على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (12 – 20)
تاريخ النشر: 15th, March 2025 GMT
"لن يستطيعَ أحدٌ أنْ يركبَ على ظهرِك، ما لمْ تَكُنْ منحنياً"
مارتن لوثر كينج
النور حمد
وجدت مصر ضالتها في البرهان
منذ الغزو المصري الخديوي للسودان في الربع الأول من القرن التاسع عشر، لم تجد مصر حاكمًا سودانيًا أتاح لها نهب موارد السودان كما فعل الفريق عبد الفتاح البرهان. وسنأتي لاحقًا إلى ذكر ذلك بشيء من التفصيل.
للنجاح في هذه اللعبة الخطرة المركبة، اهتم الفريق البرهان، أولاً، بالحرب على قوى الثورة. وأصبح عليه أن يلعب على التناقض بين حليفيه المتمثلين في الإسلامويين، والنظام. فمن جهةٍ، وافق فتون البرهان وجنونه بالسلطة ما يريده النظام المصري وهو وجود جنرال على قمة السلطة في السودان يكون خاضعًا بالمطلق *لإرادة* المصرية. ومن الجهة الأخرى يحتاج البرهان العون الدبلوماسي والعسكري المصري، لكي يبقى في السلطة. ولكي يجد العون الدبلوماسي والعسكري المصري عليه أن يقدم شيئًا في مقابل ذلك، وهو فتح الباب على مصراعيه للنظام المصري، ولمجموعات المصالح الخاصة المصرية الملتفة حول النظام المصري، لنهب موارد السودان؛ بلا قيد أو شرط، وبأقل الأسعار، بل وبلا مقابل أحيانا. وكذلك، الخضوع الكامل لمصر فيما يتعلق برؤيتها حول مياه النيل. وأيضًا، أن يصبح مخلب قطٍّ لمصر في تسبيب الغلاغل والمتاعب لإثيوبيا، ولغيرها من دول حوض النيل. وقد قام البرهان بكل أولئك كما أُرادت منه مصر، منذ أن أصبح رئيسًا لمجلس السيادة.
في فترة سيطرة البرهان على السلطة في السودان، ظلَّت مصر تشتري مختلف موارد السودان بالعملة السودانية المحلية. ولم نعرف أبدًا أن دولةً ما في العالم رضيت أن تبيع لدولةٍ أخرى مواردها بالعملة المحلية للبلد البائع. بل تردَّد كثيرًا أن العملة التي يشتري بها المصريون الموارد السودانية عملةٌ مزيفةٌ تجري طباعتها في القاهرة. وقد وردت في شهادات سودانيين مقيمين في القاهرة أن هناك من عرض عليهم حزمًا كبيرةً من الأوراقٍ النقدية السودانية، نظير مبالغ زهيدةٍ للغاية بالجنيه المصري. خلاصة القول، إن شراء موارد السودان بعملته المحلية، المُبرِّئة للذمة والمزيَّفة، يعني أن موارد السودان تذهب إلى مصر مجانا. أما فيما يخص ملف مياه النيل وتسبيب الغلاغل لإثيوبيا فقد اصطف البرهان وراء مصر اصطفافًا كاملاً، بل ومنح مصر قاعدةً مروي الجوية في شمال السودان لتصبح منصةً عسكرية متقدمةً لتهديد الجارة إثيوبيا.
يعرف البرهان أن نظام السيسي قد سحق حركة الإخوان المسلمين في مصر، ونكَّل بهم شر تنكيل. وهو يعرف أن نظام السيسي يقف ضد الإخوان المسلمين حيثما كانوا، ولكنه استثنى إخوان السودان لخدمة هدف تكتيكي مرحلي، هو مساعدة الفريق البرهان للبقاء في السلطة حتى تثبت فيها قدماه، ثم يجري التخلص منهم عقب ذلك. أيضًا، يعرف الفريق البرهان أن مصر تعرف أنه عمل ضابطًا في الجيش السوداني في خدمة الحركة الإسلامية السودانية، وذراعهاالمؤتمر الوطني لعقود طويلة. ولذلك، لكي يجعل الفريق البرهان نظام السيسي ينخرط في دعمه سياسيًّا وعسكريًا بالطريقة التي ظهرت في هذه الحرب، لابد أن يكون الفريق البرهان قد قدَّم للنظام المصري، في لقاءاته العديدة بالفريق عبد الفتاح السيسي وجهاز مخابراته، تطميناتٍ فيما يخص حلفه مع الإسلامويين. وغالبًا ما تكون هذه التطمينات أنَّ حلفه مع الإسلامويين حلفٌ تكتيكيٌّ قصيرٌ الأمد، من أجل خدمة مرحلةٍ بعينها. فحزب المؤتمر الوطني وما تسمى الحركة الإسلامية السودانية يتشاركان مع الفريق البرهان الحرص على هزيمة الثورة. لكنهما يختلفان معه في أنهما يريدان العودة إلى الحكم من جديد. ولذلك، هم يتعاملون مع الفريق البرهان بحذر وشكٍّ كبيرين لمعرفتهم برغبته في الحكم منفردًا وبعلاقته الوطيدة بمصر. وقد بان في مراتٍ عديدةٍ أن الفريق البرهان والإسلامويين يتربصان ببعضهما. فلكل واحدٍ منهما خطته الجاهزة للانقضاض على الآخر، عندما تصل الأمور نقطة مفترق الطرق.
أيضًا، ربما توصل النظام المصري عبر اختراقه للنخب العسكرية والأمنية والسياسية التي عملت مع نظام الرئيس المخلوع عمر البشير إلى قناعةٍ مفادها أن قادة ما تسمى "الحركة الإسلامية في السودان"، ليسوا قادةً مبدئيين بقدر ما هم حارسين لمصالح تخصهم. أي، أنهم ليسوا سوى مجموعة من الأوليغارك الغارقين في حب المال والسلطة حتى أذنيهم. وأنهم في حقيقة أمرهم براغماتيون، وليسوا مبدئيين. وأن ذلك يجعل اصطحابهم في خدمة مرحلة بعينها ثم رميهم جانبًا أو تطويعهم بصورةٍ دائمةٍ خيارًا ممكنا. لكن، في تقديري، أن هذا التصور، إن وُجد، فإنه تصورٌ خاطئ. فما تسمى الحركة الإسلامية في السودان ليست بمفردها وإنما مرتبطة بمنظومة إقليمية معقدة متضاربة الأجندة تشكل تركيا وإيران وقطر. ولذلك بقيت ما تسمى الحركة الإسلامية السودانية، تلعب على عدة حبالٍ. وقد عرفت عبر ما يزيد على الخمسة والثلاثين عامًا من التجربة، كيف تتلون وتخدع، وتنافق، وتلعب على عنصر الوقت وعلى متغيرات الأحداث وعلى تضارب أجندة دول الإقليم.
العلاقة الملتبسة بين البرهان والإسلامويين
من الشواهد على العلاقة الملتبسة بين الفريق البرهان ومجموعة الإسلامويين، ما نراه بين فترةٍ وأخرى من انتقال الأبواق الإعلامية الناطقة باسم الإسلامويين في السودان، بين الإسراف في تمجيد الفريق البرهان ووضعه في مكانة البطل القومي، وبين تحولها، في أحيانٍ أخرى، إلى الهجوم عليه، بل، ومُلصقةً به أسوأ التهم. فقد قال إمام مسجد جبرة في الخرطوم، المتطرف، عبد الحي يوسف، المقيم حاليًّا في تركيا: إن الإسلاميين لا يثقون في البرهان، وأن الفضل في الانتصارات الأخيرة للجيش، حسب زعمه، يعود إلى الإسلاميين وليس إلى الجيش. وأضاف واصفًا البرهان بأنه شخصٌ: "ليس له دين ويحمل النصيب الأوفر في التسبب في هذه الأزمة. فتقوية قوات الدعم السريع عدةً وعتادًا كانت تحت سمعه وبصره". وأضاف أيضًا: أن "البرهان أعجز من أن يقضي على الإسلاميين، فهم موجودون حتي في مكتبه". وينطوي هذا على أن لدى "الإسلاميين" شعورًا قويٍا وربما شواهد على أن البرهان يتربص بهم. وقد حذر عبد الحي يوسف الإسلامويين قائلاً إن البرهان في آخر زيارة له إلى أميركا قبل شهرين من حديثه هذا، التقى مسؤولين أميركيين ولم يصدر بيانٌ عن تفاصيل الاجتماع. وتنطوي هذه على تهمة للبرهان بأنه ربما يخطط مع الأمريكيين للغدر بهم. وعزا عبد الحي يوسف الانتصارات التي تحققت أخيرًا إلى المقاومة الشعبية وليس إلى الجيش، قائلاً: "إن الله ساق هذه الحرب من أجل أن يُعيد للحركة الإسلامية ألقها وقوتها". (راجع: صحيفة سودان تربيون، على الرابط: https://shorturl.at/Em5aa).
لم يقتصر الهجوم على الفريق عبد الفتاح البرهان على إمام مسجد جبرة، عبد الحي يوسف، وحده، وإنما شارك في الهجوم عليه، أيضًا، بل والسخرية منه، في بضع مراتٍ، كلٌّ من الإعلامي، الطاهر حسن التوم، ومهرِّج "السوشال ميديا" الملقب بـ "الانصرافي". بل وتشير بعض حوادث المسيَّرات التي أسقطت قذائفها على بعض اللقاءات الجماهيرية التي حضرها الفريق البرهان، إلى أنها قد كانت رسائل تحذيرية له من دهاقنة ما تسمى "الحركة الإسلامية"، عبر جناحها الداعشي المتطرف المسمى "كتائب البراء". وغرض تلك الرسائل التحذيرية هو ألا يجنح البرهان قط إلى أي حلٍّ تفاوضيٍّ لإيقاف الحرب، يمكن أن يقصي الحركة الإسلامية وحزبها المؤتمر الوطني من المشاركة في الحكم، وهو المطلب الرئيس لثوار ثورة ديسمبر. أو، أن يكتفي بمنحها دورًا هامشيًا في المرحلة المقبلة بناءً على ما يتوصل إليه التفاوض. فإرسال المُسيَّرات وإلقاءها قنابلها على اللقاءات الجماهيرية التي يحضرها البرهان تعني أن الحركة الإسلامية تستطيع أن تصل بهذه المُسيَّرات إلى عقر دار الفريق البرهان. فالحركة الإسلامية لا تريد حلاً تفاوضيًا تفرضه القوى الدولية أو الإقليمية. فهي أصلاً لم تشعل الحرب إلا لكي تقضي نهائيًا على قوات الدعم السريع، وهو السبيل الوحيد في نظرها الذي يمكنها من العودة إلى السلطة بمفردها. ولتتفرغ، من ثم لذبح الثوار المدنيين المطالبين بالتحول الديمقراطي. وهو، كما ذكرنا، السبب الرئيس الذي جعلها تقود الأمور عبر الفترة الانتقالية لتصل إلى نقطة إشعال الحرب الشاملة الجارية حاليا.
في 8 فبراير 2025 تحدث الفريق البرهان من عاصمة حكمه البديلة بورتسودان داعيًا المؤتمر الوطني المحلول للابتعاد عن المزايدات السياسية، مخاطبًا لهم بقوله: أنه لا فرصة لهم في الحكم، مرةً ثانية، على أشلاء السودانيين في هذه المرحلة، وإلا فلن يكون هناك فرق بينهم وبين تنسيقية "قحت"، أو "تقدم"، حسب قول البرهان. وقال إذا أراد المؤتمر الوطني أن يحكم، عليه أن يتنافس في المستقبل مع بقية القوى السياسية. فانبرى في الرد عليه وبسرعة حزب المؤتمر الوطني ببياناتٍ مقتضبةٍ جنحت إلى اللوم والعتاب. أما إعلاميو الإسلامويين والمؤتمر الوطني فقد انتقدوا ما ورد في الخطاب بلهجة بالغة الحدة. وأما قائد ميليشيا لواء البراء الذي يمثل الذراع العسكري المتطرف في المؤتمر الوطني فقد قال: لا ننتظر شكرًا أو تقييمًا من أي شخص، ونرجو من الله أن يتقبل الجهد والجهاد، وسنظل ندافع عن كل شبر في الوطن. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الفريق البرهان كان قد زار قائد لواء البراء المصباح أبوزيد طلحة، عقب هروبه مباشرة من مباني القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم التي كان محاصرًا فيها لأربعة أشهر عقب اندلاع الحرب. الشاهد، فيما يتعلق بمناقضة البرهان المتكررة لنفسه أنه رجع بعد يومين من خطابه الذي حذر فيه الإسلامويين وحزبهم المؤتمر الوطني بألا يفكروا في العودة إلى السلطة ليقول: الذين حاربوا إلى جانبنا سيكون لهم مكانٌ في السلطة. ومعلومٌ أن الذين حاربوا إلى جانبه هم الإسلامويون وكتائبهم الجهادية المتطرفة.
انكشاف خضوع البرهان للمتطرفين
تناقلت عديد المواقع الإلكترونية تسريباتٍ نشرتها كاتبة العمود بصحيفة الجريدة، صباح محمد الحسن، ذكرت فيها أن إجتماعًا عاصفًا جمع الأمين العام لما تسمى "الحركة الإسلامية"، علي كرتي، وقائد الجيش، الفريق عبد الفتاح البرهان. تقول التسريبات أن علي كرتي هدد الفريق البرهان في ذلك الاجتماع بأنه، في حال انصياع الفريق البرهان للضغوط الدولية والإقليمية، سوف يكشف عن الكثير من الوثائق السرية المفصلية المتعلقة بالحرب الحالية وبإنقلاب أكتوبر 2021، وبعملية فض الإعتصام. وذكرت الصحفية أن مصادر سياسية خارجية رفيعة كشفت عن ورقةٍ جديدةٍ على طاولة الحل للأزمة السودانية. وأن تلك الورقة وضعها تحالفٌ دوليٌّ ضم دول الوساطة بالتعاون مع دولٍ إقليميةٍ، من بينها دولٌ حليفةٌ للمؤسسة العسكرية. وذكرت أن تلك الورقة تتضمن خطةً عاجلةً، قد لايتجاوز مدى وضعها موضع التنفيذ شهرًا. وتهدف الخطة للقضاء على ما أسمته "المد الإسلامي الإخواني بالسودان" وأقتلاعه من جذوره، عبر عدة آليات قالت أنها متاحة. وتقول الصحفية أن تلك المصادر رجَّحت أن قناعة تلك الدول جاءت لسببين: أولهما أن قائد الجيش السوداني أخلَّ بإتفاق سبقت موافقته عليه. وهو السيطرة على القيادة العامة التي كان من المقرر أن يؤكد الفريق البرهان عقب انسحاب قوات الدعم السريع منها، ذهابه إلى التفاوض. لكن، كما هو واضحٌ الآن، فقد مر أكثر من شهر من نشر تلك التسريبات، ولم يتغير شيءٌ في المشهد السوداني.
أيضًا، أضافت الصحفية قائلةً: إن تلك المصادر ذكرت أن البرهان كان في نيته تنفيذ الاتفاق. حيث لمَّح إلى ذلك في خطابه الأخير في مباني القيادة العامة، في حين صرح به بوضوح أكثر، نائبه مالك عقار. إلا أن القيادات الإسلامية حاصرت البرهان ومنعته من تنفيذ الخطوة. وبعد الإجتماع وعدول البرهان عن رأيه خرج قائد كتيبة البراء ليعلن ألا تفاوض مطلقًا مع قوات الدعم السريع. الأمر الذي كشف لتلك الدول أن قادة الكتائب الإسلامية هم الذين يقررون بدلاً عن الفريق البرهان، وأثبتوا عمليًا أنهم الطرف الأقوى. وتخلص الصحفية إلى القول إن إزاحة البرهان الذي أصبح عقبةً، ضرورةٌ ينبغي أن تسبق التفاوض المنتظر. وتقول الكاتبة: إن الذي دفع تلك الدول لقرار إقتلاع الإسلاميين، إضافةً إلى ما تقدم، ووفقًا لتك المصادر، هو الجرائم الأخيرة التي قامت بها كتائب البراء بن مالك ومليشيا درع السودان. وزعمت الكاتبة إن تلك الجرائم قد نسفت الدعم الدولي المؤسسة العسكرية السودانية، وباعدت بينها وبين الدول التي فضلت الوقوف إلى جانبها، بإعتبارها تمثل الجهة الرسمية بالبلاد. خاصةً أن الفريق البرهان والمؤسسة العسكرية وقفوا متفرجين وعاجزين. ولم يفعلوا شيئًا أمام الجرائم الوحشية التي إرتكبتها تلك الكتائب والمليشيات بإسم الجيش. (راجع: موقع أخبار السودان، على الرابط: https://shorturl.at/kSwME).
(يتواصل)
elnourh@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: قوات الدعم السریع الفریق عبد الفتاح الحرکة الإسلامیة المؤتمر الوطنی الفریق البرهان موارد السودان عبد الحی یوسف فی السودان ما تسمى فی هذه
إقرأ أيضاً:
«بدر الرفاعي» وسيرة الانعتاق من الأيديولوجيا
(1)
لعل هذه السيرة المعنونة «حنين إلى الدوائر المغلقة» لصاحبها الكاتب والمترجم الكبير والقدير بدر الرفاعي؛ والصادرة أخيرًا عن دار الكرمة للنشر والتوزيع 2025، واحدة من أهم وأمتع كتب السيرة الذاتية الثقافية والاجتماعية التي صدرت في السنوات الأخيرة، لا لتخمتها بالمعلومات (وإن لم تخل من كثير من المعلومات والتفاصيل المهمة) ولا لانغماسها في التحليل السياسي والتاريخي والاجتماعي المفصل الذي يستهوي الكثيرين من كتاب السيرة (وإن لم تخل من ومضات وتأملات دقيقة ونفاذة)، وإنما بالأساس لبساطتها الآسرة وخروجها من قلب صاحبها لتستقر في قلب قارئها ومطالعها دون وسيط ولا تمهيد ولا جهد ولا توتر!
سيرة قدمها صاحبها كما هي ببساطتها دون مساحيق تجميل أو التواء في التحليل أو تقعر في التقييم.. إلخ ما نعرفه في كثير مما نطالعه من هذه النوعية من الكتابات السيرية.
والمترجم والمثقف بدر الرفاعي لمن لا يعرفه (ومن يقرأ سيرته سيعرفه جيدا ويحبه ويقدره أيضًا) كاتب ومترجم وصحفي قدير، تخرج في كلية الآداب جامعة القاهرة قسم الصحافة سنة 1971، وعمل صحفيا ومحررا للنصوص ومترجما بكبريات الصحف والمجلات المصرية والعربية، وحاز على الجائزة التقديرية من المركز القومي للترجمة بالقاهرة سنة 2020، تقديرا لإنجازه الكبير في الترجمة وتكريما له عن مجمل أعماله المترجمة.
وعلى مدى يزيد على نصف القرن قدم الرفاعي إلى المكتبة العربية ما يزيد على العشرين كتابا لا يختلف اثنان على قيمتها ولا أهميتها ولا على ضرورة ترجمتها إلى العربية؛ في مجالات الأدب، والدراسات التاريخية والثقافية، والاقتصاد، والتحليل الاجتماعي والثقافي.. نذكر منها:
«إعلام الجماهير - ثقافة الكاسيت في مصر»، و«مواجهة الفاشية في مصر - الديكتاتورية في مواجهة الديمقراطية في الثلاثينيات»، و«التنوير الإسلامي - الصراع بين الدين والعقل في العصر الحديث»، و«الصناعات الإبداعية - كيف تنتج الثقافة في عالم التكنولوجيا والعولمة؟»، و«مصر الخديوية - نشـأة البيروقراطية الحديثة (1805-1879)»، و«ضباط الجيش في السياسة والمجتمع العربي»، و«الحروب العربية الإسرائيلية (1948-1982)»، و«الشركات عابرة القومية»، و«الزخرفة عبر التاريخ».. وغيرها وغيرها من الأعمال الفكرية والتاريخية والثقافية التي شكّلت إضافة حقيقية واختيارات تدل على عمق الرؤية ونفاذ النظرة والانطلاق من همومنا وحاجاتنا المعرفية والمجتمعية والثقافية الراهنة.
(2)
وأعود إلى السيرة التي تقع في 216 صفحة من القطع المتوسط أو الأصغر قليلا، تستعرض هذه الحياة الحافلة التي تمتد من لحظة ميلاد صاحبها سنة 1948 وحتى اللحظة التي انتهى فيها من تدوين هذه السيرة. قرابة العقود الثمانية من تاريخ مصر والعالم شهدت أحداثا جساما وتحولات هائلة، ربما لو استغرق صاحب السيرة في تأطير هذه الأحداث وتمريرها عبر مصفاة العقل والنقد والتاريخ لربما احتاج إلى أربعة أو خمسة أجزاء كاملة ليقدم فيها هذا التأطير الذي ينزلق إليه الكثيرون في تدوين سيرتهم وكتابة مذكراتهم الشخصية.
في "حنين إلى الدوائر المغلقة" يبدو الأمر أبسط من ذلك بكثير جدا جدا، لا يستسلم الرفاعي أبدا إلى شهوة التصدي للسرديات الكبرى والوقوف عند سنوات ساخنة في تاريخنا المعاصر، وسيرته حافلة بها (1948/ 1952/ 1956/ 1967/ 1973.. إلخ).
نشأ في أسرة مصرية ذات تاريخ نضالي يساري عتيد، ولد طفلا لأب يساري وعضو التنظيم الأشهر في تاريخ الحركة اليسارية المصرية "حدتو"، أب يعمل ميكانيكيا واعتنق المبادئ الاشتراكية عن قناعة وإيمان، وانضوى في العمل التنظيمي السري، مما كانت له آثاره على حياته، فقد ظل مطاردا دوما من البوليس، يتخفى ويظهر ويتنقل بين أماكن عدة، أما الأم فقد كانت بدورها تنظيمية نشطة عاملة بأحد مصانع النسيج، وقد أصبحت الأسرة بتكوينها وحركية الأب ونضالية الأم "أسرة يسارية" خالصة.
لكن وللغرابة، وعلى عكس المتوقع من سياق نشأةٍ كهذه، فإن بدر الرفاعي وهو يكتب سيرته، بعد أن اقترب من الخامسة والسبعين، يكاد يعلن انعتاقه الكامل من قيود الأيديولوجيا وسجنها، وتخليه عن أي بقايا أو ذيول لها في نفسه أو روحه؛ ومن يقرأ هذه السيرة الأنيقة السلسة المكتوبة بروح البساطة والصدق، والابتعاد عن ادعاء أي دور بطولي أو إضفاء أي هالة تمجيدية على الذات (بل على العكس قد يبدو أحيانا مفرطا في التواضع والتقليل من أدوارها أو هكذا خيل إليّ) سيقع على هذه الفقرة الدالة الكاشفة:
"كان أبي شديد الإخلاص لما يراه قضيته. أما أنا فقد نمَت معي الشكوك في كل شيء. بطبيعتي، عندما يُعرض على عقلي شيء يظهر نقيضه على الفور، وتبدأ الدوامة. لو تُركت وشأني لاخترت أن أكون وجوديا أو عدميا أو لا منتميا أو هيومانيا. لكننا في كل الأحوال لا نختار مصائرنا.
عمومًا، أنا لم أختر شيئًا في حياتي، والمرات القليلة التي اخترت فيها، اكتشفت بعدها أنني لست من أختار، بل الأيديولوجيا. الأيديولوجيا تختم كل شيء في حياتك بخاتمها، وتقود سلوكك، بل وتصبغ ذاقتك بصبغتها. وأبرز تجليات الأيديولوجيا أنها تحتويك وتصبح هويتك الأصيلة التي لا جدال فيها". (ص 9)
(3)
هذه الفقرة التي أعتبرها أحد المفاتيح الصادقة لقراءة هذه السيرة والتوغل فيها وإدراك جوهرها؛ وأظن أن هذه الروح التي انطوت عليها هذه الفقرة هي التي حكمت الرفاعي في كتابته لهذه السيرة من أولها إلى آخرها، فلم يبد في موضع منها دفاعا حارا أو نضاليا كما اعتدنا في مثل هذه النوعية من السير والمذكرات. هو يكتب ما يعتقده وما كان على قناعة منه سواء تكشف له خطأه بعد ذلك أو صوابه لا يهم، ولهذا فقارئ السيرة لا يتوقف عن متابعة القراءة لأنه لا يصطدم بنتوءات الذات المعتادة في كتب السيرة والبوح! فلا تقلقه لحظات الالتباس والتوتر التي تنتاب كاتبها ولا يخشى من بوح يتخفف فيه من أثقال سنوات العمر المنقضية ولا يخشى أن يصيبه من رذاذها شيء.
إنها كما يصفها الصديق والناقد القدير محمود عبدالشكور محقا "ربما يكون الصدق والبساطة هما مفتاح هذه السيرة الذاتية، فلا تجد فيها تضخيمًا للذات ولا للدور، ولا تقرأ فيها "عنتريات" تطمح إلى تغيير العالم، بل ربما هي أقرب إلى سيرة حيرة وأسئلة، وليست سيرة إجابات ووصول، سيرة ضعف ومشقة، وليست سيرة قوة ووصول ويقين".
لكن تبقى هذه السيرة على بساطتها الآسرة شهادة عظيمة القيمة والفائدة على ما يسمى في أدبيات تاريخ الفكر والثقافة والإبداع بجيل السبعينيات؛ ذلك الجيل الذي لم يلق أبدا ما يستحقه من اهتمام وتركيز وتأريخ وتوثيق! كانت شهرة الجيل الأسبق طاغية بل عارمة وظلت مسيطرة ومهيمنة بركام المنتسبين إليها وغزارة إنتاج كتابها والضجيج والصخب اللذين أحاطا بأعلامها.. إلخ، كل هذا قد أثر إلى حد كبير على الالتفات والانتباه إلى أسماء مهمة برزت في الجيل التالي (اصطلاحا جيل السبعينيات).
إنهم "أبناء السبعينيات" هؤلاء الذين يصفهم الكاتب الكبير محمود الورداني بأنهم خاضوا تجربتهم بأقصى درجة من درجات الصدق والتضحية والإيمان بالناس والدفاع عنهم وهُزموا بشرف.
تقدم سيرة الرفاعي واحدة من أهم وأنبل بل أصدق الشهادات على هذا الجيل سواء في تجليه الجامعي والطلابي فيما عرف بالنشاط الطلابي في السبعينيات (تحديدا هنا مطالع السبعينيات) أو خارج أسوار الجامعة وفي المحيط الاجتماعي الأوسع والأكبر..
(4)
أي بوح صادق واعتراف مخلص وتأمل نافذ استصفته الأعوام وكللته الحكمة وأنضجته الخبرة وصفّته من الشوائب والكدر.. هذه السيرة قطعة من روح مصر والعالم العربي في فترة تحولات وتقلبات لم تبق لأحد قطعة خشب يطفو بها على السطح!!