اتفاقية سلام جوبا: التمادي في بذل العهود المستحيلة (3)
تاريخ النشر: 14th, March 2025 GMT
عاد اتفاق سلام جوبا إلى واجهة خطاب السياسة والحرب في يومنا هذا. وأنشر نص ورقة كنت قدمتها لمؤتمر انعقد في مركز الدوحة في العام الماضي ما وسعني لكي يدور النقاش المتجدد عن الاتفاقية فوق علم باتفاق قل من اطلع على نصوصه.
الجبل والكهف
من الجهة النظرية صدرت اتفاقية سلام جوبا مثل سابقات لها عن سياسات الهوية والعرق التي جعلت من المركز، الذي نهضت الجبهة الثورية ضده، خصماً بضغينة العرق في سياساته لا بمجمل سياساته الوطنية.
اتفقت اتفاقية سلام جوبا مع سابقاتها في مقاربة أزمة الحكم بمصطلح عرقي جهوي فاحتل تدارك بؤس التنمية في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق مكاناً مقدماً فيها. ولكن جاء شذوذها عنها في اختلاقها ما عرف ب”المسارات” وهو ترتيب رفع مظالم أقاليم أخرى في السودان في غير دارفور والمنطقتين لم تكن تشهر السلاح ضد الحكومة لدى عقد مفاوضات جوبا. ولم تأت تلك الأقاليم غير المحاربة بممثلين بتوافق سائر أهلها، بل بمن تصادف أن كان حليفاً للجبهة الثورية خلال نضالها لإسقاط نظام الإنقاذ. وكانت تلك عاهة في الاتفاق نجلاء أغبنت جماعات من تلك الأقاليم مثل جماعات في شرق السودان استنكرت الاتفاق بقوة وبالقوة لأنها لم تفوض من انتخبتهم الجبهة الثورية لتمثيلها في التفاوض نيابة عنها. وتخلقت بالنتيجة ما عرف ب”مشكلة شرق السودان” التي ايقظت فتناً نائمة، وضرجت الشرق بالخلاف والدم والإهانة.
عَنُف الشرق بسبب “مسار الشرق”، الذي هو من فضول القول في اتفاق للسلام، مما دعاني لتسميته مع مسارات غير محاربين آخرين ب”الزائدة السياسة”. فكان تداعى مسلحو دارفور لمائدة جوبا للتفاوض حول السلام مستصحبين جماعات سياسية مدنية من أقاليم أخرى تحالفت معهم خلال نضالهم معاً لإسقاط نظام الإنقاذ كما تقدم. وهي الجماعات التي سميتها في موضع آخر “صحبة مسلح”، أي أنهم ما حصلوا على كرسيهم على مائدة المفاوضات أصالة، بل بفضل حليف مسلح. وكانت “الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة” ضمن من جاء صحبة مسلح ممثلة لشرق السودان في طاقم الجبهة الثورية. ونال الشرق بمساره، الذي مهرته الجبهة بتوقيعها، حظوظاً من الإصلاح والتنمية. وأثار ذلك الخلاف في الشرق. ولانتماء جبهة التحرير والعدالة لشعب البني عامر جاء مسار الشرق في اتفاق جوبا على صورتهم لما ينبغي لمركز الدولة عمله لرفع الظلامة عن سائر الشرق غير المحارب. وأغضب ذلك الترتيب شعب الهدندوة التاريخي بقيادة ناظرهم محمد الأمين ترك وآخرين. وبين الجماعتين خصومة سبقت الثورة على نظام الإنقاذ أغبنت بعض مفرداتها البني عامر ففرجوا عنها بتضمينها نص اتفاق مسار الشرق.
فنفذ البني عامر وحلفاؤهم بالمسار إلى رفع مظلمة قديمة من استبعادهم من اتفاق الشرق في ٢٠٠٦ وصندوقه الثري الذي استفرد به موسي محمد أحمد مساعد رئيس الجمهورية، أي الهدندوة في نظر غيرهم. فجعلوا مراجعة الصندوق وهيكلته مادة في اتفاق مسار الشرق مع وجوب تمثيل الموقعين عليه في مجلس إدارته والشورى معهم فيمن يكون مديره. والحق أن الصندوق أزكم فساده الأنوف حتى حله محمد طاهر إيلا وهو على سدة رئاسة الوزارة القصيرة قبيل سقوط نظام الإنقاذ في ابريل 2019. من جهة أخرى، جاءت التحرير والعدالة في اتفاق الشرق بمادة عن معالجة موضوع النازحين بالإقليم، وتوفير الخدمات الأساسية لهم من مسكن وصحة، وتعليم، وأمن، وغيره. وما يسميهم البني عامر “نازحون” هم عند الهدندوة “لاجئون” من أرتيريا. فليس مستغرباً ألا يقبل الهدندوة بهذه المادة التي تهجس لهم كمحاولة من البني عامر تقنين وجود جمهرة من أهلهم النازحين من أريتريا.
وليس ما أغبن الهدندوة وجرعهم الإهانة التواثق في جوبا على مسار عن إقليمهم من وراء ظهرهم فحسب، بل مادة في الاتفاق أيضاً عن انعقاد مؤتمر تشاوري لأهل الشرق يتنادى له من لم يحضروا قسمة جوبا لاطلاعهم على الاتفاق وأخذ شورتهم. ورأى الهدندوة في هذا عتواً استباحت به الجبهة الثورية إقليماً بحاله تفاوض عنه بمن انتخبته ممثلاً له اعتباطاً بغير اعتبار لتضاريسه السياسية والديموغرافية. وتخلق من يومها ما عرف ب”مشكلة الشرق” التي لم ينعقد مؤتمر عن اتفاق جوبا، أو مبادرة للم الشمل الوطني منذها لم تكن فيه حاضرة. فتمسكت الجبهة الثورية بحرفية اتفاق جوبا بمساراته بينما سعت هذه القاءات والمبادرات المناورة من حوله لإرضاء الهدندوة. وهيهات.
لم يكن ليكن فينا اتفاق الشرق لولا مصادفة انتماء الجبهة الشعبية للتحرير للجبهة الثورية كصحبة مسلح لا مسلحاً. فلو كان الطرف المفاوض للحكومة هو الجبهة الشعبية (الحلو) لربما اختلف الاتفاق لأن في كتلة الحلو جماعات أخرى من الشرق صحبة مسلح.
ولا أدرى كيف ساغ للجبهة الثورية المضي في اتفاق لمسار الشرق وهو مهيض الأطراف هكذا. ولماذا داخلها أن اتفاقها المعلول سيحظى بقبول كيانات في الشرق لم تكترث هي لحضورهم. وتعلل الموقعون على اتفاق المسار بأنهم لم يعزلوا أحداً طالما جاؤوا للشرق بحقه كاملاً غير منقوص وقد رتبوا لمؤتمر للشورى حول محتواه. وتلك إساءة بعد التجريح. فمَن غيبتهم الجبهة الثورية عن المفاوضات والتوقيع على الاتفاق ليسوا رعايا تمضي الأمر عنهم وكالة. فلربما كان لهم رأياً فيما يستحقه الشرق أفضل مما جئت به، أو أنقص من ذلك قليلا. فهذه منة منك لا حقاً.
عبد الله علي إبراهيم
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الجبهة الثوریة نظام الإنقاذ مسار الشرق البنی عامر سلام جوبا فی اتفاق
إقرأ أيضاً:
ماذا تريد واشنطن وطهران من العودة للمفاوضات؟
تتطلع الأنظار اليوم السبت إلى سلطنة عمان التي تشهد محادثات أميركية إيرانية بشأن البرنامج النووي لطهران، في أول تقدم ملموس بهذا الملف منذ سنوات، إذ تأتي هذه المحادثات بأهداف متباينة بين الطرفين، وسط حالة من عدم الثقة المتبادلة استمرت منذ انسحاب واشنطن من اتفاق 2015.
ومن المقرر أن يحضر وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي والمبعوث الأميركي الخاص ستيفن ويتكوف افتتاح الحوار الذي تضطلع سلطنة عمان بدور الوساطة فيه، حيث ستجري المباحثات بشكل غير مباشر عبر وسيط، مع احتمال عقد لقاء مباشر بين المسؤولين.
ويدخل الطرفان هذه المفاوضات بحذر شديد، في محاولة للتأسيس لاتفاق نووي جديد على أنقاض اتفاق 2015، وسط مراقبة إسرائيلية حثيثة لما قد تفضي إليه المحادثات، خاصة بعد الصدام العسكري المباشر بين تل أبيب وطهران العام الماضي.
لحظة فارقةتمثل هذه المحادثات لحظة فارقة في مسار العلاقات بين إيران والغرب، بعد سنوات من التوتر المتصاعد منذ وقع دونالد ترامب في ولايته الرئاسية الأولى قرار انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، معتبرا إياه اتفاقا معيبا لا يخدم المصالح الأميركية.
ووضع الانسحاب الأميركي الأطراف الأوروبية الموقعة على الاتفاق في مأزق، بينما اعتبرت طهران نفسها في حل مما التزمت به، فرفعت نسبة تخصيب اليورانيوم تدريجيا، متجاوزة الحد المسموح به في اتفاق 2015 وهو 3.67%.
إعلانوتمكنت إيران من الوصول بنسبة التخصيب إلى 60%، مقتربة بذلك من النسبة التي تمكّنها من صناعة قنبلة نووية (90%)، كما بدأت بتشغيل أنظمة طرد مركزي أكثر تقدما من تلك التي سمح بها الاتفاق النووي.
وحاول الغرب، وإدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن على رأسه، احتواء الطموحات الإيرانية بتطوير البرنامج النووي، وجرت جولات تفاوض جديدة في فيينا بدا أنها تتجه نحو إحياء الاتفاق النووي، لكن مسودة الاتفاق التي أُعلنت في مارس/آذار 2022 لم تكن سوى سراب.
ومنيت تلك المساعي بفشل ذريع، لأسباب معقدة ترتبط بما وصفه الجانبان بانعدام الثقة المتبادل، وتغييرات في هرم القيادة في طهران، مع تواتر مطالب بإدخال برامج تسلح إيران ونفوذها الإقليمي في أي محادثات معها.
وسعت إدارة بايدن لاحقا للتوصل إلى اتفاق محدود لا يعني العودة إلى الاتفاق النووي، تضمنت بنوده صفقة تبادل سجناء مقابل الإفراج عن 6 مليارات دولار من الأموال الإيرانية المجمدة في كوريا الجنوبية.
ماذا يريد ترامب؟ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، عادت معه الرغبة في التأسيس لاتفاق جديد، ضمن خطوات قال إنها ترمي لإنهاء الصراعات والأزمات المهيمنة على الواقع الدولي، وأمام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، المطالب بتحرك حاسم ضد إيران، كشف ترامب عن محادثات أميركية إيرانية.
وعاد ترامب أمس الجمعة ليكرر تهديداته لإيران، مؤكدا أنها ستدفع ثمنا باهظا إن لم توافق على التخلي عن برنامجها النووي، وقال للصحفيين على متن طائرة الرئاسة الأميركية: "أريد أن تكون إيران دولة رائعة وعظيمة وسعيدة، لكن لا يمكنهم امتلاك سلاح نووي".
ويسعى الرئيس الأميركي إلى اتفاق أكثر صرامة، يقيّد البرنامج النووي الإيراني بشكل دائم لا مؤقت، ويتضمن قيودا على تطوير إيران للصواريخ الباليستية، التي يراها تهديدا للولايات المتحدة.
إعلانكما يريد ترامب الحد من الدعم الإيراني للجماعات المسلحة في سوريا واليمن والعراق، في إطار سعيه لتقييد النفوذ الإيراني في المنطقة، وهي مطالب تجاوزت بكثير ما كان متضمنا في اتفاق 2015.
مطالب طهرانأما إيران، فتدخل المفاوضات لإثبات مرونتها، مع الحفاظ على موقفها السيادي، خاصة بعدما عانى البلد ولا يزال من ضغوط دولية أنهكت اقتصاده، وجعلت السلطات في مواجهة بعض الاحتجاجات الشعبية تحت وطأة الأزمة الاقتصادية.
وتهدف طهران من أي مسار تفاوضي إلى رفع العقوبات الاقتصادية، التي أدت إلى تدهور قيمة العملة وارتفاع التضخم، والعودة بنفطها إلى السوق الدولية وضمان تدفق عائداته، وإعادة اندماجها في النظام المالي العالمي.
كما تطالب برفع الحرس الثوري الإيراني من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية، بعدما صنفته إدارة ترامب عام 2019، وتصر على الاعتراف بحقها في برنامج نووي للأغراض السلمية، مثل توليد الطاقة والبحث العلمي.
وتشدد طهران على ضرورة وجود ضمانات ملزمة من الولايات المتحدة بعدم الانسحاب من أي اتفاق نووي جديد، إذ لا تزال تجربة الانسحاب الأميركي من اتفاق 2015 تلقي بظلالها على أي مسار تفاوضي جديد.
العامل الإسرائيليوأمام أي اتفاق محتمل بين الولايات المتحدة وإيران، تقف إسرائيل مراقبة ومترصدة، خاصة أن الظرف الراهن يأتي بعد جولة من التصعيد غير المسبوقة بينها وبين إيران، حيث دخلا معا في أجواء مواجهة حقيقية عبر هجمات متبادلة خلال العام 2024.
ولا ترغب إسرائيل في أن تبرم الإدارة الأميركية أي اتفاق مع إيران، إلا إذا كان يفكك كليا قدراتها النووية والصاروخية، لكن ترامب كقائد سياسي ورجل صفقات، له حساباته الخاصة التي تستند إلى معيار واحد: ما المكسب؟ وما الخسارة؟
وبينما قد تحقق المفاوضات الحالية هدفها وتمهد الطريق لاتفاق نووي وما هو أكثر منه، تظل احتمالات سيطرة حالة انعدام الثقة قائمة، مما قد يقود إلى جمود جديد أو تصعيد كما حذر ترامب في تصريحاته الأخيرة.
إعلان