عندما انطلقت العولمة كهوية اقتصادية للنظام الاقتصادي العالمي مع مطلع التسعينيات، طويت معها صفحة صراع الهويات الأيديولوجية على الصعيد الاقتصادي، فلم يعد هناك مجال للهوية الاشتراكية، أو التخطيط المركزي.

فغالبية دول العالم، تبنت الهوية الرأسمالية، حتى بالنسبة لروسيا والصين، اللتين كانتا تمثلان هويات ماركسية وماوية من قبل، فوجدنا تجارب الدولتين، تنتظم في آليات النظام الاقتصادي الرأسمالي، وتنتهجان آلية الخصخصة، والسعي لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والاندماج في عضوية منظمة التجارة العالمية.

باستثناء كوريا الشمالية وكوبا، اللتين ما زالتا تخضعان لواقع اقتصادي شمولي، وتخطيط مركزي، وإن كانت كوبا قد تشهد تغيرا في هويتها الاقتصادية خلال الفترة القادمة، ولكن الوزن النسبي لهاتين الدولتين، غير مؤثر في مجريات الاقتصاد العالمي.

والهوية الاقتصادية في مفهومها العام، هي طريقة التصرف في الموارد الاقتصادية (الطبيعية، والبشرية، والمالية) للمجتمع، ما بين القطاع الخاص أو العام، أو الجمع بينهما، وكذلك نظام الملكية، من حيث السماح بالملكية العامة أو الخاصة أو الجمع بينهما، وعلى طريقة الاختيار بين تلك المبادئ يتم تحديد وجهة النظام الاقتصادي للدولة أو التكتل، هل هو النظام الرأسمالي أو الاشتراكي، أو الإسلامي، أو المختلط؟

هوية البريكس

يستمر الحديث عن ضرورة ميلاد نظام اقتصادي عالمي جديد، منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، نظرا لما تعرضت له اقتصاديات العالم من مشكلات، بسبب الممارسات الضارة من قبل أميركا والمؤسسات المالية الدولية.

وفي افتتاح قمة جنوب أفريقيا الـ15 للبريكس -أمس الثلاثاء- وجدنا الكلمات الرئيسة، تركز على أهمية توسيع عضوية المجموعة، وأن توسيط العملات المحلية في التجارة والتسويات المالية، ليس الهدف منه الاستغناء عند الدولار، كما جاء في كلمة رئيس البرازيل لولا دا سيلفا.

وأكد دا سيلفا على أن مهمة تكتل بريكس ليست مواجهة مجموعة السبع الصناعية ولا أميركا، ولكنهم يريدون فقط تنظيم أنفسهم، ولكننا نجد العديد من الكتابات تذهب إلى أن تكتل بريكس -عبر أدائه الاقتصادي المتزايد من حيث نصيبه من الناتج المحلي الإجمالي والتجارة الدولية- يعد بداية لميلاد نظام اقتصادي عالمي جديد.

والسؤال هو إذا كان تكتل بريكس يرتب نفسه ليكون أداة التغيير لنظام اقتصادي عالمي جديد، أو أنه البديل للتجربة الأميركية والغربية، بما أفرزته من مشكلات كبيرة لباقي اقتصاديات العالم، وتحيز المؤسسات المالية الدولية، فهل سيكون تكتل البريكس صاحب هوية اقتصادية جديدة بديلة للهوية الرأسمالية؟

أم أن أكبر ما يسعى إليه تكتل بريكس، هو أن يستمر على الهوية الرأسمالية، ولكن من خلال عولمة جديدة، يسعى إلى أن تتسم بالعدالة، وأن يحظى الجميع فيها بحظوظ أفضل من حيث عوائد النشاط الاقتصادي العالمي؟


خيار مستبعد

في إطار تحليل مضمون للكلمات الرئيسة في افتتاحية القمة، وحتى كلمة الرئيس فلاديمير بوتين التي ألقاها عبر الفيديو؛ نجد أنها أتت جميعها في إطار الحديث عن سلبيات وانتقادات لممارسات أميركا، أو سيطرة الدولار، والحلول المعروضة كانت بمثابة تغيير أدوات، مثل مناقشة أن يكون للبريكس عملة موحدة، أو زيادة توسيط العملات المحلية في التجارة الدولية بين دول التكتل.

ولكننا لم نسمع طرحا ماركسيا أو ماويا، في المسائل والقضايا الاقتصادية والاجتماعية المعروضة، كما لم نسمع عن مواجهة بين نموذجين اقتصاديين متضادين، بل جُل ما هو مطلوب تعديل النموذج القائم في ضوء أدواته ووسائله.

ولم يرد أي ذكر لقضايا العمل والعمال، ولا لطرح أن تكون الصفقات المتكافئة بدلا للتسويات المالية بالدولار، ولا بإثارة قضايا علاقات العمل، أو العدالة الاجتماعية، التي تثار في إطار معسكر النظام الاشتراكي.

وبالتالي فخيار ترك الرأسمالية بالنسبة لدول تكتل بريكس، أمر مستبعد، ويعد غياب الهوية الاقتصادية البديلة نقطة ضعف كبيرة لدى بريكس.

ثوب الرأسمالية باق

هل نحن في إطار ما يسمى بالمرحلة الانتقالية، وعليه فدول تكتل البريكس، تتعايش مع مقتضيات النظام الرأسمالي؟ وفي حالة تغلب تكتل بريكس اقتصاديا؛ هل سيكون هناك حديث آخر؟

الحقيقة الواضحة أن جميع دول البريكس انتعشت اقتصاداتها في ظل نظام العولمة، واستخدام آليات النظام الاقتصاد الرأسمالي، حتى إن قاطرة التكتل، وهي الصين، بدأت تعاني من نفس أمراض أميركا الاقتصادية، وهي أمراض ناتجة عن عدم صلاحية الأدوات للأجلين المتوسط والطويل، كما هي الحال بالنسبة لتمويل التنمية بالديون.

والخطوة التي مثلت نقلة نوعية في أداء تكتل بريكس، وهي بنك البنية التحتية أو الأساسية، باعتبارها تهديدا لدور مؤسسة البنك الدولي، وجدنا أنها تعمل بنفس آلية التمويل بالديون وليس المشاركة، وأما مسألة التمويل بدون شروط من قبل بنك البنية التحتية لتجمع بريكس، فستخضع لاختبار الزمن، لأن القاعدة في العلاقات الدولية "لا يُقدَّم شيء مجانا".

ومن هنا يمكننا توقع أن أفضل ما يمكن أن يصل إليه تكتل البريكس في قضية الهوية الاقتصادية، أن يسعى لتقديم بديل للعولمة الحالية، وتجنب مساوئها الاقتصادية وفي المجالات الأخرى.

وإن كان ذلك أيضا استنتاج يحتاج إلى اختبار، لأن سيطرة رأس المال، تفرض بجوارها سيطرة السلطة، وتصدير النموذج المعرفي والثقافي، ومن هنا وجدنا العولمة ليست مجرد أدوات اقتصادية، ولكنها قدمت نموذجا تنميطيا لكافة السلوك البشري على مستوى العالم، وفق النموذج الرأسمالي، ولم يجد أحد منه بُدا.

ولعلنا نسوق شاهدا على ارتباط تجربة البريكس بالنموذج الرأسمالي وصعوبة الفكاك منه، من خلال قيمة التجارة بين دول التكتل وأميركا.

فوفق إحصاءات أميركية لعام 2022، بلغت قيمة التجارة لدول البريكس مجتمعة مع أميركا 950 مليار دولار، بما يمثل 10.4% من إجمالي التجارة الخارجية للتكتل. بينما بلغت التجارة البينية لتكتل بريكس في نفس العام 162 مليار دولار، وفق تصريح رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا في كلمته الافتتاحية بالقمة، أي أن التجارة البينية لدول تكتل بريكس أقل بكثير من قيمة تجارة التكتل مع أميركا وحدها، فما بالنا إذا أضفنا إلى أميركا مجموعة السبع الصناعية؟

وإذا ذهبنا لمقارنة قيمة التجارة البينية للبريكس مع قيمة تجارته مع العالم الخارجي، فإننا سنجدها هزيلة جدا، فهي لا تمثل سوى نسبة 1.8% تقريبا، وهو ما يخالف طبيعة أداء هذا المؤشر في تكتل مثل الاتحاد الأوربي الذي تصل فيها التجارة البينية إلى قرابة 65% من إجمالي تجارته الخارجية، وفي تجربة تجمع "الآسيان" تصل التجارة البينية إلى نسبة 25% من إجمالي تجارته الدولية.

وحتى تجربة الصناديق السيادية لروسيا والصين، والتي انطلقت منذ مطلع الألفية الثالثة، وُجد أنها تدار وفق قواعد الرأسمالية، القائمة على سعر الفائدة والديون، والتعامل في المضاربات بالبورصات، أو التجارة الدولية، رغم ملكيتها للدول.


إمكانية التغيير

على ما يبدو فإن إمكانية تعرض الهوية الاقتصادية الحالية للنظام الاقتصادي العالمي -والتي تتسم بالرأسمالية- للتغير، ترتبط بإحداث تعديل بارز في مقدرات النظام السياسي، فأميركا استطاعت أن تفرض نظام العولمة مطلع التسعينيات، من خلال تفردها السياسي والعسكري، وبالتالي فجهود بريكس في المجال الاقتصادي، ستظل في إطار جني المصالح قدر المستطاع.

كما أن سلوك دول بريكس مع الدول الأقل نموا والنامية، لم تخرج عن النموذج الأميركي أو الغربي، وهو تقديم الفتات من المساعدات، وجعل هذه الدول سوقا لمنتجاتها، أما نقل التكنولوجيا، أو تغيير طبيعة التعاون إلى شراكة بدلا من التجارة، فلم يلاحظ فيه أداء متميز لدول البريكس.

وعليه، يمكننا أن نصل إلى أن الهوية الاقتصادية لتكتل البريكس والمخالفة للرأسمالية غير معروضة على أجندة التكتل، وأن الرأسمالية كهوية اقتصادية للنظام العالمي باقية لحين إشعار آخر.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: التجارة البینیة تکتل البریکس تکتل بریکس فی إطار

إقرأ أيضاً:

بلومبيرغ: ماليزيا تقدم نموذجا للصين لتحقيق نمو مستدام بنسبة 5%

قالت وكالة بلومبيرغ إن ماليزيا تواصل تقديم نموذج ناجح للنمو الاقتصادي المستدام، حيث أظهرت مرونة ملحوظة في تحقيق نمو اقتصادي بنسبة 5.3% خلال الربع الأخير، متفوقة على الصين التي سجلت نموا بنسبة 4.6%.

ويعكس أداء ماليزيا قدرتها على الحفاظ على استقرارها الاقتصادي وتعزيز ثقة المستهلكين، وهو ما يجعلها محط اهتمام الدول المجاورة والمستثمرين الدوليين.

سياسات فعالة

وتستند ماليزيا في نجاحها -وفق بلومبيرغ- إلى مجموعة من السياسات الاقتصادية الفعّالة التي وضعت أسسا قوية منذ عقود.

ماليزيا حرصت مبكرا على جذب الاستثمارات الأجنبية من خلال إنشاء مناطق تجارة حرة (شترستوك)

من بين هذه السياسات، جذب الاستثمارات الأجنبية المبكرة في سبعينيات القرن الماضي من خلال إنشاء مناطق تجارة حرة، وهي خطوة سبقت تطبيقها في الصين. حيث تمكنت الدولة الآسيوية من استقطاب شركات عالمية مثل إنتل كورب، مما جعل ولاية بينانغ محورا لصناعة التكنولوجيا في المنطقة.

هذا النهج أدى -وفق الوكالة- إلى توسع النجاحات ليشمل مناطق أخرى في البلاد مثل كيداه وجوهور، حيث استقرت شركات كبرى مثل إنفينون تكنولوجيز.

استقرار السياسات النقدية

وساهم استقرار الأسعار في تعزيز ثقة المستهلكين ودعم الإنفاق المحلي. وتذكر بلومبيرغ أن السياسات النقدية القوية والإجراءات غير التقليدية مثل تحديد الأسعار كانت أساسا لهذا الاستقرار، مما جعل ماليزيا قادرة على حماية مواطنيها من تقلبات السوق.

على سبيل المثال، تقدم الحكومة الماليزية دعما للسلع الأساسية مثل الوقود والسكر والكهرباء، رغم أن هذا الدعم يشكل عبئا على المالية العامة.

في الوقت نفسه، تسعى ماليزيا لتحقيق قفزة نوعية في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. وأطلق رئيس الوزراء أنور إبراهيم، الذي يحتفل بمرور عامين على توليه المنصب برنامجا لجذب الشركات التي توفر وظائف ذات دخل مرتفع وتعزز الابتكار.

شركات مثل مايكروسوفت وأمازون وغوغل استجابت لهذا النداء، حيث استثمرت في البنية التحتية التقنية للبلاد، مما يجعل ماليزيا رائدة في المنطقة.

أنور إبراهيم أطلق برنامجا لجذب الشركات التي توفر وظائف ذات دخل مرتفع وتعزز الابتكار (رويترز) تحديات

ورغم هذه النجاحات، تواجه ماليزيا تحديات مستقبلية. محليا، هناك نزاعات مع بعض الحكومات المحلية حول عائدات الغاز، في حين أن إلغاء الدعم التدريجي للوقود قد يؤدي إلى تأثيرات على التضخم وثقة المستهلكين.

وعلى الصعيد الدولي، يُنظر إلى إعادة انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة بعين القلق بسبب السياسات الاقتصادية غير المتوقعة التي قد تؤثر على الاقتصاد العالمي.

ومع ذلك، يؤكد محافظ البنك المركزي الماليزي عبد الرشيد غفور أن ماليزيا مستعدة لمواجهة هذه التحديات من "موقع قوة". وأضاف أن الاقتصاد يعتمد بشكل أساسي على الطلب المحلي ويتمتع بتنوع كبير في الشركاء التجاريين.

وفي الوقت نفسه، تهدف الحكومة إلى تحقيق نمو بنسبة 5% سنويا في السنوات المقبلة، وهو هدف طموح لكنه مدعوم بسياسات فعالة وإستراتيجيات طويلة الأمد وفقا للوكالة.

مقالات مشابهة

  • بلومبيرغ: ماليزيا تقدم نموذجا للصين لتحقيق نمو مستدام بنسبة 5%
  • الإطار التنسيقي بين دعوة السيستاني وإثبات هويته كممثل للشيعة في العراق
  • برلماني: توجيهات القيادة السياسية بتحسين مناخ الاستثمار تُبلور خارطة مصر الاقتصادية للمستقبل
  • كُشفت هويته.. من هو المُستهدف بـغارة البسطا؟
  • كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يشكل مستقبل التجارة الدولية؟
  • إيران تقدم طلب انضمام إلى بنك مجموعة بريكس
  • أستاذ اقتصاد: الإشادة الدولية بنهج مصر الاقتصادي تعزز الثقة لدى المستثمرين
  • أميركا تفصح عن موقفها حيال قرار الجنائية الدولية
  • قيادي بـ«الشعب الجمهوري»: الإصلاح الاقتصادي أدى لحماية مصر من الأزمات الدولية
  • «الشباب والرياضة» ومعلومات مجلس الوزراء ينظمان ورشة «أندية شباب بريكس+»