لا تزال أصول اللغة البشرية لغزا محيرا للعلماء، وعلى الرغم من أن بعض الأدلة تشير إلى أن النياندرتال كانت لديهم تراكيب تشريحية في الحنجرة والأذن تمكنهم من التحدث والاستماع، فإن الدماغ البشري وحده هو الذي شهد توسعا في المناطق المسؤولة عن إنتاج وفهم اللغة.

وبحسب دراسة جديدة نُشرت في دورية "نيتشر كوميونيكيشنز"، فإن فريقا بحثيا من جامعة روكفلر الأميركية أعلن أنه على مقربة من الكشف عن هذا السر، حيث حصل العلماء على أدلة وراثية مثيرة تشير إلى وجود بروتين يُعرف باسم "نوفا 1" موجود حصريا لدى البشر ربما قد لعب دورا حاسما في نشأة اللغة المنطوقة.

ويقول محمد الجندي، باحث في الكيمياء الحيوية في جامعة أوبسالا السويدية، وغير المشارك في الدراسة، في تصريحات حصرية للجزيرة نت: "المتغير هو أحد أشكال التحول في الجينات، فلكل جين شكل أساسي، وعندما تحدث له بعض التغيرات الطفيفة تؤدي إلى ظهور المتغيرات، ولكن في معظم الحالات تحافظ المتغيرات على نفس وظيفة الجين الأساسي ولا ترقى إلى تكوين جين جديد بوظيفة مختلفة".

والجينات هي أكواد موجودة على الحمض النووي الموجود في خلايا أجسامنا، كل منها مسؤول عن سمة أو وظيفة محددة، ويمكن النظر إلى الحمض النووي كله على أنه "كتاب تعليمات" ضخم يحتوي على جميع الأوامر البيولوجية التي تجعل الكائن الحي على ما هو عليه.

نمط التعبير عن جين (نوفا 1) في دماغ الفأر، ويظهر (نوفا 1) باللون الأخضر (جامعة روكفلر) لغز النطق يحير العلماء

لطالما ارتبطت القدرة اللغوية لدى البشر بجين يدعى (فوكس ب 2)، يتحكم في تطوير الدماغ، إلا أن دوره لا يزال محل جدل. وعلى النقيض، يُعتقد أن جين (نوفا 1) يلعب دورا أكثر تعقيدا.

إعلان

ولقياس ذلك، أدخل فريق بقيادة روبرت دارنيل، رئيس مختبر علم الأورام العصبي الجزيئي في جامعة روكفلر، المتغير البشري من بروتين (نوفا 1) في فئران المختبر، وأظهرت النتائج نجاح الفئران في إصدار أصوات مختلفة عند التواصل فيما بينها، مما يشير بحسب الباحثين إلى تأثير هذا المتغير على الأنماط الصوتية.

وتشرح يوكو تاجيما، من مختبر علم الأورام العصبية الجزيئي، جامعة روكفلر بالولايات المتحدة الأميركية، والمؤلفة الأولى للدراسة في تصريح حصلت الجزيرة نت على نسخة منه قائلة: "التغيرات التي طرأت على جين (نوفا 1) ربما قد أدت إلى تطورات مهمة في الدماغ البشري ساهمت في نشأة اللغة وتطورها." وأضافت: "اكتشفنا أن التغيير البشري الفريد في البروتين يتسبب في تغييرات جوهرية في التعبير الجيني المرتبط بالصوتيات."، ولذلك يعتقد الباحثون بناء على تجربتهم أن (نوفا 1) ربما يكون جينا رئيسيا في اللغة البشرية.

استخدم الباحثون تقنية كريسبر لتحرير الجينات بهدف استبدال النسخة الطبيعية من بروتين (نوفا 1) في الفئران بالمتغير البشري (شترستوك) توظيف التحرير الجيني رغم التحديات

استخدم الباحثون تقنية كريسبر لتحرير الجينات بهدف استبدال النسخة الطبيعية من بروتين (نوفا 1) في الفئران بالمتغير البشري. وعند تحليل تأثير هذا التغيير، لم يجد الباحثون أي تأثير على الوظائف العصبية أو الحركية، لكنهم لاحظوا تغيرات ملحوظة في الأصوات التي تصدرها الفئران.

ويقول الجندي: "من التحديات التقنية لاستخدام التحرير الجيني في هذا المجال هو أن بعض المتغيرات لا تتوافق عند نقلها بين البشر والفئران، وثاني التحديات يكمن في قَصْر عملية التحرير على حمض أميني واحد فقط تجنبا لظهور أي نتائج غير مرغوب فيها، بالتالي تسهل عملية قياس نتائج تحرير الجين".

راقب الباحثون، وسجلوا وحللوا الأصوات التي تصدرها الفئران المعدلة وراثيا، وقارنوها بالفئران الطبيعية. ونظرًا لأن الفئران تصدر أصواتا لا يمكن سماعها بالأذن البشرية، استخدم الباحثون ميكروفونات حساسة للموجات فوق الصوتية لتسجيل الأصوات في حالتين: عندما تكون صغار الفئران منفصلة عن أمهاتها، لاستكشاف نداءات الاستغاثة، وأثناء تفاعل الذكور مع الإناث البالغة لدراسة أصوات المغازلة.

إعلان

وبعد جمع التسجيلات، حلل الباحثون الصوتيات باستخدام برامج متخصصة لتحديد الفروق بين الفئران العادية والمعدلة، وركزوا على عدة معايير، هل الفئران المعدلة تصدر أصواتا أكثر أو أقل من العادية؟ وتصنيف الأصوات إلى أنواع مختلفة، مثل نغمات بسيطة أو متغيرة أو متقطعة، والتغييرات في تردد الأصوات، مثل ارتفاعها أو انخفاضها، وطولها وقصرها، ومدى التعقيد.

وعند مقارنة البيانات، وجد الباحثون أن الفئران المعدلة وراثيا أظهرت تغيرات في تردد الأصوات عند الصغار، حيث أصبحت بعض النغمات أكثر حدة أو أقل حدة من المعتاد. كما لاحظوا انخفاضا في عدد النغمات مما يشير إلى نمط صوتي مختلف.

أما في البالغين، فقد ظهرت تغييرات في الأصوات المستخدمة خلال المغازلة، حيث أصبحت بعض النغمات أقل تكرارا أو أكثر تعقيدا، بالإضافة إلى اختلافات في الترددات العليا، مما يشير إلى تأثير محتمل على التحكم العصبي بالأصوات. وكانت لحظة مذهلة بحسب الباحثين، إذ لم يتوقعوا هذه التغيرات.

أثر المتغير

لمعرفة ما إذا كان هذا التغيير الجيني فريدا للبشر، قارن الباحثون بين الجينوم البشري والحمض النووي الخاص بالنياندرتال والدينيسوفان، وهم أفراد من الجنس الإنساني الذي يضم الإنسان العاقل كذلك (البشر الحاليين)، وقد أظهرت النتائج أن المتغير غير موجود لدى النياندرتال والدينيسوفان، مما يشير إلى أنه تطور حديث نسبيا في تاريخ البشر، وربما كان عاملا رئيسيا في قدرة الإنسان على تطوير لغة معقدة.

إلى جانب دوره في اللغة، قد يساعد البحث أيضا في فهم بعض الاضطرابات اللغوية والتطور العصبي. فهناك دلائل على أن الطفرات في جين (نوفا 1) قد تكون مرتبطة بالتوحد واضطرابات النطق.

ورغم النتائج المثيرة، لا يرى الجندي أن (نوفا 1) وحده يمكن أن يكون المسؤول عن نشأة اللغة البشرية، مختتما: "كان يعتقد أن جين (فوكس ب 2) لفترة طويلة هو أحد أهم العوامل المسؤولة عن نطق اللغة أو التواصل البشري، لكن الأمر أكثر تعقيدا مما كنا نظن، وهذه الدراسة تدعم هذه الفكرة. لا يوجد جين واحد فقط مسؤول عن القدرة على النطق والتواصل اللغوي، "فالدلائل التي تقدمها هذه الدراسة وغيرها تستند إلى قياسات وظيفية غير حصرية لتطور اللغة".

وقد تساعد الأبحاث المستقبلية في تحديد العلاقة بين هذا الجين والاضطرابات العصبية، وربما حتى تمهيد الطريق لعلاجات جديدة للاضطرابات اللغوية. في النهاية، يبقى السؤال مفتوحا: هل يمكن من خلال علم الوراثة فك شفرة اللغز الذي جعل البشر متحدثين فريدين؟

إعلان

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات رمضان مما یشیر

إقرأ أيضاً:

الحد اليومي للجلوس الذي يُنذر بآلام الرقبة

الجديد برس| يقضي ملايين الأشخاص حول العالم ساعات طويلة يوميا في أوضاع جلوس طويلة الأمد، سواء في العمل أو أمام الشاشات الإلكترونية. ومع تزايد الاعتماد على التكنولوجيا في الحياة اليومية، بدأ الباحثون في دراسة تأثير أنماط الحياة الخاملة على صحة الإنسان، وخاصة فيما يتعلق بآلام الجهاز العضلي الهيكلي. وعرّف الباحثون السلوك الخامل بأنه الجلوس لفترات طويلة خلال النهار مع القليل من الحركة، وهو يشمل أنشطة مثل العمل المكتبي ومشاهدة التلفاز واستخدام الأجهزة الذكية. وبهذا الصدد، أظهرت مراجعة منهجية أجراها فريق من الباحثين الصينيين، أن أنماط الحياة الحديثة، بما في ذلك العمل عن بُعد وقضاء وقت طويل أمام الشاشات، ساهمت في ارتفاع معدلات الإصابة بآلام الرقبة عاما بعد عام. وحلل الفريق بيانات من 25 دراسة شملت أكثر من 43 ألف شخص من 13 دولة، ووجد أن أكثر الأنشطة ارتباطا بآلام الرقبة كان استخدام الهواتف المحمولة، إذ زاد الخطر بنسبة 82%. وفي المقابل، كان استخدام الكمبيوتر مرتبطا بخطر أقل (23%)، بينما لم تشكّل مشاهدة التلفاز خطرا كبيرا. ووفقا للدراسة، فإن نمط الحياة الخامل يؤدي إلى آثار صحية سلبية، من بينها انخفاض تدفق الدم إلى الرقبة وضعف في قوة العضلات وخلل في حركة المفاصل وزيادة الضغط على الأقراص الفقرية. وتزداد حدة هذه الآثار عند اتخاذ أوضاع جلوس خاطئة كإمالة الرأس وانحناء الكتفين. وبيّنت النتائج أن الأشخاص الذين يجلسون لأكثر من 6 ساعات يوميا يواجهون خطر الإصابة بآلام الرقبة بنسبة 88% أكثر من غيرهم. ويعد ألم الرقبة من أكثر مشكلات الجهاز العضلي الهيكلي شيوعا عالميا، إذ يصيب نحو 70% من السكان مرة واحدة على الأقل في حياتهم، فيما تتجاوز تكلفة علاجه سنويا 87 مليار دولار في الولايات المتحدة وحدها. وأكد الباحثون أن تقليل هذا الخطر يتطلب استهداف الفئات الأكثر عرضة له، خصوصا النساء، من خلال حملات وقائية تشجع على النشاط البدني وتقلّل من السلوك الخامل.

مقالات مشابهة

  • “تاريخ نشأة الرواية”.. أمسية في المقهى الثقافي بتبوك
  • تأملات قرآنية
  • وزير الدولة للإنتاج الحربي: العامل عصب العملية الإنتاجية ونحرص دائما على الاهتمام بالعنصر البشري
  • علامة في العين تشير لقرب الإصابة بمرض الفصام
  • علامة في العين قد تشير إلى خطر الإصابة بالفصام!
  • هل سنبقى نحن البشر سادة التقنية أم سنصبح أسرى لها؟
  • والي مراكش: أوراش المونديال يجب أن تواكبها تنمية الرأسمال البشري وتأطير الشباب
  • الحد اليومي للجلوس الذي يُنذر بآلام الرقبة
  • اكتشاف جثة شاب في واد بطنجة
  • الفئران تصاب بآلام عضلية ليفية بفعل ميكروبات تنتقل من البشر