"مصطفى النحاس".. كتاب يروي حكاية زعيمين حاربا من أجل الديمقراطية
تاريخ النشر: 23rd, August 2023 GMT
في كتابه «مصطفى النحاس»، الصادر عام 1937، يجعل المؤلف عباس حافظ من شخصية ذلك الزعيم الوطني "مادة أصيلة في شرح جوهر العِظَم الروحي والتاريخي الذي تحمله كلمة الزعامة"، كما وصفه الناشر، حيث يتناول الأسرار المُؤَلِّفَةَ لشخص النحاس، والصفات التي يُوسَمُ بها الزعماء، والظروف التي تتشكَّل بها الشخصية التي تنطبق عليها مقوِّمات الزعامة؛ كما يوضح الأخطار المُحْدِقَة بشخص الزعيم؛ مستخدما أسلوب التداعي الذي يعتمد فيه على استلهام الشخصيات التاريخية التي صنعت العظمة في دفاتر التاريخ، ليقارن بينها وبين شخصية النحاس.
وبالطبع، طالما كان الحديث عن الزعامة، لم يكن هناك مفر من التعرض للزعيم الكبير سعد زغلول، والذي تتلمذ النحاس سياسيا على يديه.
وصف حافظ بزوغ زعامة سعد زغلول قائلا: جاءت به العناية الإلهية فَلَّاحًا من أهل القُرَى لتستكمل فيه لوازم المحيط، ويتناسب مع أغلبية البيئة، ويشب في أقوى أفق وأصح جو وأوفق وسط؛ ولكي ينشأ صُلْبَ العود من بدايته، قويَّ البدن من حداثته، متفتح الصدر للعواصف من طفولته، يمرح في الحقول، ويرتع في الغيطان، ويسبح في الجداول والأقنية، ويجالد الأقران في الصراع غاضبًا أو لاهيًا.
جاءت به فلَّاحًا قوي العصب، سليم النَّسب، منتظم حركة القلب، مفتول الذراع، ممشوق القَدِّ، شديد الجَلَد، مَضْمُور الجَسَد، في عينيه عمق، وفي وجهه أسد؛ لكي يخيف ويثير الرَّهَب إذا ما حان الدور وَوَجَب، وحتى يتحمل مطال المرانة، ومراحل التدرب، إذ جعلت في خطتها ألا تعجَل به شابًّا فتيًّا، ولا نحيلًا ضاويًا، وإنما قدرت أن يتولى الأمر وهو شيخ جاوز الكهولة، وعَدَّى الشباب؛ لتكون آيته أنه الشيخ الشاب، قويًّا على المحنة والمصاب، جَلْدًا على الصدمات والخطوب، لا حافلًا بالشدائد ولا مباليًا.
وجاءت به كذلك «أزهريًّا»؛ ليدرس القرآن، ويأخذ عنه قوة البيان، ويكتسب قوة التعبير، وجزالة اللفظ، ولغة الجهاد، وأسلوب الإغراء، وسحر الترغيب، وجلال الترهيب؛ بل ألقت به في صحن الأزهر على حرارة اللهفة على العلم؛ لكي ينضج أكمل نضوج، وينصهر فيه أحرَّ مُنْصَهَر، ويطيب كل مطاب، ويكب على الكتاب، ويتمرن على الجدل والمناظرة، والمعارضة والمحاورة، والنظرية والبرهان.
وأضاف في حديثه عن زعيم ثورة 1919: أرادت الأقدار لسعد أن يدخل وظائف الحكومة، وأن يتقلب في مناصبها، ويتنقل في كبارها وخطيرها؛ حتى بلغ مكان «الوزير» فيها، فإذا ما تحدث بعد ذلك عن سيئات الاحتلال ومناكره وجرائمه وكُبَرِه، كان لكلامه قيمة، ولحديثه خطر، ولنقده أثر؛ لأنه كلام وزير جَرَّب واختبر، ومَثَلَت له العظات والعبر، وشهد كل ذلك السوء من قريب.
كانت مباشرةُ سعد للوظائف مقتضيةً منه كذلك أن يستكمل ما نقصه، ويستوفي ما لم يكن أصابه، ويضيف إلى قوة أزهريته لوازم عصريته، وثقافة جيله وعلوم بيئته، فلما دخل القضاء الأهلي حيث المرجع فيه للقوانين الفرنسية، احتاج الأزهري الذي لم يدرس غير لغة دينه أن يدرس لغة قوانينه؛ فتعلم الفرنسية، وأعانه تعلمها والإكباب على دراستها والانكماش في استيعاب دقائقها ومطالبها على توسيع دائرة قراءته، إذ فتح أمامه آفاقًا جديدة من العلم، وكشف حياله عن أفكار بِكْرٍ من المعرفة وأفانين من الثقافة، ونُدْحات مترامية للبحث والاستخلاص، والاقتباس والاستقراء.
كان سعد جديدًا في كل ما سلك نفسه فيه، كان جديدًا كأزهري؛ لأنه نبغ كاتبًا، وأندر ما يكون الأزهريون كُتَّابًا. وكان جديدًا كمحامٍ؛ لأنه دخل هذه الصناعة وهي منحطة المستوى يومئذٍ قليلة الشأن سيئة السمعة فرفع مستواها، وعظّم شأنها وأحسن سمعتها، فلما عطف على القضاء زانه وسما به، وصان كرامته، وحرص على استقلاله، وله فيه أحكام جديدة ومواقف مشهودة، ليس هذا الكتاب مجال ذكرها، فكان ذلك كله جديدًا في القضاء، فانتبه العصر له، وأحسه الجيل الذي يعيش فيه، والتفتت الدولة نحوه لترى مَنْ هذا الرجل الجديد الذي برز على مسرح الحياة، واستحوذ على الاحترام في وسطه والإعجاب! فلم تستطع إلا أن تعجب هي أيضًا به، ولم تتمالك هي كذلك من احترامه؛ فرفعت وظيفته في القضاء، ثم لم يبق أمامه إلا كرسي الوزارة فبلغه بعد بضع سنين.
وكان سعد جديدًا كوزير، إذ عُهِدَ إلى «الأزهري» القديم بوزارة المعارف الحديثة، فإذا هو في العلم رجل عصري مجدد، ووزير مبتكر مستحدث، وإذا هو وطنيٌّ جديد كذلك، وسياسي من طراز آخر غير ما ألفت الدولة من قبله، فإن أزهريته القديمة لم تمنع أن ينادي بجانب جامعة الأزهر إلى تأسيس جامعة حديثة للعلم الجديد، حتى يتحول بالغرض الذي رمى إليه الاحتلال من التعليم بجعله أداةً للوظائف، وإقامة المدارس معامل لتفريخ الموظفين، إلى غرض جديد وهو التفوق في العلم للمنفعة العامة، والاستزادة من الدراسة لخير الشعب ومصلحة المجموع وخدمة البلاد.
كان سعد وزيرًا مرهوبًا، متكبرًا كبرياء المقدرة لا كبرياء الغرور، وطنيًّا حريصًا على حقوقه كوزير، محافظًا على مكانه كمصري، مستقل الإرادة كرئيس، ممسكًا بكرامته لا ينزل بها يومًا إلى الإنكليز، فرأى في دنلوب يريد أن يسير معه كمسيرته مع الذين من قبله وزراء، له هو السلطان الفعليُّ ولهم هم البصمة والإمضاء، وهو كل شيء وهم ليسوا شيئًا بجانبه، وعنده هو كل السلطان وعندهم هم الخور والتسليم والإذعان؛ فوقفه سعد حيث ينبغي أن يقف، واسترد منه المزيد من سلطانه، وقصره على ما ينبغي لمثله في حدود الاختصاص، ونطاق الواجب، ودائرة القانون.
وهكذا كان سعد في الوظائف جديدًا، أدخل عليها في شخصه ومسلكه وتصرفه العناصر الخليقة بها، والمطالب التي كانت تنقصها، فراع الإنكليز أن يروا فيه هذه الشخصية الجديدة، فقال قائلهم -وهو لورد كرومر- في خطاب وداعه بدار الأوبرا في سنة 1907 كلمته المشهورة: «إني لأذكر -أيها السادة- اسم رجل لم أشتغل معه إلا من عهد قريب، ولكن معاشرتي القصيرة له قد علمتني أن أحترمه احترامًا عظيمًا، وإذا أصاب ظني ولم أخطئ، فسيكون أمام ناظر المعارف الجديد سعد زغلول باشا مستقبلٌ عظيمٌ في سبيل خدمة هذه البلاد؛ لأنه قد أُوتي جميع الصفات اللازمة لخدمتها، فهو رجل صادق، كفء، مستقيم، مقتدر، بل هو رجل شجاع فيما هو مقتنع به.»
سعد زغلول والنحاس في البرلمانزعامة سعد وظهور النحاسعند الحديث عن ثورة 1919، وصف حافظ سعد زغلول بأنه "البطل المنتظر، والقائد الثوري المرتقب الذي ظلت الأقدار تهيئ الأسباب لظهوره، وتعد المناسبة لمُتَبَدَّاه ومطلعه"؛ لكن في تلك الفترة نفسها، كان الزعيم الكبير قد بلغ م الكبر مبلغه، لكن "الشيخ كان ينبغي أن يظهر حتى مع الشيخوخة؛ ليكون حافزًا الشباب، مستثيرًا الأقوياء، مستحميًا قلوب الصغار والكبار على السواء، وفي ظهور البطولة على الناس مفاجأة قوية تنسيهم المخاوف والحرص على الحياة، وتبعث فيهم أكبر الشجاعة، وتثير لديهم احتقار السلامة والأمن والسكون".
وفي تقديمه لظهور زعامة النحاس، يقول حافظ: "كان من بين أصحابه رجل أراد الله أن يصحبه من البداية، ويلازمه في أكتف غبار المعركة، ويسايره في أشق مراحل الجهاد ليتدرب عليه، ويمزج حياته بحياته، ويأخذ عنه ما أرادت الأقدار أن يأخذه ليجمع إلى الدُّربة مواهبه، وينمي المواهب برياضتها في جواره، فكان ذلك من توفيق الله الذي اقترن بزعامة سعد ورعاها، وصحب قيادته وماشاها؛ لكي يترك التراث الفخم مطمئنًّا عليه، ويغادر المكان واثقًا من مآله، ويدعَ الزِّمام مستريحًا إلى الكف التي ستتولاه في حزم ومقدرة وقوة وإيمان.
وكان ذلك الرجل الذي أعدته الطبيعة لمثل ما أعدت سعدًا من نشأته وتكوينه هو «مصطفى النحاس»؛ فإن من توفيق الله الذي لازم سعدًا طيلة زعامته أنه وجد الشخصية الصالحة التي تتسلم تركته الروحية، وتتلقى تراثه الوطني العظيم، وأنه اهتدى إلى الرجل الخليق بالموضع قبل أن يَفْرَغَ له بوقت طويل، قدَّرته العناية الإلهية كافيًا للمرانة على مطالبه، والرياضة على واجباته ومشاهدة تجاريبه، ومعاينة وسائل تصرفه، ولكي يقاسم صاحبه الشدائد التي تقع في طريقه، والمتابع التي يقاسيها في مراحل جهاده، حتى ينضج قبل أن يتلقى مقاليد القيادة، ويكتمل من جميع الجهات قبل أن يستوي في الموضع المقدور له في خطة الكون ومهيآت الظروف وتدبير السماء.
وكان من حسن الحظ بالنسبة لسعد أنه جاء ليأخذ في يده زمام النهضة، ويتولى في الأمة أمر الزعامة، ولم يكن أحد قبله عليها، ولا وقعت لإنسان من قبله، ولم يسبقه نموذج من نماذجها، ولا ظهر لون من ألوانها، ولا قالب من قوالبها حتى يمكن أن يكون ثَمَّ محل لموازنة بينه وبين الآخر الذي تقدمه، ولا مجال للمقارنة بينه وبين الذي استبقه. ولم تكن الأذهان متأثرة بشخصية ماضية، أو عظمة ذاهبة، أو زعامة سالفة؛ فهي لا تزال تحت تأثيرها، مليئة الذاكرات بصورها، مزدحمة الخاطر بما ارتسم عليها من أفاعيل نفوذها وسلطانها، وإنما أتى سعد في الزعامة منقطع النظير أوحدَ، قائمًا بمفرده على جلاله، يَبْدَهُ العصر، وينفرد بإعجاب الجيل، ويستأثر بمحبة الملايين.
ولكن كان من المشقة على الرجل الذي هيأته الأقدار ليخلفه على الموضع ويشغل المكان من بعده أن زعيمًا كسعد تقدمه، وقائدًا وطنيًّا عظيمًا كسعد ظهر قبله، وأن ذلك قد يفتح على أبواب من المقابلة، ووجهات من الموازنة، قبل أن يستقر به موضعه، وتظهر فِعَاله، وتتجلى مزاياه، وتتكشف مواهبه، ويبدي ما عنده من جديد".
ووفق الكتاب الذي يُعّد تأريخا لأحد معاصري الزعيمين؛ وهو كاتب، وناقد مسرحي، ومناضل سياسي سخر قلمه لخدمة مبادئه السياسية، وهو المترجم الذي تلألأت ببديع ترجماته ميادين الفكر الأدبي. فقد سطعت شمس النحاس عقب انقشاع الغيوم بعد وفاة سعد. يقول: لم تكد الصدمة تخف رويدًا حتى بدأت اللهفة تخف شيئًا فشيئًا، ومضت الحيرة تذهب قليلًا قليلًا، وإذا اسم «مصطفى النحاس» يتحير على الشفاه، وتجري به الألسنة، ويدور في المجامع، ويطوف الندوات، فيلاقي الرضا، ويجد القبول، ويشهد الإجماع عليه والاتفاق، ويبتسم الناس بمرارة عاجبين لأنفسهم، كيف كانوا لهذه الشخصية الصالحة الموافقة غير ذاكرين.
وكان مصطفى النحاس عن الديار غائبًا يوم وفاة سعد، فبوغت بالنبأ العظيم وهو في أوروبا أفجع المباغتة، ونزل منه الخبر الصاعق أرهب منزل؛ لأن المرض الذي أصاب سعدًا لم يَطُل عليه، والعلة التي عاجلته لم تستبق لها بوادر وسمات غير كلام سعد نفسه في ختام الدورة البرلمانية التي سبقت مرضه، فقد كان من خلف ألفاظه أو في تضاعيف كلماته إيذانٌ ببَينٍ، وإحساس سابق بوداع، وكلمة نوى بعيدة وفراق؛ حتى لقد عاد الناس حين وفاته يذكرونها، ويعجبون كيف لم يلتقطوا هذا المعنى الخفي فيها، وراحوا لتعزية أنفسهم يدعونها «خطبة الوداع»، وهي في الواقع خطبة النبوءة، وإلهام الروح، وسبق الشعور، واختلاج الغيب في الوجدان.
وأضاف حافظ: لعل كلمة الأقدار في ترتيب الحوادث على هذا السياق الأليم أن يقر الناس مصطفى النحاس على خلافة سعد، وتجتمع نفوسهم على أنه بالزعامة من بعده الخليق الأوحد. وكما كان الأمر من شأن سعد ذاته، فقد نودي بزعامته وهو غائب في منفاه وغربته، وتوافت له شهادة الأمة ببطولته قبل أن يسألها، أو ينبعث إلى طلبها، أو يحتال بنفسه لها — كان أمر مصطفى كذلك بغير خلاف، فقد التفتت الأذهان إليه وهو في سفره، وتذكرته النفوس في منزحه، وأقرته القلوب في غيبته، فلم تكد قدمه تطأ أرض وطنه حتى تلقاه الناس مطمئنين إليه، معترفين بجدارته لذلك الموضع العظيم.
لقد كانت بيعة هذا القائد الوطني الجديد «طبيعية» لم يَشُبْها أدنى تكلف، ولم تجر من حولها أقل محاولة، وإنما اختارت العناية الإلهية فأمن الناس على اختيارها، وتقدمت الأقدار فانتخبت من أعدَّته لهذا اليوم وهيأته، فأقرت مصر هذا «الانتخاب الطبيعي» مستريحة إليه مطمئنة، واعتمدته اعتماد الثقة واليقين.
الزعيم مصطفى النحاسمعركة الديمقراطية
يصف حافظ المعركة الطويلة التي خاضها الزعيم سعد زغلول، وشارك فيها ثم استكملها تلميذه ورفيقه الزعيم مصطفى النحاس؛ وكذلك يتناول العقلية السياسية الراجحة للزعيمين.. ويصف سعد زغلول بأنه "الزعيم الدستوري الذي مَكَّنَ لجذور هذا النظام من التأصل والتغلغل في صميم حياتنا، وكان هو الباني لصرح حياتنا النيابية وهيكلها العظيم".
وأضاف: فقد أظهرته الطبيعة يومئذٍ رجلًا جديدًا في الواقع، وزعيمًا عجيبًا، كأنما كان طويل العهد بالروح النيابيِّ، عريق المحتد في الدراسة البرلمانية، واسع العلم بأوضاع هذا النظام وتقاليده ومطالبه؛ إذ كان أول من ألغى «الأقدمية» في تقلد المناصب، وأول من أثبت حق النبوغ في الاستباق، وأول من أقر «الكفاءة» ووجوب تقديمها على كل اعتبار.
لقد أعطى سعد زغلول أمثلة جريئة، وخطا خطوات قوية في سبيل تعزيز الديمقراطية، فجعل من «الأفندية» وزراء، وحطَّم بذلك القيم المظهرية التي كانت «للباشوات»؛ وأثبت للشعب أن المخلص يجد أرفع الأمكنة، مهما كان في الأصل موضعه؛ وأن الكفء يظفر بالمحل الخليق به، مهما كانت من قبلُ درجتُه، وقد كان تقرير هذه القاعدة في بداية الأمر مستغربًا، حتى إن فريقًا من المستشارين في وزارة الحقانية نكروه وتبرموا به، وصارحوا سعدًا برأيهم في شذوذه، واستنكارهم لخروجه عن المألوف؛ إذ لم يكن أحد يومئذٍ يتصور أن محاميًا من عُرْض المحامين يصبح وزيرًا للقضاء، ولكنَّ سعدًا الديمقراطي العظيم لم يعتد بغضبهم، ولم يحفل استنكارهم، ومضى في التمكين للديمقراطية غير متخاذل ولا متردد.
وفي مجلس النواب لم تلبث مع هذا الحافز الجديد، وعلى شكة المهماز في الخاصرة، أن ظهرت نباغات باكرة، وتجلت كفايات سريعة، وبدت استعدادات خصيبة للروح النيابي الجديد؛ حتى لقد كان موضع العجب أن تنبغ الحياة الدستورية هكذا وشيكًا لدينا، ويظهر التقاطنا الزئبقيُّ لجوهرها وحسن تقاليدها وعرفان أوضاعها في تلك الفترة القصيرة العاجلة من التجربة والاختبار.
وفي الوزارة الديمقراطية المُحْدثة تقلد مصطفى النحاس القاضي السابق منصب وزير المواصلات، ومن قاضٍ إلى وزير مسافة واسعة، وشوط لم يكن أحد ليقطعه في النظام القديم، ولكنها كانت أقصر من غيرها بكثير في العهد الجديد، واستحقاقًا تامًّا لرجل لم يكن يدري يوم غادر وظيفته مضحيًا بها، ماذا سيحل غدًا به، وأي أخطار الجهاد على الأيام مصيبه، وأي عقاب مرهوب سوف يُعَدُّ له، ذلك الرجل الذي ترك كل مسئولياته الخاصة جانبًا، وأقبل على الثورة الوطنية بكل جوارحه، غير مبالٍ بما قد يصيبه في سبيل بلاده، وقضية وطنه المعذب الأسير.
ولكن كذلك طلبت الديمقراطية الجديدة، وهي يومئذٍ في أشد حماستها وأصدق أدوارها وحميتها، الخُدَّامَ المخلصين لبلادهم، والمجاهدين الأبرار بوطنهم؛ فأشارت الأقدار إلى مصطفى في الأكفاء المستحقين؛ لأنها كانت مُعِدَّته ومحتفظة به لحراسة هذه الديمقراطية نفسها التي عرفت له قيمته، وشهدت له بكفايته، فإن حياة مصطفى السياسية ظلت كلها دفاعًا مستمرًّا عن الدستور، وكفاحًا مستطيلًا عن النظام الديمقراطي، وذيادًا لا يفتر ولا يهدأ عن الحياة النيابية؛ حتى لقد تحمَّل مصطفى في عهد زعامته من أجل الدستور ما لم يتحمل سعد مثله، وقاوم في سبيله مقاومة يدفعها الإيمانُ القويُّ العميق الذي لا يعرف تراجعًا، ولا يحس يأسًا ولا يفكر في انزواء.
وقد أثبتت الحوادث في خمس سنوات متعاقبة خلال زعامة مصطفى للأمة ورياسته للوفد وقيادته لصفوف الشعب وجموعه أن مصطفى قد وهب حياته كلها لحراسة الدستور، وحماية الحكم النيابي، غير مُنثَنٍ أمام كل تلك القوات المعادية التي وقفت متراصة حياله لتصد تياره، ولا يائس من استرداد دستور الأمة بعد إلغائه، بل لقد بنى سعد الديمقراطية في مصر، وجاء مصطفى ليتولى حراستها؛ فكان الحارسَ الثقة الأمين.
ونجحت الديمقراطية من بدايتها، وصحب قيام البرلمان في سنة 1924 توفيق كبير، وأثمرت الحياة النيابية ثمرات طيبة، كان من بينها إصدار قانون الانتخاب المباشر، وراح سعد يعد العدة للمفاوضات التي ورد ذكرها في خطاب العرش؛ وإذا بمكيدة حقيرة تدبر لاغتيال حياته وهو يوشك أن يركب القطار في الثاني عشر من شهر يوليو سنة 1924. وقد تلقى سعد حركة ذلك المفتون الطائش الذي صوب الرصاص إلى صدره بأروع ما تكون الشجاعة مظهرًا حيال الموت وخطره، ورجفت البلاد من شناعة الحادث بقدر ما أعجبت برباطة جأش زعيمها العظيم، وبدا هذا الحادث يومئذٍ بوادر رجعية شريرة قاتلة مجرمة تعمل تحت جنح الظلام.
وأخفقت المفاوضات التي جرت بين سعد وماكدونالد؛ إذ جرى هذا معه على منهج كرزون من قبله وملنر، وظن أنه مستطيع أن يتغلب على سعد؛ فأبى سعد التسليم ورفض المفاوضات وفيًّا أبيًّا، وعاد إلى بلاده مرفوع الرأس كريمًا على نفسه وبلاده.
وعلى أثر عودته كثرت الدسائس واشتدت المكائد للدستور والحكم النيابي، وكان حسن نشأت باشا يومئذٍ وكيلًا للديوان الملكي؛ ففكر سعيد مليًّا في الأمر ليجد له علاجًا حاسمًا، فكانت مشورة مصطفى في هذا الموقف الخطير أنه يجب أن يصان الدستور قبل كل شيء، وينبغي الحرص على قدس النظام النيابي قبل كل اعتبار، وأنه إذا لم تجب المطالب التي تتقدم الوزارة الدستورية بها إلى الملك، فلا ينبغي البقاء في الحكم لحظة واحدة.
وعمل سعد برأي مصطفى، فذهب إلى القصر في ذلك اليوم المشهود الذي اجتمعت فيه ألوف مؤلفة من الخلق في ساحة عابدين وهم يهتفون هتافًا دوَّامًا مدويًا: «سعد أو الثورة»، فقدم مطالب الوزارة إلى الملك مهددًا بالاستقالة إذا هو لم يجب إليها.
في هذه الوقفة الجليلة اجتمعت مشورة مصطفى وشجاعة سعد، فتناسبتا وتشابهتا روعةً وجلالًا. وكانت تلك المشورة وليدة إخلاص متناهٍ للفكرة، وسمو أدب في الوطنية السياسية، ووفاءً عظيمًا للدستور، لا يتردد أمام أي اعتبار شخصيِّ، ولا يتخاذل حيال أي واجب كبير، ولا يخشى جاه الحكم أن يزول عنه، أو أعنة السلطان أن تذهب من كفه؛ وهو لم يمكث في مقعد الوزارة غير بضعة شهور، وما هو بالغني العريض المال حتى يتطوع للتخلي عنه، ولا يبالي تركه؛ ولكنه كان الوطني المؤمن بالدستور الحريص على النظام النيابي، فلم يلبث حرصه على الدستور أن تغلب عنده على كل عامل سواه، فرضي ترك الحكم ونصح باستقالة الوزارة، إيثارًا للدفاع عن الدستور والذود عن قداسته، على كل مغريات البقاء في الحكم والتشبث بالنفوذ والسلطان.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: مصطفى النحاس سعد زغلول الزعيم الزعامة سعد زغلول قبل أن ی کان سعد من قبله کان من جدید ا لم یکن کانت م من قبل
إقرأ أيضاً:
جمال سليمان يروي موقفًا حدث له مع الزعيم عادل إمام
أكد الفنان السوري جمال سليمان خلال ندوة عُقدت بنقابة الصحفيين حبه الكبير لمصر وشعبها، موضحًا أن علاقته بمصر تتجاوز نجاح أعماله الفنية، وقال سليمان: “مصر بالنسبة لي ليست مجرد حدائق الشيطان، بل هي وطن ثانٍ لي بعد سوريا، علاقتي بها تمتد إلى تقديري العميق لثقافتها وشعبها العظيم”.
كما استعاد سليمان موقفًا جمعه بالفنان عادل إمام، الذي قال له مازحًا: “أنت دخلت الفن المصري وسبت الباب مفتوح وراك”.
وفي تصريح سابق صرح الفنان جمال سليمان إنه لن يستطيع تقديم دور بشار الأسد في عمل فني، لأنه لا يوجد شبه بينهما، ولا يعتقد أن سيرته ستقدم في أي عمل على الشاشة.
وتعجب سليمان في تصريحات لشاشة العربية، من طريقة تخلي بشار الأسد عن السلطة، وخروجه من سوريا هاربا دون تصريح مسبق أو توضيح يشرح اضطراره للمغادرة بهذا الشكل أو بأي صيغة دستورية واصفا:" شيء مذهل ما قام به هذا الرجل".
ووصف جمال سليمان بشار الأسد بأنه يختلف عن باقي أمثاله قائلا:"اسمه لن يكون مكتوبا في كتاب الديكتاتوريين سيكون له كتاب خاص"، مشيرا إلى توقعه بانهيار النظام منذ حوالي عام ونصف.