا يؤوده حفظ ما خَلَق، ولم يخلقه على مثالٍ سبق، بل أنشأه ابتداعًا، وعدّله اصطناعًا، ...... إلى آخر الخطبة».
كان حرف الراء مكروهًا إذن من واصل بن عطاء، ومن البابا تواضروس، ومن شخصيات رواية «حرف الراء»، وربما من بطل رواية «الحرب». لكنّه لم يكن كذلك في قصة قاسم سعودي التي تخبرنا بأنه محبوب منذ العنوان: («البنت التي أحبّت حرف الراء»). والبنت المقصودة هنا «بدور» التي أحبته وآوتْه في حقيبتها، بعد أن سرد لها حكاية مغادرته قرية الكلمات ومنازل الحروف، احتجاجًا على أن «الكلمات تنظر إليه بازدراء، والحروف كذلك». غير أنه في نهاية القصة يفاجأ أنه ليست بدور فقط التي تحبه، وإنما كل الحروف الأبجدية التي جاءت تبحث عنه بعد أن افتقدتْه، فيعانقها سعيدًا لأنها «لم تتخلَّ عنه رغم كل شيء». وهكذا نحن أيضًا، لا يمكن أن نتخلى عن حرف الراء، مهما قيل عن إفساده الحب الصافي وتحويله إلى حرب ضروس. فلا تصحّ كتابة بدونه، ولا يستقيم لسان في غيابه، مع احترامي الشديد لمحاولات واصل ابن عطاء.
سليمان المعمري• كاتب وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذا الحرف
إقرأ أيضاً:
أيام سوق الحب.. مهرجان يمزج التراث والترفيه ودعم الأسر المنتجة بالشرقية
تواصل فعاليات مهرجان ”أيام سوق الحب“ في نسخته الخامسة، التي تنظمها أمانة المنطقة الشرقية، التي استمرت لعشرة أيام، مُحققًا نجاحًا في إحياء الموروث الشعبي السعودي.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1600588014572-0'); }); وشهد المهرجان، الذي أُقيم في أحد أقدم الأسواق الشعبية بالمنطقة، مشاركة واسعة من الحرفيين والأسر المنتجة، وعرضًا متنوعًا للمنتجات اليدوية والتراثية، بالإضافة إلى برامج توعوية وصحية قدمتها جهات حكومية وهيئات مختلفة.
أخبار متعلقة 21 الف مستفيد من برامج "نور" الدعوية خلال أول أسبوعين في رمضانقرقيعان الشرقية يُلهب حماس العائلات والأطفال في ”سوق الحب“والتقت صحيفة ”اليوم“ بعدد من المشاركين في المهرجان، حيث سلط المشاركون الضوء على مشاريعهم المتنوعة وأهمية المهرجان في دعمهم.
.article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } أيام سوق الحب.. مهرجان يمزج التراث والترفيه ودعم الأسر المنتجةأعمال تراثيةوأشار علي الموسى، الذي يشارك في المهرجان مع زوجته للسنة الثانية على التوالي، إلى أن مشروعهما يتمثل في تصميم وصناعة العطور.
وأوضح الموسى الفرق بين تصميم العطور وتركيبها، لافتًا إلى أن منتجاتهما تشمل عطور الجسم والمفارش والبخور والعود واللبان، بالإضافة إلى منتجات خالية من الكحول لتناسب الأشخاص الذين يعانون من الحساسية.
.article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } أيام سوق الحب.. مهرجان يمزج التراث والترفيه ودعم الأسر المنتجة
وأكد أن المهرجان يمثل فرصة قيمة لعرض المنتجات وتحفيز ريادة الأعمال، معربًا عن امتنانه للقيادة الرشيدة لدعمها المستمر للأسر المنتجة.
من جانبه، أوضح مفرح آل رويبع أن ركنه المشارك يعتمد على الأعمال التراثية والديكورية، ويضم مجموعة من الموروثات الشعبية القديمة، بهدف ربط الجيل الجديد بتراث الأجداد. وأضاف أن الركن استقطب عددًا كبيرًا من الزوار المهتمين بالتراث الشعبي.
وبينت سلمى الصالح، أن مشروعها يركز على تصميم الإكسسوارات والديكورات الشعبية، مثل القلائد والأساور والخواتم وربطات الشعر الشعبية، التي تشهد رواجًا كبيرًا خلال المناسبات الوطنية كيوم التأسيس واليوم الوطني السعودي وأيام القرقيعان.
.article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } أيام سوق الحب.. مهرجان يمزج التراث والترفيه ودعم الأسر المنتجة
وامتدت مشاركة الجهات الحكومية والهيئات والجمعيات لتشمل، فرع وزارة الصحة بالمنطقة الشرقية، وهيئة الهلال الأحمر السعودي، وجمعية السكري والغدد الصماء، حيث قدمت هذه الجهات برامج توعوية وصحية للزوار لتعزيز الوعي الصحي والاجتماعي.
وجسّد مهرجان ”أيام سوق الحب“ في نسخته الخامسة ملتقىً حيويًا جمع بين عبق التراث وأصالة الحاضر، مُقدمًا منصة لدعم الحرفيين والأسر المنتجة، ونافذة للزوار للاستمتاع بتجربة ثقافية وترفيهية فريدة.