لندن- في الوقت الذي يبدو فيه الفرنسيون أكثر تحررا وهم يعيدون صياغة عقيدتهم للردع النووي بعد أن أطلق الرئيس إيمانويل ماكرون دعوات إلى شركائه الأوروبيين لفتح حوار بشأن توفير بلاده مظلة ردع نووي بديلة للأميركيين يواجه البريطانيون خيارات صعبة، ففك ارتباط جهاز الردع النووي البريطاني بالترسانة العسكرية الأميركية بهدف الانخراط في حلف ردع نووي أوروبي يبدو مهمة أكثر تعقيدا.

ونجح رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في كسب ود الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن قبل أيام والحفاظ على ما توصف بـ"العلاقة الخاصة" التي تجمع بلاده والولايات المتحدة.

لكن تلويح ترامب بإنهاء الحماية العسكرية التي توفرها واشنطن لحلف شمال الأطلسي (ناتو) واستعجاله إنهاء الحرب في أوكرانيا دون توفير ضمانات أمنية يطالب بها الأوروبيون يرفعان منسوب القلق في الأوساط السياسية والعسكرية البريطانية من انعكاس هذا التوجه الأميركي على فاعلية جهاز الردع النووي الأطلسي، وعلى الثقة بقدرة الشركاء في الحلف في الرد المنسق على أي تهديد نووي محتمل.

نظام "ترايدنت"

ومع خروج لندن من الاتحاد الأوروبي أعلنت الحكومات البريطانية عزمهما على صياغة إستراتيجية لردع نووي متمايز عن بقية جيرانها الأوروبيين، ومواصلة رفع إنفاقها العسكري ليصبح الأعلى في أوروبا.

إعلان

لكن، يقف البريطانيون الآن حائرين بين التفاعل بحماسة مع دعوات الرئيس الفرنسي إلى تأسيس جبهة دفاع أوروبي تمتد لإستراتيجية مشتركة فيما يخص الردع النووي، وبين الحفاظ على شراكة عسكرية وطيدة مع واشنطن والتي لا تتحمل لندن عبء الاستقلال عنها.

ويمثل نظام الردع "ترايدنت" عنوان شراكة تاريخية بين بريطانيا والولايات المتحدة بدأت مع توقيع البلدين اتفاقية الدفاع المشترك عام 1958، ويتألف من:

4 غواصات نووية من طراز "فانغارد". نحو 260 رأسا نوويا جاهزا للإطلاق من على متن تلك الغواصات.

وحصلت لندن على هذا النظام عام 1982 في عهد حكومة رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر، ليعوض نظام "بولاريس" الذي كانت تعتمد عليه منذ ستينيات القرن الماضي.

وتقول البحرية الملكية البريطانية إنه منذ عام 1969 تؤمّن على الأقل غواصة نووية دوريات مراقبة دائمة سرية يصعب اكتشافها على مقربة من السواحل البريطانية بهدف تحقيق الردع النووي، في حين توضع غواصاتان إضافيتان على أهبة الاستعداد للرد على أي هجوم محتمل.

وفي حين اختارت باريس أن تحافظ على استقلالية ترسانتها النووية التي تقدر بـ290 رأسا نوويا فوضت لندن -إلى جانب واشنطن- خدمات جهاز الردع النووي لتتسع لحماية باقي أعضاء الناتو.

كما تنخرط بريطانيا إضافة إلى كل من أستراليا والولايات المتحدة في ما يعرف بحلف "أوكوس"، وهو اتفاق أُبرم عام 2021 لتزويد كانبيرا بغواصات تعمل بالطاقة النووية، ويتم تصميمها بشراكة مع لندن وواشنطن لتحقيق قوة الردع في المحيطين الهندي والهادي في مواجهة النفوذ الصيني المتزايد بالمنطقة.

ويملك رئيس الوزراء البريطاني وحده الحق في إصدار الأوامر بالضغط على الزر النووي الذي هو في الواقع زناد على هيئة مسدس محفوظ داخل إحدى الغواصات النووية ومرفق بتعليمات بشأن ما يجب القيام به في حال باغت هجوم بالأسلحة النووية بريطانيا أو أحد حلفائها.

إعلان سيادة سياسية

بدوره، يرى نايك وايثني الخبير البريطاني في السياسات الدفاعية الأوروبية الرئيس السابق لوكالة الدفاع الأوروبية في بروكسل أن لندن تمتلك السيادة السياسية الكاملة على قوتها النووية والمستقلة نظريا في اتخاذ أي قرار بشأن طرق استعمالها، ويستطيع رئيس الوزراء منفردا الأمر بشن هجوم نووي دون الحاجة لموافقة أميركية.

لكن اعتماد لندن لوجستيا على نظام "ترايدنت" واضطرارها إلى استقدام الرؤوس النووية من مخازن الأسلحة النووية الموجودة في خليج كينغز بولاية جورجيا الأميركية، وحاجتها للتكنولوجيا والتقنيات العسكرية الأميركية لاستبدال وصيانة هذه الأسلحة بشكل دوري يجعل أي خلاف أميركي بريطاني بشأن الإستراتيجية النووية يضر بجهاز الردع النووي البريطاني ويضع مستقبله على المحك، يقول وايثني للجزيرة نت.

ويؤكد أنه على البريطانيين التفكير بجدية في حلول سريعة لانتزاع استقلالية أكبر لبرنامجهم النووي عن واشنطن، معتبرا أن اللحظة السياسية الحالية موائمة لإنضاج هذا المشروع بشراكة مع الأوروبيين والفرنسيين تحديدا، وتجاوز العقبات التقنية واللوجستية التي قد تحول دون ذلك، باعتبارها مخاوف أنتجتها سنوات التبعية الطويلة لحماية المظلة النووية الأميركية.

لكن قدرة منظومة الدفاع البريطانية لتحقيق الردع وسد الفراغ الذي قد يخلفه أي انسحاب أميركي محل تساؤل، إذ تواترت خلال السنوات الماضية حوادث أعطاب فيها بعد فشل إحدى الغواصات النووية في إطلاق صاروخ باليستي تجريبي عام 2016 وتكرار الحادث نفسه خلال تدريبات عسكرية مشتركة مع واشنطن العام الماضي.

وتضع حاجة الترسانة النووية لإصلاحات وتأهيل مستمر لندن أمام أعباء اقتصادية إضافية يفرضها رفع إنفاقها العسكري، وتطرح التساؤل بشأن قدرتها على تحمل تكلفة الاستقلال عن الدعم الأميركي لتشغيل ترسانتها بكفاءة وفاعلية.

إعلان

وكان ستارمر قد أعلن قبل أيام ضخ 6 ملايين جنيه إسترليني (الجنيه الإسترليني يعادل 1.29 دولار) إضافية في ميزانية الدفاع لتعزيز قدرات بلاده العسكرية على مواجهة التحولات الجيوسياسية التي تعيش على وقعها القارة الأوروبية، ليرفع معدل الإنفاق على هذا القطاع إلى 2.5% قبل نهاية عام 2027، في تحرك وصفه منتقدون بأنه استجابة واضحة لضغوط ترامب بتحمل أعباء الحماية العسكرية.

وتستأثر تكلفة صيانة نظام "ترايدنت" بنحو 6% من ميزانية الدفاع السنوية، بما قيمته 3 ملايين جنيه إسترليني عام 2023.

إعادة تأهيل

وحسب صحيفة تلغراف البريطانية، أعلنت وزارة الدفاع عن ارتفاع تكلفة إعادة تأهيل وتصنيع جيل جديد من غواصات "فانغارد" الحاملة للرؤوس النووية إلى نحو 36 مليون جنيه إسترليني خلال العام الحالي، بزيادة بـ5 ملايين جنيه إسترليني عن تقديرات سابقة لتكلفة هذا البرنامج عام 2020 عزتها الوزارة إلى نسب التضخم الاقتصادي المرتفعة التي تعصف بالاقتصاد البريطاني.

في المقابل، يرى رافائيل لوست الخبير في سياسات الأمن والدفاع الأطلسية بالمعهد الأوروبي للسياسات الخارجية في لندن أن على بريطانيا استكشاف مساحات ممكنة للتعاون العسكري النووي مع الشركاء الأوروبيين، عبر التوجه لإعادة تأهيل جهازها النووي ليعمل بكفاءة مع الترسانة النووية الفرنسية بدلا عن صرف المزيد من النفقات على جهاز ردع نووي لا يحقق لها الاستقلالية المطلوبة.

ويوضح لوست للجزيرة نت أن فك الارتباط مع واشنطن لا يمر إلا عبر استبدال نظام "ترايدنت" بآخر يتم تصنيعه بالاعتماد على البنية العسكرية الإنتاجية البريطانية، أو إعادة تصميم الجيل الجديد من الغواصات النووية لتتكيف مع الرؤوس النووية الفرنسية.

وبرأيه، يمكن لكل من لندن وباريس العمل معا من أجل تطوير الجيل المقبل من صواريخ كروز "إيه إس إم بي" التي تحمل رؤوسا نووية وتطلق من طائرات رافال الفرنسية، وهو مشروع فرنسي يُرتقب أن يخرج للعلن منتصف عام 2030 يمكن أن تلتحق به بريطانيا لتحقيق المزيد من التعاون الأوروبي- الأوروبي، في استقلالية عن واشنطن.

إعلان

ويضيف الخبير أن كلا منهما نجحتا طوال العقود الماضية -حتى خلال فترات الجفاء السياسي بينهما- في إرسال إشارات إلى الأعداء المحتملين أنهما قادرتان على مواجهة أي اعتداء نووي بقوة ردع مشتركة.

وأشار إلى أنه بعد "تآكل الثقة في الحليف الأميركي" خرجت المشاورات التي خيضت خلف الأبواب المغلقة إلى العلن بدعم ألماني أيضا، في محاولة لاستكشاف مدى إمكانية بناء إستراتيجية نووية مستقلة بديلة عن تلك التي وفرتها واشنطن للأوروبيين على مدى عقود.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات رمضان جنیه إسترلینی ردع نووی

إقرأ أيضاً:

عاجل:- الجيش الأميركي يخطط لخفض قواته في سوريا إلى النصف

بدأ الجيش الأميركي الاستعداد لدمج قواته المنتشرة في سوريا خلال الأسابيع والأشهر القادمة، في خطوة قد تؤدي إلى خفض عدد الجنود الأميركيين بنسبة تصل إلى 50%، وفق ما أكده مسؤولان أميركيان لوكالة "رويترز" الثلاثاء.

يتواجد نحو ألفي جندي أميركي حاليًا في سوريا، موزعين على عدد من القواعد العسكرية، أغلبها في المناطق الشمالية الشرقية، حيث تعمل هذه القوات بالتعاون مع قوات محلية لمنع إعادة تنظيم صفوف تنظيم الدولة الإسلامية، الذي كان قد سيطر على مساحات واسعة من العراق وسوريا في عام 2014، قبل أن يُهزم لاحقًا.

مسؤول أممي: الحرب في سوريا اندلعت بقرار من أوباما "بعد لقاءها رئيس الوزراء" وزارة الاتصالات تسلم الطالبة سوريا ابنة أسيوط لاب توب وتقدم لها منحة تدريبية لتحقيق حلمها في دراسة البرمجة خطة تخفيض القوات لا تزال قيد المراجعة

صرّح أحد المسؤولين، مشترطًا عدم الكشف هويته، بأن عملية الدمج المرتقبة يمكن أن تُقلص عدد الجنود في سوريا إلى نحو ألف فقط، دون أن يحدد جدولًا زمنيًا دقيقًا لتنفيذ هذه الخطة.

وأشار مسؤول آخر إلى وجود نية واضحة لدى الإدارة الأميركية لتقليص الوجود العسكري، لكنه أبدى شكوكًا بشأن إمكانية تنفيذ تقليص بهذا الحجم، في وقت لا تزال فيه واشنطن تتفاوض مع طهران وتواصل حشد قواتها في مناطق متفرقة من الشرق الأوسط.

وأكدت مصادر في وزارة الدفاع الأميركية أن أي تخفيض محتمل يأتي في إطار مراجعة شاملة يجريها وزير الدفاع بيت هيغسيث للقوات الأميركية المنتشرة حول العالم.

 الجيش الأميركي يخطط لخفض قواته في سوريا إلى النصفحشود عسكرية أميركية في الشرق الأوسط

تزامن الحديث عن تقليص القوات في سوريا مع قيام الولايات المتحدة بإرسال تعزيزات عسكرية كبيرة إلى منطقة الشرق الأوسط، شملت قاذفات من طراز "بي-2"، وسفنًا حربية، ومنظومات دفاع جوي، وهو ما يعكس استمرار التوترات الإقليمية وخاصة في ظل تصاعد التهديدات الإيرانية.

مخاوف إسرائيلية من انسحاب أميركي

ذكرت هيئة البث الإسرائيلية في وقت سابق من هذا العام أن مسؤولين بارزين في البيت الأبيض نقلوا إلى نظرائهم في الحكومة الإسرائيلية نية إدارة ترامب سحب جزء من القوات الأميركية الموجودة في سوريا، وهو ما أثار قلقًا بالغًا لدى تل أبيب.

ورأت الهيئة أن أي انسحاب أميركي سيؤثر بشكل مباشر على أمن إسرائيل، خاصة في ظل التهديدات المتزايدة من إيران ووكلائها في المنطقة، بالإضافة إلى تداعياته السلبية المحتملة على الوحدات الكردية الحليفة لواشنطن في سوريا.

تضارب الأرقام حول أعداد القوات الأميركية

كانت الولايات المتحدة قد أعلنت خلال السنوات الأخيرة أن عدد قواتها في سوريا لا يتجاوز 900 جندي، إلا أن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) اعترفت في ديسمبر الماضي بأن العدد الفعلي يبلغ نحو ألفي جندي، يتمركز معظمهم شرق سوريا، حيث يعملون بالتعاون مع القوات الكردية المحلية.

وأشارت صحيفة "واشنطن بوست" إلى أن الوجود الأميركي يهدف في الأساس إلى منع عودة تنظيم الدولة الإسلامية، والحد من التمدد الإيراني في سوريا، إلا أن هذا الوجود بات محل جدل، لا سيما بعد إعلان الحكومة السورية الجديدة رغبتها الصريحة في مغادرة جميع القوات الأجنبية أراضي البلاد.

تاريخ متكرر لمحاولات الانسحاب

جدير بالذكر أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب سبق وأن حاول سحب جميع القوات الأميركية من سوريا في عام 2018، إلا أن هذه المحاولة قوبلت بمعارضة شديدة داخل الإدارة الأميركية، ما دفع وزير الدفاع حينها، جيم ماتيس، إلى تقديم استقالته احتجاجًا على القرار.

تثير الخطط الأميركية الحالية مخاوف متجددة لدى حلفائها الإقليميين، وتعيد إلى الواجهة الجدل حول مدى التزام واشنطن بتواجدها العسكري في مناطق النزاع، خاصة في ظل التغييرات المتسارعة في السياسة الخارجية الأميركية.

مقالات مشابهة

  • بريطانيا ترفض اصدار مذكرة اعتقال لوزير خارجية العدو الصهيوني الذي يزور لندن
  • ما المناطق التي استهدفها القصف الأميركي العنيف في صنعاء؟
  • خطة إسرائيلية لـ«ضرب نووي إيران».. الرئيس الأمريكي يعطّلها ويختار الدبلوماسية
  • غير معلنة .. وزير خارجية الاحتلال يزور بريطانيا
  • بريطانيا تتجاوز الحكومة السودانية.. (مؤتمر لندن).. صفر كبير!!
  • عاجل:- الجيش الأميركي يخطط لخفض قواته في سوريا إلى النصف
  • رويترز: هل تستطيع أميركا وإسرائيل القضاء على برنامج إيران النووي؟
  • إيران والولايات المتحدة: تحت ظلال الردع وإعادة تشكيل النظام الدولي
  • خامنئي: لا تفاؤل مفرط ولا تشاؤم بشأن المحادثات النووية مع واشنطن
  • فشل مكلف ومذل.. واشنطن تخسر 5 مليارات دولار في مغامرتها باليمن