مراجعات (مناوي)، هل السودان الجديد مكتوب؟
تاريخ النشر: 14th, March 2025 GMT
سمعت خطاب لمناوي يدعو فيه للمراجعات، وهي كلمة تقال بمعنى أن يتخذ التيار السياسي وقفة مع ذاته وينظر لأصوله الفكرية والنظرية ويقومها وفق نتائج الممارسة بما يقود لخطاب جديد، عموما هذه بداية مهمة ليفكر مناوي في مراجعات لا تقل أهمية إن لم تكن هي الأهم، مراجعة اسم حركته (تحرير السودان) وأصلها النظري وتيار السودان الجديد.
في العام ١٩٨٣م ومع نشأة الحركة الشعبية لتحرير السودان حدثت نقلة نوعية في طبيعة حركات التمرد، تغير الاتجاه المطلبي الإقليمي القديم لاتجاه أكثر حدة وهو مطلب تغيير الدولة نفسها واستهداف عناصر تاريخية في تكوينها، وذلك في إطار سردية كاملة عن تاريخ السودان وهويته وثقافته وانحيازاته، وإعادة موضعة السودان على النقيض من صلته بالثقافة الإسلامية والعربية، هذا التيار عرف بالسودان الجديد.
عبارة (تحرير) عند هذا التيار وهذه الحركات هي مفهوم آيدلوجي عقائدي مركب إثنيا وثقافيا، والمقصود به هو التحرير من حالة فهمت بأنها استعمار ثقافي وعرقي داخل الإطار القطري، وهذا فهم خاطئ ومضلل وتسطيحي، ولكن هذه اللافتة التحريرية أصبحت موضة في السودان خلال الثمانينات والتسعينات والألفية الجديدة، وكان العامل الخارجي مهما في مصادر التمويل والتسليح لهذه الحركات، وتعددت مصادره من دول الجوار والإقليم، ولكن بريطانيا وإسرائيل وفرنسا وشبكات التمويل الغربي الأمريكي وواجهاتها كانت أهم مصادر المال والسلاح لحركات التحرير هذه، ستظل هذه الحالة محكومة بالتسطيح النظري والقابلية للتدمير والعنصرية والعمالة مع الخارج كيفما اتخذت من أشكال، سواء في الغرب أو الشرق أو الشمال، حتى لو تحولت ل(سودان جديد مضاد).
لسبعة عقود من تاريخ الدولة كانت كافية لكشف حقيقة واضحة: وهم حركات التحرير هذه ووهم عقائديتها وقدرتها التدميرية والتخريبية في كل مراحلها، وتهافت أساسها النظري. ومن كشف للجميع هذه الحقيقة بوضوح هو مليشيا الدعم السريع. فهي اليوم حركة تحرير مماثلة للحركة الشعبية ولحركات الكفاح المسلح قديما، وتحالفها مع حركة الحلو ليس تحالفا عرضيا بل هو تفاهم عميق يكشفه الهدف الاستراتيجي لحركات التمرد في نسختها المتطرفة وهو: هدم وتفكيك وحصار الدولة السودانية وإعادة موضعتها في سياق رؤية استراتيجية صهيونية غربية.
لكن حركات التحرير هذه كانت بداخلها دوما تيارات وعناصر أكثر براغماتية وعملية، عناصر تهدف لشيء محدد، شيء واقعي مثل السلطة أو تحقيق مطالب مناطقية أو مندفعة بمظلمة حقيقية ملموسة ولا تهمها الآيدلوجيا كثيرا، هذه العناصر أقل عقائدية من غيرها وأكثر قابلية للمساومة مع الدولة وهذه ميزة إيجابية، بالطبع هذا الشيء ترفضه العناصر العقائدية في تيار السودان الجديد مثل الحلو وعبدالواحد فهذه تقاتل من أجل هدم السودان كيفما كان الثمن، بالطبع من أهم أمثلة ونماذج العناصر البراغماتية والعملية مناوي وجبريل، وانقسام مناوي قديما عن عبدالواحد هو انقسام البراغماتي العملي عن الآيدلوجي العقائدي داخل تيار الحركة.
من سميناهم العناصر الأكثر عملية ويراغماتية في هذه الحركات، هي عناصر في جوهرها لا تحمل عداء عميقا وعقائديا للدولة وإن استخدمت ذات شعارات حركات التمرد ووسائلهم، وهم في مستوى ما تستطيع قوة الدفع الذاتي المستقل لهم ولقواعدهم أن تدفعهم للمساومة مع الدولة، هم أيضا أكثر محلية أذا ما قارناهم بالتيار الرئيس Mainstream في حركات التحرير هذه وأكثر قابلية للمساهمة الوطنية إذا ما قارناهم ببقية الحركات.
ولكن البراغماتية والعملية أمور لا يمكن الاستناد عليها استراتيجيا، لابد لهذه الحركات المسلحة من قطيعة نظرية وآيدلوجية ومراجعة حقيقية للمصادر الفكرية والآيدلوجية التي استندوا عليها من قبل حين كانوا يرفعون شعار السودان الجديد، فعداء الدولة بهدف هدمها لا يحقق مصلحة لأي طرف، وهذا بالضبط ما يجب أن يهتم به (مناوي) حين يتحدث عن المراجعات، ثمة مراجعات ضرورية وحاسمة مطلوبة من حركته لفكرة (السودان الجديد) التدميرية، عليه أن يهتم بهذا الأمر بأكثر من مراجعات الآخرين، هذا هو الواجب الذي يجب أن نراه في الخطاب بوضوح.
أخيرا:
حرب الكرامة هي لحظة تاريخية حاسمة، مثل المرآة التي كشفت ثمار كل مشروع ومشكلاته، وكشفت كذلك طبيعة أعداء الدولة الوطنية، وتموضع الحركات المسلحة مع القوات المسلحة فرصة قوية لتعزيز قوة مسار الدولة الوطنية، وهبة مجتمعات السودان جميعها هي فرصة لتعميق التعاقد الوطني السوداني، المهم أن (يشوف أي جمل عوجة رقبته) حتى يتحقق النصر ضد أعداء السودان الذي نعرفه من العملاء والمليشيا والانفصاليين.
هشام عثمان الشواني
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: السودان الجدید هذه الحرکات
إقرأ أيضاً:
سرديات الخراب: كيف تعيد الحرب إنتاج نفسها في السودان؟
إنه الارتطام الأخير في سلسلة الارتطامات التي لم تكن سوى استكمالٍ لسردية الطغاة الذين يقتاتون على هشاشة البنية التاريخية لهذا المكان.
منذ اللحظة التي استُبيحت فيها الخرطوم ومدن الجزيرة والنيل الأزرق وغرب السودان تحت وطأة البنادق التي جيفت خطاها في شوارع صنعها المقهورون بعرقهم ودمائهم، بدا واضحًا أن المأساة ليست سوى إعادة إنتاج لحتميةٍ لم يتبقَّ منها إلا أنيابها المنغرزة في لحم المدن.
ما الذي يجعل الجلادين ينهشون بعضهم بعضًا بعد أن فرغوا من معاركهم ضد الأبرياء؟ لعل التاريخ، كما قال بنيامين، لا يسير نحو التقدم، بل هو كومة من الركام يزداد ارتفاعها مع كل طاغية جديد.
فمنذ سقوط الخرطوم الأول في 1885، كان المشهد معدًّا لولادة دائمة للحروب التي لا تجد نهايتها، بل تتشكل في كل مرة وفق سرديات الهيمنة السائدة: الدين، العرق، القومية، ثم أخيرًا تلك الفانتازيا القاتلة التي تُسمى الدولة.
غير أن الخرطوم لم تسقط وحدها، بل سقطت معها آخر أوهام الاستقلال، فالدولة الوطنية التي بُنيت على أنقاض الاستعمار لم تكن سوى استبدال مباشر للسيد الأبيض بسيد محلي لا يقل عنه تعطشًا للهيمنة.
كانت السلطة منذ البدء مشروعًا قمعيًا، تُعاد صياغته وفق مقتضيات اللحظة، لكن جوهره ظل ثابتًا: السيطرة عبر القوة، وتبرير تلك السيطرة عبر سرديات تبدو منطقية في ظاهرها، لكنها لا تصمد أمام التفكيك النقدي العميق.
حين وقعت ثورة ديسمبر 2018، كان ثمّة رهان على أن التاريخ قد انحرف أخيرًا عن مداره المعتاد، وأن القوى المدنية، ولأول مرة منذ 1956، قد أصبحت قادرة على كسر احتكار العسكر لمصير البلاد. لكن سرعان ما تبدّد هذا الوهم، ليس لأن الثورة لم تكن أصيلة، بل لأنها كانت تحاول زرع بذور المستقبل في أرض صلبة من اختزال الصراعات داخل ثنائية الخير والشر، متناسيةً أن من يدير آلة القمع ليس مجرد جنرال، بل بنية متشعبة تمتد من السوق إلى الجامع، ومن المنهج الدراسي إلى التلفزيون الرسمي، ومن دور الفقه إلى غرف العمليات في السفارات الأجنبية.
لم يكن العسكر وحدهم من انقضّ على الثورة، بل كان معهم تحالف كامل من الطامحين لوراثة الخراب، كلٌّ وفق رؤيته الخاصة لمستقبل الهيمنة. رجال الأعمال الذين كوّنتهم سنوات التمكين، سماسرة الحرب، زعماء الطوائف الذين لا يعيشون إلا في ظل الفوضى، والنخب التي لم تتردد لحظة في بيع الوهم للشعب مقابل موطئ قدم في مائدة السلطان.
وهكذا، كان الانقلاب على الثورة تحصيل حاصل، فلم يكن ممكنًا لنظام عسكري-رأسمالي-أيديولوجي أن يسمح بظهور نموذج جديد للحكم يهدد مصالحه.
في مساء الخامس والعشرين من أكتوبر 2021، حين انقلب البرهان وحميدتي على الشراكة الهشة، لم يكن ذلك انقلابًا ضد الوثيقة الدستورية فحسب، بل كان إعلانًا صريحًا بأن المؤسسة العسكرية، التي تشكلت عبر عقود من التحالف بين الدولة العميقة والجبهة الإسلامية، لن تسمح بتحول السودان إلى فضاءٍ مدني. كان ذلك تأكيدًا على أن الهيمنة لا تعترف إلا بالقوة، وأن السردية الوحيدة المقبولة هي تلك التي تخرج من فوهة البندقية.
لكن، مثل كل الطغاة الذين ينسجون نهايتهم بأيديهم، لم يدرك الرجلان أن استيلاءهما المشترك على السلطة ليس سوى بداية لمعركة شرسة بينهما. فالقوة، كما يعلم كل من قرأ غرامشي، لا يمكن أن تظل مقسّمة بين مركزين متصارعين دون أن يحاول أحدهما ابتلاع الآخر. وهكذا، بين ليلة وضحاها، تحولت الشراكة إلى تنازع، ثم إلى قطيعة، ثم إلى الحرب.
ولأن لكل حرب سردياتها، بدأ كل طرف في إعادة تشكيل ماضيه ليناسب طموحاته. البرهان، وريث المؤسسة العسكرية التقليدية، استعاد خطاب “الدولة” و”المؤسسة”، مستندًا إلى علاقاته القديمة مع القاهرة ورياض الانقلابات، محاولًا إقناع العالم بأنه الامتداد الطبيعي لعسكر ناصر والسادات والبشير. أما حميدتي، ابن الهامش الذي صعد من بؤس دارفور إلى قلب الخرطوم، فقد حاول أن يعيد اختراع نفسه كمنقذٍ من الطغيان، متقمصًا دور الثائر ضد البيروقراطية العسكرية التي همشته رغم خدماته الطويلة لها، مستعينًا بحلفائه في العواصم البعيدة التي رأت فيه وكيلًا مثاليًا لمصالحها.
لكن كلا السرديتين لم تكونا سوى محاولتين لإخفاء الحقيقة: أن الحرب ليست صراعًا على المبادئ، بل هي معركة بين شبكتين من المصالح، تتداخل فيهما حسابات الذهب مع خطوط الإمداد الإقليمي، وتتحرك فيهما المواقف وفق الرياح القادمة من أبوظبي والخرطوم وباريس. فمنذ متى كان البرهان ديمقراطيًا؟ ومنذ متى كان حميدتي نصيرًا للثورة؟
إن استدعاء ماركس هنا ليس ترفًا، فالسودان اليوم هو النموذج الحي لما وصفه في الثامن عشر من برومير، حيث يعيد التاريخ نفسه أولًا كمأساة، ثم كمهزلة. فالجيش، الذي كان يفترض أن يكون أداةً لحماية البلاد، أصبح هو نفسه العدو الأول لها. والدعم السريع، الذي بدأ كأداة لقمع الهامش، صار وحشًا يلتهم المركز. وفي كل هذا، يبقى المدنيون، الذين ملأوا الشوارع بأحلامهم، مجرد مشاهدين لمسرحية تُكتب فصولها بالدماء، وقودًا لسرديات تُصاغ في أروقة مراكز النفوذ العالمية، بين تقارير الاستخبارات وحسابات شركات السلاح.
ما العمل إذن؟ هل نقول مع برناردو في افتتاحية هاملت: “ثمة شيء عفن في مملكة الدنمارك”؟ أم نستدعي فرانز فانون لنفهم كيف أن النخب الفاشلة تظل تعيد إنتاج الاستعمار بأدوات وطنية؟ أم نعود إلى ألتوسير لنتأمل كيف أن مؤسسات الدولة الأيديولوجية تخلق مواطنين مستعدين لتكرار المأساة إلى ما لا نهاية؟
ربما لا نحتاج إلى أيٍّ منهم، فالحقيقة أبسط من ذلك: ما لم يتم تفكيك الدولة العميقة التي جعلت من الجيش والميليشيا صنوان، وما لم يتم إعادة تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع خارج منطق القوة، وما لم تدرك الأجيال الجديدة أن الثورة لا تُختزل في مظاهرة، ولا في بيان، ولا حتى في حكومة مدنية، بل هي عملية طويلة من تفكيك البنى المهترئة وإعادة بناء مفهوم الدولة من الأساس، فإن هذه الحرب لن تكون الأخيرة، بل مجرد فصل جديد في الحكاية التي لا تنتهي
zoolsaay@yahoo.com