المناسبات الدينية فرصة لاستعادة التاريخ وإعادة قراءته وتأمله بفكر اليوم، وعيون اليوم، للوصول إلى مقاربة تاريخية أفضل، مقاربة تاريخية ليست مبنية على التصويب والتخطئة، بل على محاولة الفهم والاستيعاب، إن إعادة النظر المتحررة والمتخففة من حمولات الماضي الفكري هي أفضل وسيلة لفهم ماضينا المشترك، بوصفنا نحن، وبالتالي إدراك المؤثرات التي أثرت علينا والتي قربتنا وباعدت بيننا.
يركز طه حسين في كتابه (الفتنة الكبرى) على فتنة مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان ٣٥هـ/٦٥٦م، بوصفها اللحظة الفاصلة التي أدت انعكاساتها لتفرق الأمة الإسلامية وانقساماتها، وانكسار المشروع الإسلامي التطبيقي لمفهوم العدالة الإسلامية، ولعل كثيرًا من المؤرخين اللاحقين يتفقون مع هذا الرأي، فبعد مقتل عثمان وبيعة علي بن أبي طالب وقعت الانقسامات والمجابهات حتى بين الصحابة أنفسهم في موقعة الجمل الشهيرة، ثم تلتها صفين، فالتحكيم، فمعركة النهروان التي كانت قاصمة الظهر لخلافة علي ويعلق عليها طه حسين بكلام طويل منه:
يوم النهروان، أهل الكوفة يقتلون أهل الكوفة، وأهل البصرة يقتلون أهل البصرة. فأي غرابة في أن يشيع الحزن في القلوب وتغشى النفوس كآبة لا تؤذن بخير. وأي غرابة في أن يدعوهم علي إلى النهوض إلى الشام فيعتل عليه رؤساؤهم، منهم الصادق ومنهم الماكر الكاذب. يقولون له: قد نفدت السهام وتكسَّرت السيوف ونصلت الرماح، فأعدْنا إلى مصرنا لنُريح ونجدد أداتنا ثم ننهض معك إلى عدونا.
يرى طه حسين أن معركة النهروان تعبير حاد عن انقسام أهل العراق، والمعركة الكبرى بين أهل العراق بقيادة الإمام عليّ وبين أهل الشام بقيادة معاوية، ولنا أن نرى إرث الانقسام التاريخي القديم فكأن حدود الدولتين السالفتين، الفارسية والرومانية، وجدت لهما مسرحًا جديد تكرر فيه نفس الأداء لكن مع اختلاف الدول؛ ومهما يكن من أمر فالحق يقال أن الانقسام الأول مع وضد عثمان عاد فقسّم أهل العراق أنفسهم، ولنا أن نتأمل في أن انتقال علي ونقله لدار الخلافة من المدينة إلى الكوفة له مدلولات كثيرة لعل أهمها عندنا هنا هو الأثر العراقي والكوفي تحديدًا على فتنة مقتل عثمان، فيبدو لنا اليوم أن أغلب التأثير الذي صاحب أحداث المدينة حتى مقتل عثمان كان بقيادة كوفية، حتى وإن اشترك فيه غيرهم، وظلت الكوفة معارضة إلى أن سقطت الدولة الأموية، ونحن معنيون أكثر اليوم ليس بتحديد الهوية بقدر ما نحن معنيون بفهم الوقائع واستيعابها، ففي المحصلة وقعت الواقعة الأولى وهي معركة الجمل دون البصرة بعد أن خرجت عائشة أم المؤمنين ومعها طلحة والزبير إليها، وفي تلك الواقعة قتل قاضي البصرة كعب بن سور بن لقيط بن مالك بن فهم الأزدي وهو يعلق القرآن على صدره، في رمزية لافتة للتأمل، فقد كان يدعو للصلح، وكاد يعتزل الحرب لولا أن طلبت إليه أم المؤمنين أن يقود جملها ففعل.
يروي المؤرخون كذلك أن كعب بن سور وهو رجل مشهود له بالحكمة وفصل الخطاب نصح قومه من الأزد بتجنب الفتنة فقال لهم فيما يروي عنه وكيع القاضي في كتابه أخبار القضاة: «ويلكم أطيعوني؛ اقطعوا هذه النطفة، وكونوا من ورائها، وخلوا بين هذين الغاويين، فوالله لا يظهر طائفة منهم إِلَّا احتاجوا إليكم، فجعلوا يشتمونه، ويقولون: نصراني صاحب عصا.» وأيًا يكن من أمر هذه الرواية وصحتها فإن مقتله كان في معركة الجمل وهو يقود الناقة ويتقلد القرآن ويدعوا للصلح، لكنها كانت صيحة في واد.
قد يتفق المؤرخون المعاصرون على مركزية فتنة مقتل عثمان، لكن إذا تتبعنا من قبلها اغتيال عمر بن الخطاب على يد أبي لؤلؤة المجوسي، نميل إلى أن تلك الظواهر العنيفة كلها تجليات لأسباب كامنة في النظرية نفسها، ذلك أن النظرية تجعل السيف وسيلة احتكام بين الفئتين المحقة والباغية، والاحتكام للسيف كالاحتكام لوثن، فهو يضر ولا ينفع، والسيف جماد، إنما هو بيد ضاربة وقد يجعل الغلبة للفئة الباغية بدل أن يجعلها للمحقة.
نخلص من ذلك إلى أن الحوار بين المختلفين لم يتأسس ولم يجد له محلًا، أو تحول إلى جدل بيزنطي عقيم، فالمتأمل اليوم في قضية عثمان منذ نشأتها يجد انعدام الحيلة لدى أكابر الصحابة وأعيان المدينة، فلا وسيلة لديهم لصرف الخليفة عن ميلانه لقرابته من بني أمية وتفضيلهم الذي لا يكاد يؤذيه هو فحسب في شخصه، وهو ما حدث في نهاية المطاف، بل يكاد يهز أركان الدولة بأجمعها، من طلائعها الفاتحة في أقاصي الأرض آنذاك، إلى أصغر بيت في المدينة، وهو خطر داهم وصريح وواضح على الدولة الوليدة وكيانها، فلم تكد تمض ثلاثة عقود فحسب على تأسيسها في المدينة المنورة؛ فإذا كان اعتراض المعترضين من الناس على عثمان محقًا فلنا أن نلمس حدة العنف التي يحملها داخله، فكأن لا مصرف ولا مرجع للمعترضين غير المجابهة الدموية، فما الذي اضطر الناس حينها إلى مداهمة المدينة ومحاصرة بيت الخليفة حتى تسوروه وقتلوا الخليفة داخل بيته، غير انعدام الحلول الأخرى؟ وفي نظرنا أن لو وجدت حينها حلول أخرى غير السيف والقتل لكان الناس سلكوها، ولا يمكننا ألا نلحظ أن هذا المسلك العنيف أصبح سمة تأسيسية، تبعتها الحوادث التالية، فإنما في صفين رفعت المصاحف على السيوف والرماح، فكأنما كان الرمز هو أن الرافع أساس المرفوع، وذلك خاطئ بطبيعة الحال.
برأينا أن ذلك الاحتكام للسيف هو الذي ولد الحقبة الزمنية الدموية والعصيبة التي جعلت الناس يقتتلون بلا رحمة ولا رأفة، في شبه عمى وصمم عن أنهم إنما يقاتلون إخوانهم وأبنائهم، ففيما يروي الرواة أن علي بن أبي طالب ارتجل أبياتًا حين رأى قتلى الجمل:
إليك أشكو عجري وبجري شفيت نفسي وقتلت معشري
وهو تعبير صريح عن انعدام الأفق والحيلة، وعن المسار القسري الذي وجد الإمام علي نفسه فيه، وهو الذي أفضى به لكل ما أفضى حتى يروى أنه قال:
«كنت أظن أن الأمراء يظلمون الناس، فقد علمت أن الناس يظلمون الأمراء».
من انعدام الأفق العام كذلك ما يروى أن عدي بن حاتم كان مع علي في النهروان وكان ابنه زيد مع الخوارج بالنهروان، كما يوثقه طه حسين، وفي ذلك دلالة بالغة على عمق الانقسام الذي وجد الناس آنذاك أنفسهم فيه، وهو الانقسام النفسي العميق الذي هز جذور العراقيين حتى جعلهم لقمة سائغة لمكائد الحزب الشامي، الذي عمّق ذلك الارتجاج طوال العصر الأموي، والذي ما قام العصر العبّاسي من بعده إلا كردة فعل فيزيائية وطبيعية على مدى الظلم الصريح الذي مارسه العصر الأموي على العراق، وما كان تحوّل دار الإمارة والخلافة من دمشق إلى بغداد أيام المنصور إلا الدلالة الفعلية عليه، والذي لم يثبت بدوره في خضم الدوران الزمني العاصف إلى أن قال المعري أبو العلاء بعد ذلك بقرون وهو يحاول اعتصار حكمة الدهر السالفة: لو بُعث المنصور نادى أيا مدينة التسليم لا تسلمي/ قد ترك الملكَ بنو هاشم وانتقل الملكُ إلى الديلم/ لو كنت أدري أن عقباهمُ لذاك لم أقتل أبا مسلم.
إبراهيم سعيد• شاعر وكاتب عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: مقتل عثمان طه حسین إلى أن
إقرأ أيضاً:
لماذا إعادة كتابة التاريخ ضرورة لأمننا الحضاري؟!
لقد كان وسيظل سؤال الهُويَّة المحرك الرئيسي وراء الاهتمام بالتاريخ الرسمي لدى الأمم، وليس من دافع يؤكد الصلة القوية بينه كدرس مستقر في مناهج التعليم وبين عمليات إشباع الهُوية بالذاكرة، إلا الرحلات المستمرة إلى الماضي لأجل مسائل راهنة، فالتاريخ سيظل أداة لبناء وحماية الوعي من غوائل التَّشْكِيك والتَّرَبُّص بكل ما هو مستقر. ولذا فإن التقليل من قيمة درس السَّالِف هو ذاته فعل الغفلة الذي يسمح لحفنة صغيرة أن تتسلق حصون المدينة لتفتح بواباتها أمام المتوحشين يؤذون كل إنسان آمن بين جدران القلعة، والذي نغفل عنه أن هذا الوعي المسمى بالغربي حَمَى نفسه بتعميق الصلة بين التاريخ والهُوية عبر الصناعة المتقدمة للذاكرة، بل إنه بعمله على تركيب هويته على خزان وجداني مرعي بعناية استطاع أن يجمع بين قوميات متنوعة في إطار كلي من الوعي بالذات، وكثيراً ما نتساءل لماذا يجد الكيان الغَاصِب كل هذه المناصرة من قِبل المجتمعات التي تعيش عصرها الإنساني رغم عدالة قضايانا وعلى رأسها بلادنا المحتلة؟ وكيف يستطيع هذا الغَاصِب أن يَبْتز العالم؟ والحقيقة أنه فعلها ويفعلها من خلال جهود علمية استطاعت تضمين أحداث هي محل شك عظيم لتعشش في الدرس التاريخي الجامعي وعبره إلى الفضاء الاجتماعي العام، وأن تحقق فاعلية مطالبه كونهم «ضحايا المحرقة»، وهو ما يجعل الاعتراض على عنفه اعترافاً بالانخراط في جريمة ثقافية تُهَدِّد بقاء الوعي كإطار جامع للهُوية الغربية، وبذلك ضمن المحتل انتصاراً خالداً في الذاكرة، وأحكم قبضته على الوعي السياسي لِيَغُل يد المجتمعات الغربية عن تحقيق إنسانيتها بمعزل عن قانون تاريخي صيغت به هُوية مصممة لصالح قهر الخصوصية والتصفيق القسري لسرديات الغاصب المُعَمَّرة بالمظلومية. وهنا يظل العقل الغربي مثقلا بِالسَّرْدِيَّة التَّوْرَاتيَة التي يحمي بها الكيان امتيازه المطلق، وما يهمنا في هذه النقطة هو الإشارة إلى الدور الحاسم الذي تلعبه الذاكرة في بناء الهُوية وترسيخ التقدم.
والحقيقة أنه لم يعد بإمكاننا الادعاء بأن التاريخ الذي يتم تداوله لدينا وعلى مستويات عدة (عالمة وشعبية) يسهم بإيجابية في تحقيق التماسك بين المكونات الاجتماعية، ويحرضها على التعايش، بل إن صورته الراهنة تمارس أدوارا تخريبية في الوعي والوجدان، كونه لا يزال يَعْرِض لخلافات الماضي وكأنها فاعلية اجتماعية مفارقة لواقعها مكتوب عليها أن تظل متخلقة، وجلوسنا أمام إملائها المؤقت يجعلها مسؤولة عن تمزقات اليوم، ولن يُسمح لهذه المجتمعات أن تتقدم إذا ظلت تستذكر ماضيها بهذه الطريقة المُهَدَّدَة لأساسها الثَّقافي، كون الدرس التاريخي في مساره الخطِّي هذا طَوَّر من آليات الحرب على الذات والآخر، واستطاع أن يهدم الوعي ناحية قبول التعددية الثقافية كَمُسْلمة تعيشها كل المجتمعات. إن التاريخ المنهجي منه والمتداول يصنع وباستمرار التوتر في عمق الظاهرة العربية، ويكرس بجدارة وعبر سردياته المحروسة بقداسة الماضي إلى تمزيق الهُوية الوطنية والنيل من خصوصية التنوع الثقافي، ويعود الأمر إلى أنه درس مُؤَدلج حتى النخاع، وتَغيب فيه اللحظات التي يمكن عَدُّها أنواراً في سياق ماضينا، إنه تداول لتاريخ الفتن، والصراع على السلطة، والحرب على الهُوية، تاريخ يركز أكثر عن المناطق المظلمة في الوعي العربي منذ تأسيسه، تاريخ يُغَيِّب فيه الاجتماع الطبيعي للذات العربية، الاجتماع الذي جعل مجالس السلطة ذاتها أندية للوعي والثقافة، مجالسها التي ينتخب منها فقط الدَّال على خَرائب المعرفة فيها، وليس تاريخ الجِدال المنتج، وكم هو غريب حضور فروسية الحمداني مثلاً وطمس إنسانية الفارابي وهو يرفض أن يشتري له المُوسِرُونَ ثيابا جديدة مفضلا أن يذهب هذا المال لفقراء حَلب، تاريخ يريد منا أن نتعرف على أنفسنا فقط عبر تحقيبات الطبري أو المسعودي لا التكوين المركب من آخرين لهم سهم في بنائه، فلا يسمح لنا بالاقتراب أكثر من مسكويه وهو يؤسس علم الأخلاق في التدوين، مناهج تغفل على الصلات الطيبة التي نشأت بين الحَلاَّج والحنابلة حتى أنه في لحظات انكساره العليا لا يجد من يبثه وعيه الجريح إلا قبر بن حنبل، إنه تاريخ يؤذينا ولا يجمعنا على هُوية واحدة ومتعددة في الآن ذاته، فقوة الثقافة العربية أنها جِماع طبيعي للبشرية من كل لون وعِرق ولغة، لكنه انخراطنا في درس الماضي كأداة للفرقة وليس الاجتماع، والسبب «أننا لا نبصر في المدينة إلا أوساخها» كما يقول عبد الرحمن منيف، ولا نعرف التركيب في الظاهرة وما زلنا نفهم السطحي في الاجتماعي ونُرْسِخ في أجيالنا دروسا للتمزق مساهمين في تخريب وجدانهم ثم نأتي لنفزع من بعض مظاهر التخلف الإنساني وأسباب بقائها فينا، ونتعجب بأن بعضنا لا يزال على استعداد لإيذاء نفسه ومجتمعه! إن السبب هو أن من يُخَرِّبُونَ مجتمعاتهم يَغْتَرِفُونَ من ذاكرة قُدِّمَتْ لهم على أنها التعبير المطلق والوحيد عن هُويتهم الثقافية. أما إذا أردنا محاربة كل أشكال التهديد فينا وحماية تنوعنا الثقافي فإن المدخل هو تنقية الذاكرة من شوائب التوظيف السلبي والقراءات الأيديولوجية للماضي، وأن نقول لأجيالنا: ثقافتكم العربية ما استطاعت أن تُنجِب ابن سينا والغزالي، وابن رشد بجانب ابن عربي، وابن خلدون في قلب دولة المماليك، إلا لأنها امتداد طبيعي للجماعة الإسلامية والتي لم يكن يؤذي وعيها أن يصدح بلال الحبشي بالآذان، وأن يشير الفارسي على نبينا صلوات الله عليه وسلامه بحفر الخندق، وهؤلاء فاعلون اجتماعيون جنبا إلى جنب مع ابن الخطاب والصِّدِيق وابن عفَّان وابن أبي طالب والزُّبير، وذلك لقيام الإسلام على إيمان عميق بفكرة التنوع والتعددية الثقافية والعرقية، وللأسف لا نجد أثراً لهذا البناء العظيم..
إن الأمم لتزدهر بحاجة إلى آليات للكشف عن ثغرات تماسكها الاجتماعي، ذلك التماسك الذي هو حصنها الذي يجب أن يُرَاقب بحذرٍ غالب لصالح أن تحمي نفسها من غارات الهدم الذَّاتي، وفكرة إعادة كتابة التاريخ ليست هاجساً شوفينياً بقدر ما هي واجبة لتمتين بنائنا الاجتماعي وعدم السماح بأي محاولة لاختراق جُدُرُنا الحصينة، فهي دعوة ينبغي النظر إليها كمسألة أمن ثقافي وليست ترفاً أكاديمياً أملاه المَلل من تكرار القصص على مسامع الطلاب، والحل كما نعتقده أن يعاد النظر في مناهج التاريخ العربي، وأن يشتغل علماء التربية والاجتماع والنفس والثقافة على كتابة مسيرتنا الاجتماعية بكل مظاهرها حتى نستطيع أن نُجفف مصادر العنف، وأن نُعَقِلْن وجودنا الثقافي في عالم يَصدُرُ عن روايةً مُنقحة بعناية المصلحة، أما نحن والحال كذلك سيستمر تِيهُنَا، والحق أننا نتغافل عن جدارة في فهم مأزقنا الحضاري، وأجد نفسي أردد ما قاله فيلسوف الأخلاق اليوناني إيبكتيتوس فما: «ما يؤلمنا حقًا ليس ما يحدث لنا، بل الطريقة التي نفكر بها تجاه ما يحدث!.».
غسان علي عثمان كاتب سوداني