هذا كلام ربما يعتبره البعض غير علمى؛ لأنه صادر من غير متخصص، وربما يعتبره بعض آخر «طق حنك» بتعبير الشوام، أو ما يقابله فى عاميتنا المصرية «سد خانة». لكنه ضرورى لأن الواقع يؤكد ذلك، ولأن الحقيقة تشير إلى أنه حلم أجيال.. أى نعم حلم أجيال.
كلامى هنا ينصرف إلى فكرة اكتفاء مصر الذاتى من القمح، وهو أمر بات حديث الساعة على وقع الأزمة التى نعيشها بسبب الحرب فى أوكرانيا وتأثرنا بإمدادات القمح؛ ما ألقى بأوضاع بالغة السلبية على حال رغيف العيش الذى يعتبر أساس معيشة المصريين، والذى أصابه السل وتمكن منه بحيث يكاد أن يضمر ويتلاشى من فرط تقزمه لدى أصحاب المخابز!
نشأت منذ نعومة أظافرى على فكرة أن مصر كانت سلة القمح للإمبراطورية الرومانية، ونشأت منذ تلك النعومة أيضا على أننا نواجه فى واقعنا الحالى – منذ أربعين سنة وأكثر –فجوة غذائية فى العديد من السلع على رأسها القمح.
ولأن المسألة حديث الساعة فلا تكاد تمر مناسبة إلا وتطرق إليها الرئيس السيسى، ومن ذلك إشارته الأخيرة خلال جولته التفقدية للأكاديمية العسكرية المصرية إلى أننا نستهلك حوالى 20 مليون طن من القمح فى السنة الواحدة ونستورد منه كميات كبيرة قد تصل لنصف استهلاكنا. المشكلة التى يمكن لك أن تلمحها من حديث الرئيس أنه رغم كل الجهد المبذول لتجاوز تلك الأزمة وأخواتها من نقص محاصيل زراعية استراتيجية إلا أن ذلك أمر يبقى محل شك، رغم أننا خلال شهور قليلة –حسب كلام الرئيس– «هنكون حاطين على خريطة مصر حجم ضخم جدا من الأراضى الزراعية فى الدلتا الجديدة، وفى توشكى وشرق العوينات وسيناء، وهى أكثر من 3 ملايين فدان».
طبعا أسباب كثيرة تتدخل لتزيد من تعقيد المشكلة مثل الزيادة السكانية ونقص المياه، وهى أمور لمسها تقرير متميز نشرته جريدة الشرق الأوسط اللندنية منذ أيام رغم أنه يشعرك بالقلق خاصة حينما تعلم أنه وسط الظروف الصعبة التى نحياها من المنتظر أن يصل عدد سكان مصر عام 2050 لنحو 175 مليون نسمة.
رغم ذلك فإنه يمكن لنا من خلال مادة التقرير أن نرى مؤشرات على أضواء فى نهاية النفق، ما يعنى أن الأحلام ما زالت ممكنة.. فالدكتور كمال نجيب النائب السابق لرئيس مركز البحوث الزراعية مثلا يؤكد على أهمية توظيف سلالات نباتية جديدة للمحاصيل الزراعية تواكب طبيعة الأراضى المستصلحة، وتتحمل الملوحة والجفاف، موضحًا أن هناك تطبيقات حالية فى مناطق مثل توشكى وشرق العوينات لنتائج دراسات علمية أجريت على مدى السنوات العشر الماضية فى هذا المجال.
فيما ذهب آخر هو الدكتور رأفت خضر، الرئيس الأسبق لمركز بحوث الصحراء إلى أن اتجاه مصر للتوسع الزراعى أفقيًا (عبر زيادة المساحة)، ورأسيًا (بزيادة الإنتاج) يمثل استجابة واضحة لاستشعار حجم الضغوط التى يفرضها الاعتماد المتنامى على استيراد الغذاء.
بهذا الفكر، وبهذه الروح أعتقد أننا يمكن أن نصل إلى مستوى من الإنتاج يحقق هدف الاكتفاء الذاتى من القمح، وإلا فإن الساحة ستكون مطروحة لفكر المؤامرة والذى أشار إلى ملمح منه الدكتور وسيم السيسى فى حديث تليفزيونى، حين أشار -والكلام على عهدته- إلى أن تجربة كاملة لتحقيق هدف الاكتفاء الذاتى من القمح تم وقفها بناء على تعليمات من وزير الزراعة الأسبق يوسف والى.. وهو طرح نفضل أن نعتبر أنه أمر من زمان مضى وولى!
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الاكتفاء الذاتى من القمح تأملات إلى أن
إقرأ أيضاً:
الشيخ ياسر السيد مدين يكتب: في حديث جبريل (2)
حقاً إنه حدَثٌ غريبٌ رُوِى لنا فى حديث شريف مشهور، إنه ذلك الحديث الذى ذكر لنا فيه سيدنا عمر بن الخطاب حضورَ سيدنا جبريل عليه مجلسَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم فى صورة رجل شهده الحاضرون وسمعوا حديثه ووَعَوه.
لقد حضر سيدنا جبريل فى صورة رجل غريب لا يعرفه أحد من الحاضرين، فلا بد إذن من أن يكون آتياً من سفر، ولكنه لم يُر عليه شىءٌ من آثارِ السفر من الغبار والعرق، فثيابه بيضاء شديدة البياض، وشعره أسود شديد السواد، ومظهره نظيف.
ثم سلم واستأذن فى الاقتراب من سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وجلس فى صورة تزيد من لفت انتباه الجالسين، فقد جاء فى رواية أخرى للحديث: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بينَ ظَهْرانَى أصحابه [أى: بينَهم]، فيجىءُ الغريب فلا يَدرى أيُّهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم [أى: استأذناه] أن نجعلَ له مجلساً يعرفُهُ الغريب إذا أتاه، فبَنيْنَا له دُكَّاناً مِن طين [أى: دَكَّةً يقعد عليها] كان يجلس عليه، وإنا لجلوس ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى مجلسِه إذ أقبل رجلٌ أحسنُ الناس وجهاً، وأطيب الناس ريحاً، كأنَّ ثيابه لم يمسّها دنَس، حتى سلَّمَ فى طرَفِ البساطِ فقال: السلام عليك يا محمدُ، فردَّ عليه السلام، قال: أَدنُو يا محمد؟ قال: «ادنُ». فما زال يقول: أدنو؟ مِراراً، ويقول له: «ادنُ»، حتى وضع يده على ركبتى رسول الله صلى الله عليه وسلم» [النَّسائى].
ثم دار الحوار فى صورة سؤال وجواب؛ سؤال من الرجل الغريب، وجواب من سيدِ الخلق صلى الله عليه وسلم، وهذه الصورة من الحوار كافيةٌ لجذب انتباه الجالسين، وكيف إذا عرفنا أن هذا الأمر جاء وفْقَ ما يُحبُّه الصحابة الكرام رضى الله عنه، فقد كانوا يتحرجون من الإثقال على سيدِنا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بكثرة السؤال، ويُعجبُهم أن يأتى الرجل العاقل من أهل البادية يسأل وهم يسمعون، فكان مجىء سيدنا جبريل بهذه الصفة أيضاً يُلبى هذه الحاجة فى نفوسهم.
أمورٌ ملفتة جاذبة؛ رجلٌ غريب، حسَنُ الوجه، طيّبُ الريح، نظيفُ الثياب، لا تبدو عليه آثار السفر، يسلّم على سيدنا رسول الله، ويستئذنُه فى الاقتراب منه مِراراً، وهيئة جلوسه، ووضعه يديه، طريقة الحوار، رده على أجوبةِ سيدِنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتصديق؛ إنها أمور يؤازر بعضُها بعضاً على جذب انتباه كل واحد من الجالسين، وهذا يدل على أن ما سيقال من الأهمية بمكانٍ عظيم.