مصطفى بيومي يكتب: سعد زغلول في رواية "عودة الروح".. الرمز والحلم ومفتاح حضارة الشعب الأصيل
تاريخ النشر: 23rd, August 2023 GMT
سعد زغلول ليس زعيما تقليديا يمكن توقعه وانتظاره، لكنه دفقة من الإلهام والعطاء المباغت تجسد فى مشاعر حب فاقت الحدود.
لا يمثل امتدادا لبطولات قريبة تنتمي إلى العصور القبطية والإسلامية، ذلك أنه ينتمي إلى الجذور البعيدة السابقة للتاريخ القريب
زعامة خارقة توحد المصريين وتعيد إليهم مصريتهم، وبفضل هذه المصرية الصافية الخالصة تتراجع الانتماءات الدينية وما قد يصاحبها من توتر وصراع
الأسرة التي يقدمها توفيق الحكيم في "عودة الروح" هي الشعب المصري متعدد الطبقات في إطار الانتماء الواحد؛ الشعب الذي قد يعرف كثيرا من التمييز والاختلاف بين طبقاته، لكنه لا يعرف الفرقة والتشرذم.
تبدأ أحداث الرواية قبل شهور قليلة من اشتعال ثورة ١٩١٩، لكن أحدا من أفراد "الشعب" لا يبدي اهتماما خاصا بالسياسة، ولا ينشغل بما يقع من أحداث خارج نطاق البيت الشعبي بكل همومه وعواطفه ونثريات إيقاع الحياة اليومية، بل إن الحرب العالمية الأولى، التي تنتهي لتوها بإعلان الهدنة، لا تمثل مادة للحديث والحوار بين أفراد "الشعب"، وغاية ما نجده عنها إشارة عابرة ترد على لسان الخادم مبروك، فإذ يقول له الرئيس الشرفي للأسرة حنفي أفندي:
"- وانت كمان إيش كان عرفك بأكل الإنجليز؟"
يجيب مبروك، وهو "خادم شرف" لا ينفصل عن أفراد الأسرة:
"- أمال إيه!.. مش ابن عمي أخدوه في السلطة أيام الحرب مع الجمال والحمير والأنفار اللي أخدوها؟".
لا مرارة في كلمات مبروك، فكأن "السلطة" لا تمثل عبئا على الفلاحين من أمثال ابن عمه، وكأن اغتصاب الإنجليز للبشر والجمال والحمير لا يعني شيئا!.
هذه اللا مبالاة تؤكد أن أفراد "الشعب" لا يهتمون بالسياسة والقضية الوطنية، ذلك أن جارتهم سنية، التي ترمز إلى مصر على نحو ما، هي همهم المقيم واهتمامهم الأكبر، وعلى الرغم من أن "محسن" يشارك الجميع في الانصراف عن السياسة، فإنه الوحيد الذي يدمن الثقافة ويراود أحلاما فكرية تتجاوز العادي والمألوف من الأحلام. يشير محسن إلى نفسه، وإلى صديقه الحميم عباس، ويقول لرفاقه في المدرسة مفاخرا:
"- بكره إحنا اللي نكون لسان الأمة الناطق!..
ونظر إلى عباس كأنما يزيده تشجيعا وتأكيدا، وأراد أن يستمر، ولكن خطرت له عبارة أبرقت لها أساريره.. عبارة تعتبر لمثله ولمن في سنه ومعلوماته وحيا، فاندفع قائلا:
- عباس!.. وظيفتنا بكره حا تكون التعبير عما في قلب الأمة كلها.. فاهم؟.. يا سلام!.. لو تعرفوا قيمة القدرة على التعبير عما في النفس.. التعبير عما في القلوب؟!".
الأمة الهادئة الساكنة الوديعة ليست خرساء على الرغم من صمتها الطويل وما قد يوحي به من سلبية، وقلب الأمة مسكون بالكثير من الأحلام والتطلعات الغائمة الغامضة، لكن المناخ المستقر الراكد لا يتيح الفرصة للتعبير، ولا يسمح بالتحول الجذري من مقام الصمت إلى انطلاقة البوح.
مع بداية الجزء الثاني من الرواية، تبدأ بوادر التحرر من الانغلاق الذاتي والهموم الشخصية المحدودة إلى آفاق أكثر رحابة وأعظم اتساعا، وفي رحلة القطار الذي يركبه محسن من القاهرة إلى دمنهور، يقدم توفيق الحكيم مشهدا دالا ينبىء عن متانة الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين في مصر، وهي وحدة مهددة ببعض المنغصات وآثار الفتنة وسوء الفهم.
أحد "الأفندية" من الركاب، وهو مسيحي، يوجه نقدا لاذعا لسلوك الأوروبيين الاجتماعي، ويأخذ عليهم الانكفاء الأناني المتطرف على ذواتهم، وينبري شيخ من مستقلي القطار معلقا:
"- بلاد ما فيهاش إسلام!.
فلم يجب الأفندي وتغير لون وجهه قليلا، ومد يده متشاغلا بنفض تراب السفر عن طربوشه، في شيء من الخجل والامتعاض!.
وعندئذ لاحظ أحد الركاب في معصمه علامة الصليب فأيقن أن الشيخ قد فاه عن حسن قصد بكلمة أُسيء فهمها فتدخل مصلحا بلطف:
- قصدك يا سي االشيخ بلاد ما فيهاش قلوب.. مش زي بلدنا سواء أقباط أو مسلمين.. كلنا إخوان..
ولاحظ أيضا راكب آخر ذلك، وكان من المتنورين، فدخل في الحديث وأخذ يستدرك الكلام بكياسة حتى وصل إلى إفهام الحاضرين، أن كلمة "إسلام" الشائع استعمالها وترديدها في مصر بين بعض الأوساط؛ ليس لها في الحقيقة أي صبغة دينية أو طائفية، وإنما معناها ومغزاها عاطفة الرحمة وطيبة القلب وارتباط الأفئدة، عواطف يجدها الإنسان في مصر ولا يجدها في أوروبا، حيث فشا في نفوس الإفرنج سم النفعية، وعم التكالب على المصالح الشخصية الفردية".
المصري المسيحي لا ينسجم مع المسيحيين الأوروبيين ولا تروقه أفعالهم التي يراها مستهجنة تعاني من النشاز، وهو يجد نفسه ويحقق ذاته عندما يتعامل مع مواطنيه المصريين دون نظر إلى انتمائهم الديني. المسألة إذن ليست في العقيدة الدينية، لكنها في الهوية الوطنية التي تخلق الثقافة والقيم والعادات والتقاليد ونمط الحياة الاجتماعية. مثل هذا التآلف الحميم بين المسلم والمسيحي في مصر، قد تهدده كلمة طائشة تصدر بنية حسنة أو عن قصد سيء، ولا مناص من التدخل الشارح للكشف عن خبايا ودلالات بعض المفردات التي يتم تداولها بشكل عفوي، ويمكن استثمارها في إشعال صراع مدمر.
لم تكن الوحدة الوطنية ضائعة مهدرة قبل ثورة سنة ١٩١٩، لكنها كانت مهددة لا تنجو من القلق والتوتر والتوجس. الوطنية المصرية الصافية الخالصة كانت في حاجة إلى مواجهة الاختبار وتجاوز التحدي، فعند المواجهة يظهر المعدن المصري الأصيل وتتلاشى الفروق والاختلافات الطارئة. الانسجام الوطني ليس بالشيء المستغرب في حضارة عريقة مثل الحضارة المصرية، وفي رحلة القطار نفسها يقول الأفندي المسيحي مفاخرا:"أهل مصر شعب أصيل عريق، فين ٨ آلاف سنة وإحنا في وادي النيل!.. وكنا نعرف الزراعة والفلاحة، ولنا قرى ومزارع وفلاحين وقت ما كانت أوروبا لسه ما وصلتش حتى لدرجة التوحش".
قد يوحي الظاهر المادي المباشر بالتخلف، وربما تكشف معاناة المصريين عن تراجع لافت مقارنة بالغرب، حال انصراف المعنى الحضاري إلى الإنجازات المادية ومستوى الإنتاج الاقتصادي والتقدم العلمي، لكن اليقين القابع في أعماق المصريين جميعا أنهم شعب أصيل عريق، وأنهم قادرون على التطور وتجاوز الأزمات المتراكمة المصنوعة بمعرفة الغزاة والوافدين.
في أيام الإجازة التي يقضيها محسن مع أسرته الريفية الثرية، عديد من المشاهد والممارسات التي تكشف عن معاناة الفلاح المصري قبل الثورة. يتعرض لاضطهاد وازدراء كبار الملاك الزراعيين، ويعاني من التفاخر الكاذب الذي يمارسه بدو لا يملكون حضارة أو ثقافة، ويظنون أنهم الأكثر أصالة والأعظم مكانة والأسمى تاريخا. يكابد الفلاح المصري المعدم من مشقة بادية تتجلى في سوء المسكن وقذارة الملبس وتفاهة الطعام، لكن هذه المظاهر جميعا، وهي ترجمة صادقة للواقع البائس ماديا، لا تنفي أن الحضارة كامنة في الأعماق وتنتظر الفرصة للانطلاق والتحقق.
كبار ملاك الأراضي يحتقرون الفلاحين وينظرون إليهم كأنهم جنس أدنى، واستقبال الفلاحات الحافل لأم محسن تقابله جفوة ظاهرة من الأم التركية المتغطرسة المتعالية، وإذ يعاتبها محسن في تأثر يليق برقته ورومانسيته:
"- ليه يا نينة تطرديهم؟.. حرام"
ترد بجفاء وقلة اكتراث:
"- حرام إيه.. دول فلاحين!".
"دول فلاحين"!، بما يصاحب المقولة من جفاء ولا مبالاة، تجسد الفجوة الطبقية الهائلة بين الأقلية التي تملك كل شيء والأغلبية الساحقة الكادحة التي لا تملك شيئا. الاستغلال ليس طبقيا اقتصاديا فحسب، لكنه أيضا قهر عنصري يسلب إنسانية الفلاح ويهبط بشأنه إلى درك سحيق!.
لا تنبع معاناة الفلاحين من معاملة كبار الملاك وحدهم، فهم عرضة لغرور البدو وتفاخرهم الكاذب. يقول محسن للخفير البدوي عبد العاطي، الذي يرفض بإصرار أن تتزوج أخته من فلاح:
"- بقا البدوي أحسن من الفلاح يا عبد العاطي؟
فأجاب الخفير وهو يحدق به مستغربا جهله:
- كيف يا بيه البدوي مثل الفلاح؟!
- إيه الفرق بين الاتنين؟
- كيف يا بيه.. كيف؟.. البدوي أصيل!..
- والفلاح مش أصيل؟..
- الفلاح عبد بن عبد.. إحنا بدو ما نرضى الضيم!"
لا يرقى الفلاحون العاملون الكادحون إلى مرتبة البدو الذين يعيشون متطفلين على هامش العملية الإنتاجية ولا يعرفون حضارة أو تاريخا!، والفارق بينهما من منظور البدوي المتعصب هو "الأصل": الفلاح عبد يرضى بالظلم والاضطهاد، والبدوي حر لا يصبر على الضيم والمهانة. قد يوحي الظاهر السطحي بصدق ما يقوله عبد العاطي، لكن الجوهر المستتر في حاجة إلى ثورة تنعشه وتعيد إليه الروح والقدرة على إعادة الأمور إلى نصابها.
ولأن محسن هو المثقف الحالم الذي يراود فكرة أن يكون لسان الأمة الناطق والمعبر عن قلبها وضميرها، فإنه يتعاطف مع الفلاحين ويمجد حياتهم من منطلق رومانسي متطرف الحماس، يخاصم معطيات الواقع المادي ويحلق في خيالات وأوهام أقرب إلى الشطحات الفنية منها إلى التحليل المنطقي المقنع.
في مقابل رومانسية محسن المفرطة، يظهر عالم الآثار الفرنسي ليمزج بين الموضوعية والرومانسية، ذلك أن تمجيده المثالي لا يخلو من منطق يتكىء على معطيات التاريخ والقراءة الواعية لأعماق الشخصية المصرية التي لا تخلو من الصدأ وليد الإهمال، ولا تنجو أيضا من الآثار السلبية الوخيمة لقرون القهر والكبت.
يقول العالم الفرنسي لزميله مفتش الري الإنجليزي:"إن هذا الشعب الذي تحسبه جاهلا ليعلم أشياء كثيرة، لكنه يعلمها بقلبه لا بعقله!.. إن الحكمة العليا في دمه ولا يعلم!.. والقوة في نفسه ولا يعلم!.. هذا شعب قديم: جىء بفلاح من هؤلاء وأخرج قلبه تجد فيه رواسب عشرة آلاف سنة، من تجارب ومعرفة رسب بعضها فوق بعض وهو لا يدري!".
"علم القلب" على الرغم من "غيبوبة العقل"، والحكمة المتوارثة الدفينة، والقوة الحبيسة في انتظار مثير منبه مفجر يخرج بها من القمقم ليبدأ الطوفان. الفلاحون هم المصريون الحقيقيون، ومصر ليست إلا كتلة فلاحين هالة تختزن ثورة طال عليها الصبر. في اللحظة التاريخية المناسبة، تصدر عن هؤلاء الفلاحين أفعال خارقة تشبه المعجزات. متى وكيف تأتي مثل هذه اللحظة؟
هذا هو السؤال!.
العالم الأثري الفرنسي لا يقرأ غيبا، لكنه يطالع تاريخا يمكن دمجه مع الواقع والارتفاع به إلى مرحلة النبوءة-النذير، وتتألق كلماته التي تحذر دولة الاحتلال من الثقة المفرطة في استقرار أبدي لا يعرف التغيير:"احترسوا من هذا الشعب، فهو يخفي قوة نفسية هائلة!".
متى وكيف تنطلق هذه القوة؟!، وما الذي يحتاجه الفلاحون المصريون لإعادة رسم وتشكيل الخريطة الظالمة؟. كيف تشتعل الثورة يبدأ الانقلاب الذي يراهن السطحيون على أنه لن يقع أبدا؟!.الإجابة يقدمها الفرنسي المولع بمصر والمصريين:
"- أجل يا مستر بلاك!.. لا تستهن بهذا الشعب المسكين اليوم، إن القوة كامنة فيه، ولا ينقصه إلا شيء واحد!.
- ما هو؟..
- المعبود!.
فنظر الإنجليزي إليه نظرة لا يدري: أمعناها الاستيضاح أم الموافقة!..
فأجابه الفرنسي بعد هنيهة:
- نعم ينقصه ذلك الرجل منه الذي تتمثل فيه كل عواطفه وأمانيه ويكون له رمز الغاية.. عند ذاك، لا تعجب لهذا الشعب المتماسك المتجانس المستعذب، والمستعد للتضحية، إذا أتي بمعجزة أخرى غير الأهرام!".
المعبود-الزعيم هو ما يحتاجه المصريون لينفضوا عن كاهلهم عبء الصبر الطويل على ما لا يرضونه من المظالم، والمعبود المستهدف ليس بعثا وإعادة إنتاج للوثنية القديمة، لكنه "رمز" يلتف حوله الجميع ويسيرون وراءه ويراهنون من خلاله على الغاية والمثل. لن تصل اللوحة إلى تمامها ومنتهاها إلا بعد بزوغ الرمز والمفتاح، فمثل هذا الزعيم المنتظر هو القادر على قيادة جموع تملك في أعماقها الحضارة والحلم، وتجهل الاتجاه والطريق.
وكأنما بلا سابق إنذار، تشتعل الثورة وتصح نبوءة الفرنسي البصير. تنهض مصر بعد استغراقها في سبات طويل، وتولد زعامة سعد زغلول التي تتمثل فيها كل العواطف والأماني:
"لقد صدق نظر الأثري الفرنسي..
أمة أتت في فجر الإنسانية بمعجزة الأهرام لن تعجز عن الإتيان بمعجزة أخرى.. أو معجزات!.. أمة يزعمون أنها ميتة منذ قرون، ولا يرون قلبها العظيم بارزا نحو السماء من بين رمال الجيزة!.. لقد صنعت مصر قلبها بيدها ليعيش الأبد..!
لعل هذا الأثري الذي يحيا في الماضي كان يرى مستقبل مصر أكثر من أي إنسان!.
ربيع مصر
في شهر مارس.. مبدأ الربيع.. فصل الخلق والبعث والحياة.. اخضرت الأشجار بورق جديد وحبلت وحملت أغصانها الأثمار!..
وكذلك مصر أيضا.. قد حبلت وحملت في بطنها مولودا هائلا.. وها هي مصر التي نامت قرونا تنهض على أقدامها في يوم واحد.. إنها كانت تنتظر -كما قال الفرنسي- تنتظر ابنها المعبود رمز آلامها وآمالها المدفونة يُبعث من جديد.. وبُعث هذا المعبود من صلب الفلاح!".
معجزة الأهرام تتكرر من جديد، فليست الثورة الشعبية الخارقة إلا معجزة غير مسبوقة في التاريخ المصري، والأمة المتهمة بالموات تنهض في عنفوان حي يذهل الجميع، ويبدأ عصر الاخضرار والإشراق والأمل.
الثورة من صناعة الشعب الظامئ للتمرد والخلاص، والقيادة والبطولة من نصيب زعيم هو مزيج من الابن المولود والأب الخالق. سعد زغلول ابن مصر المولود وأبوها المعبود، وهو رمز مضيء لبعث الآمال المدفونة، والأهم من ذلك كله أنه ينتمي إلى الفلاحين، ورسالته السامية أن يعيدهم إلى الصدارة ويزيل عكارة طالت حتى أوشكت أن ترسخ صورة نمطية كاذبة عن السلبية المزمنة والرضا بالهوان.
لا ينشغل الحكيم كثيرا بمقدمات الثورة وتفاصيل ما يسبقها من أحداث، فالثورة تبزغ "فجأة" كأنها هابطة من سماء الحلم، والانتفاضة الشعبية العارمة لا تحظى بالكثير من اهتمام الروائي، ذلك أن التركيز الأكبر ينصب على الزعيم-الرمز الذي يقود البعث:"كان الجميع يتحدثون عن رجل لم يسمع به محسن من قبل، ولكنه أحس في لحظة أن حياته يجب أن تُعطى لهذا الرجل".
لم يكن سعد زغلول قبل الثورة مشهورا معروفا على نطاق واسع، ولعل أحدا لا يعرفه إلا القلة من المهتمين بالسياسة، وهي قلة لا تعبر عن "الشعب" المختزل في أسرة محسن الشعبية، وبفضل هذا الغموض النسبي تكتمل "فنية" الزعامة الرمزية التي يؤمن بها الحكيم ويتشوق إليها.
إن سعد زغلول ليس زعيما تقليديا يمكن توقعه وانتظاره، لكنه دفقة من الإلهام والعطاء المباغت. رد فعل محسن، الذي ينوب عن الغالبية العظمى من المصريين، يتجسد في مشاعر حب تفوق الحدود. رجل غير معروف، لكنه يتحول "فجأة" إلى المعنى الوحيد في حياة ينتظرها تغيير جذري شامل:"ما غابت شمس ذلك النهار حتى أمست مصر كتلة من نار، وإذا أربعة شر مليونا من الأنفس لا تفكر إلا في شيء واحد: الرجل الذي يعبر عن إحساسها.. والذي نهض يطالب بحقها في الحرية والحياة؛ قد اُخذ، وسُجن، ونُفي في جزيرة وسط البحار!!.
كذلك "أوزوريس" الذي نزل يصلح أرض مصر ويعطيها الحياة والنور، اُخذ وسُجن في صندوق، ونُفي مقطعا إربا في أعماق البحار!".
حول "هذا الرجل" تتجمع كل المشاعر والأحاسيس، فهو الرمز المنتظر لتحقيق أحلام الحرية والحياة، وهو "الطبعة العصرية" من "أوزوريس" الذي تحيط به قوى الشر وتحرم المصريين من خيره العميم. سعد زغلول لا يمثل امتدادا لبطولات قريبة تنتمي إلى العصور القبطية والإسلامية، ذلك أنه ينتمي إلى الجذور البعيدة السابقة للتاريخ القريب. زعامة خارقة توحد المصريين وتعيد إليهم مصريتهم، وبفضل هذه المصرية الصافية الخالصة تتراجع الانتماءات الدينية وما قد يصاحبها من توتر وصراع:"كان الناظر إلى القاهرة وشوارعها أثناء ذلك الوقت يرى منظرا عجيبا.. في وسط المظاهرات والهتافات.. كانت ترفرف الأعلام المصرية وقد رُسم فيها الهلال يحتضن الصليب!.. ذلك أن مصر أدركت في لحظة أن الهلال والصليب ذراعان في جسد واحد له قلب واحد: مصر!!".
إذا كانت الرواية تبدأ بـ "الشعب" مريضا متماسكا، فإنها تنتهي به سجينا متماسكا بلا مرض. أفراد الأسرة الواحدة ينتظرون الخروج والعبور إلى عالم جديد؛ عالم تشرق فيه زعامة قادرة على قيادتهم لتحقيق أحلام الحرية والاستقلال والتخلص من الظلام والمظالم.
العاديون من الناس الذين يشعلون الثورة ويضحون من أجلها، قد لا ينالون الثمرة المشتهاة، والذين لم يشاركوا ولم يدفعوا الثمن هم المؤهلون للإفادة وجني الثمار. مصطفى، بلا تضحيات، يتهيأ للزواج من سنية والاستحواذ عليها:"العقد والتأهيل يوم تهدأ الحالة، بإعادة المنفيّ العظيم إلى مصر الوالهة!.
وهكذا.. قد يتفق يوم خروج محسن ورفاقه من السجن مع يوم زفاف سنية إلى مصطفى!".
هل يظفر الأغنياء الوارثون بمصر التي يضحي من أجلها الفقراء؟، وهل يعود الزعيم من المنفى ليعتمد العقد ويوافق على التأهيل؟.
الزواج لم يتم بعد، والانتظار قائم، والأمر رهين بسعد زغلول الذي يغيب اسمه عن الرواية!.
يسيطر سعد على الفصلين الأخيرين من فصول "عودة الروح"، لكن أحدا لا يذكر اسمه، فكأنه سر مقدس يسمو عن الاقتران بغيره من الأسماء العادية التي لا ترقى إلى مكانته السامية في قدس الأقداس!.
ابن معبود من صلب االفلاحين، ورجل لم يُسمع عنه من قبل، يعبر عن إحساس وأحلام الملايين. المنفيّ في جزيرة وسط البحار، شبيه أوزوريس ووريثه المتربع فوق عرش القلوب، صانع بطولات المصريين الخارقة والمسئول عن تضحياتهم غير المسبوقة، مفجر المشاعر النبيلة التي تغيب طويلا؛ كل هذه السمات بمعزل عن اسم الزعيم!.
ينتقل محسن من سنية إلى سعد، ويتم الانتقال بلا إشارة إلى الاسم المقدس:"استحالت كل عواطف التضحية التي كان مستعدا لبذلها في سبيل معبود قلبه، إلى عواطف تضحية جريئة من أجل معبود وطنه".
لم يكن محسن في لحظات وجده قادرا على النطق باسم معبودة قلبه، فكيف له أن يتلفظ باسم معبود الوطن؟!
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: توفيق الحكيم عودة الروح الزعيمان سعد زغلول ومصطفى النحاس سعد زغلول هذا الشعب ذلک أن فی مصر
إقرأ أيضاً:
رواية الجزائر-فرنسا.. وفصل السيد بوعلام صنصال!
"بوعلام زيد لقدام'' (بوعلام تقدم إلى الأمام) عنوان مسرحية شهيرة في الجزائر كتبها وأخرجها في ثمانينيات القرن الماضي المسرحي سليمان بن عيسى، وكانت بجرعة انتقادية رمزية كبيرة وواضحة، لا يمكن أن يُسمح بها في زمن النظام الحالي في ما تسمى بـ"الجزائر الجديدة والمنتصرة". كانت المسرحية إدانة وإنذار لحكم نظام الحزب الواحد المفلس، حينها، الذي يتقدم بالبلاد إلى الهاوية بسياسة الهروب إلى القدام. هل تغيرّ المشهد؟ قد يرد الواقع بأن المشهد لم يتغير في جوهره، وأنه تدور على "المسرح السياسي الجزائري" وبمتابعة عالمية فصول عرض فيه شخصية أخرى اسمها بوعلام وأحداث تتراوح بين "زيد لقدام" (تقدم إلى الأمام) .. و"زيد للوراء" (تقدم إلى الوراء)!
بوعلام هنا، هو الكاتب الجزائري ـ (والفرنسي منذ أشهر) ـ بوعلام صنصال، المحبوس منذ منتصف نوفمبر 2024 في الجزائر، وحُكم عليه مؤخرا بخمس سنوات سجنا نافذا، والذي تحولت قضيته إلى "قضية دولة" بالنسبة لباريس، وأججت الأزمة بينها وبين السلطات الجزائرية، التي كانت وصلت حد القطيعة بعد اعتراف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمغربية الصحراء الغربية في يوليو 2024. لكن بعد ثمانية أشهر من التصعيد والتوتر الشديد بين البلدين، بدا أن هذا الموضوع المبدئي والحساس بالنسبة للجزائر، اختفى مثل سحابة عابرة من سماء العلاقات الجزائرية ـ الفرنسية، بعد تغير لهجة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون من تحذير ماكرون من "خسارة الجزائر" بهذا الاعتراف الذي يخرق القانون الدولي إلى توجيه رسائل تهدئة في تصريحات بثها التلفزيون الجزائري، قائلا إنه لا يكترث “بالفوضى” و”الجلبة السياسية” المثارة في باريس ضد بلاده، وأن المرجع الوحيد الذي يعمل معه هو الرئيس إيمانويل ماكرون. كما نفى أن يكون اعتراف ماكرون بمغربية الصحراء الغربية، مزعجا للجانب الجزائري، بل للشرعية الدولية على حد قوله.
بدت سماء العلاقات فجأة زرقاء، بل و"زقرقت العصافير"، بعدها بأيام بمكالمة يوم عيد الفطر بين ماكرون ونظيره الجزائري عبد المجيد تبون. وجاء في بيان للرئاسة الجزائرية أن تبون تلقى اتصالا هاتفيا من نظيره الفرنسي ماكرون بمناسبة العيد وانهما اتفقا على استئناف التعاون بين البلدين في شتى المجالات، مع تلميح واضح لإيجاد مخرج لقضية الكاتب المسجون "السيد بوعلام صنصال"، كما وصفه البيان، في تغيّر، بل انقلاب كبير في اللهجة تجاه صنصال الذي كان هاجمه تبون بشدة، ووصفه بأنه مجهول الأب ولص مبعوث من فرنسا"، مع إبراز لمناشدة ماكرون لـ"بصيرة تبون للقيام بلفتة إنسانية تجاه صنصال" في تكرار لمناشدة سابقة مماثلة من ماكرون لتبون بعد التماس 10 سنوات سجنا نافذا ضد بوعلام صنصال.
بعدها بأيام زار وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو الجزائر، وعقب استقباله من تبون أعلن عن عودة العلاقات الثنائية إلى طبيعتها بعد فترة حادة امتدت نحو ثمانية أشهر، وتحدث هو عن "طي صفحة التوتر"، ونقل عن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قوله “لقد رفع ستار" الأزمة بين البلدين.
بدا التعبيران لافتين، فالوزير تحدث عن "طي صفحة" فصل من فصول ما يمكن اعتبارها "رواية العلاقات الجزائرية الفرنسية"، وإن يبقى "فصل السيد بوعلام صنصال"، الروائي الكبير ـ (ليس بالنسبة لي شخصيا من كل النواحي وأولها الأدبية) ـ كما يصفه ماكرون وأنصاره في فرنسا.
أما تبون فتحدث عن "رفع الستار" على ما يمكن تسميتها بالتالي "مسرحية العلاقات الجزائرية الفرنسية"، التي هي أقرب إلى "مسرح العبث"، إذا تتبعنا فصولها الأخيرة، وخاصة "فصل بوعلام صنصال"، الذي يبدو أنه حدث تحول، أو بالأحرى انقلاب في أحداثها. وقد جاء بعد تصريح لسفير فرنسا الأسبق في الجزائر غزافييه دريانكور، صديق صنصال والذي كانت علاقة الأخير به واحدة من التهم الموجهة له خلال محاكمته في الجزائر. ففي تصريح لإذاعة فرنسية قال دريانكور إن الرجل الثاني في الدولة الجزائرية، رئيس مجلس الأمة التسعيني صالح قوجيل، الذي حارب الاستعمار الفرنسي، "يمتلك شقة في فرنسا، والدينار الجزائري غير قابل للتحويل فكيف اشتراها؟"، جاء ذلك بالتزامن مع تصريح تصعيدي لوزير الداخلية الفرنسية برونو روتايو عن "استهداف شقق وممتلكات المسؤولين الجزائريين، الذين يهاجمون فرنسا، بينما يشترون عقارات فيها ويعالجون فيها، ويرسلون أبناءهم للعيش فيها". وكان ذلك بالتوازي مع قرار السلطات الفرنسية بوقف امتيازات الدخول الممنوحة للمسؤولين الجزائريين، من حملة جوازات السفر الديبلوماسي، ومنعهم من دخول التراب الفرنسي، وتم الكشف في هذا السياق عن "طرد مدير سابق لديوان الرئيس تبون، من مطار باريس ومنعه من دخول فرنسا".
بدا بعدها "تحول لافت" وجنوح نحو التهدئة في أحداث "رواية" أو "مسرحية" هذه العلاقة المتوترة بين الجزائر وفرنسا، وكان فصل قضية "السيد بوعلام صنصال" وكأنه "كلمة السر" فيها.
وفي "تسريع" لهذه الأحداث تم "التعجيل" بمحاكمة صنصال "المريض والمسن" (في السجلات الرسمية عمره 75 عاما، بينما أنصاره يصرون على أن عمره في الحقيقة 80 عاما)، وتم تحويل القضية "بقدرة قادر" من جناية إلى جنحة، بينما يقبع في السجون أكثر من مائتي معتقل رأي، بينها الكثير من المسنين ومن يعانون أمراضا مزمنة.
وفي آخر تطورات هذا الفصل تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أمس الجمعة، للصحافة بعد زيارته لجناح المغرب، ضيف الشرف في لمعرض الكتاب في باريس هذا العام، أنه “واثق” من الإفراج القريب عن الكاتب الجزائري ـ الفرنسي بوعلام صنصال، المحكوم عليه بالسجن خمس سنوات نافذة في الجزائر، لأنه يحظى بـ”اهتمام خاص” من قبل السلطات الجزائرية.
كموقف مبدئي وجب أن أقول إنني ضد اعتقال بوعلام صنصال، الذي منحه ماكرون الجنسية الفرنسية، قبل أشهر قليلة، من اعتقاله في الجزائر وإعطائه تلك الهالة الكبيرة، والفرصة الاستغلالية للأذرع السياسية والإعلامية الصهيونية واليمينية الاستعمارية المتطرفة في فرنسا، وإسرائيل، الداعمة له، والمناصر المتحمس هو بدوره لها. وقد برز موقفه ذلك بشكل أكثر فجاجة في دعم والتبرير للكيان الصهيوني وإجرامه بشكل أوضح بعد 7 أكتوبر 2023.
تم اعتقال صنصال في مطار الجزائر، في نوفمبر 2024 بعد عودته من باريس، وإيداعه الحبس الاحتياطي بتهم "أفعال إرهابية تستهدف أمن الدولة والوحدة الوطنية والسلامة الترابية" تحت طائلة المادة 87 مكرر. وذلك على خلفية التصريحات التحقيرية التي أدلى بها لقناة إلكترونية محسوبة على اليمين المتطرف في فرنسا، والتي ادعى فيها أن كل الغرب الجزائري يعود تاريخيا للمغرب، وأن الاحتلال الفرنسي اقتطعه منه.
وهو طرح ليس عن جهل في اعتقادي، لأن صنصال (المغربي الأصل من جهة والده ومن منطقة الريف تحديدا بكل إحالات ذلك) يعرف حقيقة التاريخ، إنما هو تصريح استفزازي مقصود منه لإرضاء اليمين العنصري الاستعماري الفرنسي. وكان يمكن نسف هذا الطرح بسهولة وبالأدلة والشواهد التاريخية مثلما فعل مثلا المؤرخ الفرنسي (اليهودي الجزائري) الشهير بنجامين ستورا، بدلا من تقديم خدمة دعائية له من قبل النظام الجزائري الذي خدمه صنصال لسنوات ولم يكن أبدا معارضا له، حيث كان صنصال مسؤولا كبيرا في وزارة الصناعة الجزائرية بمزايا كبيرة، وتباهى في الحوار نفسه مع القناة اليمينية العنصرية الفرنسية بأنه كان يُدعى "مسيو (سيد) الصناعة في الجزائر"! والخراب الذي يعرفه هذا القطاع في الجزائر يغني عن أي تعليق عن تباهي صنصال!
خرجات صنصال الاستفزازية ستسمر، ففي 2016 نفسها صدَم الجزائريين وغير الجزائريين، من بينهم حتى الكثير من الفرنسيين، بتشبيه الإرهابيين "الداعشيين" الذين ينفذون عمليات إرهابية في أوروبا، بمجاهدي ثورة التحرير الجزائرية الذين كانوا ينفذون عمليات فدائية ضد الاستعمار الفرنسي.وقد كشف وزير الصناعة الجزائري السابق الهاشمي جعبوب (وهو أيضا من خدام هذا النظام الذي عاث في البلاد فسادا!)، أنه لما تسلم الوزارة وجد أن صنصال كان يتصرف كما يشاء، وأنه لما استفسره عن غيابه وسفرياته المتعددة إلى فرنسا، أجابه الأخير بأنه مكلف بمهام من أعلى مسؤولين في النظام، وهي تتجاوز الوزير نفسه!
كان ذلك في بداية الـ2000 عندما بدأ نجم صنصال، الذي جاء متأخرا للكتابة في الخمسينيات من العمر، يبزغ في فرنسا بروايته الأولى "قسم البرابرة"، وبدأت خرجاته المدغدغة والمغذية للكليشيهات تطرب اليمين العنصري المتطرف في فرنسا، من دفاعه عن اللغة الفرنسية بملكية أكثر من الملك إلى هجومه على المسلمين والإسلام.
وقد برز المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا كأكثر الجهات دفاعا عن صنصال، ووصفه بـ"كاتب النور المدافع عن القيم العالمية، الذي يواجه الظلامية". وطالب بـ"الإفراج الفوري عنه".
وكان صنصال قبل نحو عام ضيفا في ندوة خاصة نظمها هذا المجلس له، وزايد فيها صنصال على الحاضرين بالقول إنه تردد على الكنيس اليهودي، وقرأ التوراة أكثر من الكثيرين من اليهود الحاضرين! وأعاد صنصال في الندوة ترويج رواية اتُهم باختلاقها لدغدغة الأوساط الصهيونية بزعمه أن حاخاما يهوديا رعاه ورعى والدته في حي بلكور بالجزائر العاصمة، وأعطاهما غرفة في كنيس يهودي للإقامة فيه، وأن صنصال الطفل تربى عمليا على يد هذا الحاخام.
وكانت دغدغات صنصال للكيان الصهيوني تكللت في أيار/ مايو 2012، بالتزامن مع إحياء الفلسطينيين الذكرى الرابعة والستين للنكبة، عندما دعاه الكيان الصهيوني للمشاركة كـ"ضيف شرف" في مهرجان أدبي بالقدس المحتلة، احتفالًاً بذكرى إنشاء الكيان الإسرائيلي، وقد لبَّى صنصال الدعوة، بل وعبَّر حتى في حوار مع صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، عن افتخاره بزيارة الكيان الصهيوني وتشوقه لزيارته مرة أخرى، ومدحه علنا لإرضاء اللوبي الصهيوني النافذ لأغراض جوائزية مفضوحة (وهو ما تحقق له لاحقا). وفي حواره مع الصحيفة الإسرائيلية نفسها في 2015، للتسويق لروايته التي تحمل عنوان "2084"، قال إن أحداث الرواية تقع في عام "2084"، ويسيطر فيها على العالم حكم ديكتاتوري عالمي للدولة الإسلامية، ليس "داعش" كما يصحح لمحاورته الإسرائيلية إنما إيران!
بالتزامن ذهب بوعلام صنصال، في حواره مع صحيفة "الوطن" الجزائرية (وبدون مناقشة وبشكل غريب من محاوره الجزائري حينها!) للزعم "أن الجزائر مُطعمة ضد الديمقراطية"، وتمادى لحد تقزيم الجزائر في سياق هوسه "الهذياني" لتسليمها لحكم الملالي الشيعة في إيران، إلى جانب الدول العربية الأخرى وحتى تركيا، بالقول بأن "الجزائر لا تساوي شيئا، وهي بلد صغير غير متسق، وسيتم ابتلاعها ومضغها كقطعة خبز صغيرة"!
خرجات صنصال الاستفزازية ستسمر، ففي 2016 نفسها صدَم الجزائريين وغير الجزائريين، من بينهم حتى الكثير من الفرنسيين، بتشبيه الإرهابيين "الداعشيين" الذين ينفذون عمليات إرهابية في أوروبا، بمجاهدي ثورة التحرير الجزائرية الذين كانوا ينفذون عمليات فدائية ضد الاستعمار الفرنسي.
وقبل ذلك ففي 2008 أصدر رواية بعنوان "قرية الألماني أو مذكرات الأخوان شيلر"، وقد ترجمت الرواية إلى الإنجليزية في أمريكا بعنوان "المجاهد الألماني"، فيما ترجمت ببريطانيا بعنوان مغاير "عمل غير منجز" ربما خوفا من ردود فعل غاضبة لهذا الخلط والتدليس، بربط ثورة التحرير الجزائرية ومجاهديها بالنازية وحتى كما يزعم صنصال الرابط بين "الأصولية الإسلامية" والنازية! ويقدم صنصال في هذه الرواية التشويهية "عربون ولاء آخر للصهيونية وإسرائيل، فـ"المجاهد الألماني"، كان ضابطاً نازياً لجأ إلى مصر، وأرسله جمال عبد الناصر لمساندة الثورة الجزائرية في خمسينات القرن الماضي!
ولصنصال استقزازات أخرى لا يسع المجال لذكرها كلها، ولكن رغم ذلك فإنني أختم بالتأكيد مرة أخرى أن حبسه في الجزائر قدم خدمة له ولرعاته، وأن مواجهته فكريا وكشف تناقضاته وتهافت طروحاته وطروحات رعاته المتداعية، كان هو الرد الأفضل.
*كاتب جزائري مقيم في لندن