الكتاب: الفكرة الروسية ورؤيا دوستويفسكي للعالم
الكاتب: نيقولاي بِرْدياف، ترجمة شاهر أحمد تصر ومالك صقور
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، الطلعة الأولى 2025.
عدد الصفحات: 511 من القطع الكبير.

ولادة الإنتيليجنتسيا الروسية

تعد الإنتيليجنتسيا ظاهرة روسية ذات سمات روسية مميزة، لكنها ظلت تشعر بأنها تفتقد إلى الأرضية الاجتماعية.

وفقدان تلك الأرضية يمكن أن يكون سمة وطنية روسية. من الخطأ الاعتقاد بأن الولاء لمبادئ الأرضية المحافظة هو الموقف الوطني الوحيد، فالثورية، أيضاً يمكن أن تكون وطنية.

لقد شعرت الإنتيليجنتسيا بالتحرّر من ثقل ضغط التاريخ، الذي تمردت عليه. أظهرت الإنتيليجنتسيا الروسية مقدرتها الاستثنائية في الشغف والحماسة الفكرية. لقد تحمّس الروس إلى هيغل وشيلينغ، وسان سيمون، وفورييه، وفویرباخ، وماركس، تحمساً قل نظيره في أوطان هؤلاء أنفسهم.

إن الروس ليسوا ريبيين (متشككين)، بل عَقَدِيِّينَ، تأسرهم الدوغما (العقيدة)، ويغلب عليهم الطابع الديني، وهم لا يفهمون النسبية جيداً. فالداروينية، التي عرفت في الغرب كفرضية بيولوجية، تمتلك طابعاً عقدِياً في صفوف الإنتيليجنتسيا الروسية، كأنها مسألة خلاص وسبيل إلى الحياة الأبدية، كما تحولت المادية إلى عقيدة دينية، واتهم خصومها في عصر معروف جيداً أنهم أعداء تحرير الشعب.

كل شيء في روسيا يصنف إما في فئة الأرثوذكسية أو الهرطقة (البدع). فالشغف بهيغل اتخذ طابع الولع الديني، وعوّل على الفلسفة الهيغلية أن تقرر مصير الكنيسة الأرثوذكسية. وآمنوا بفلانستير (المدينة الفاضلة) فورييه كوحي لسيادة ملكوت الرب.

إن الروس ليسوا ريبيين (متشككين)، بل عَقَدِيِّينَ، تأسرهم الدوغما (العقيدة)، ويغلب عليهم الطابع الديني، وهم لا يفهمون النسبية جيداً. فالداروينية، التي عرفت في الغرب كفرضية بيولوجية، تمتلك طابعاً عقدِياً في صفوف الإنتيليجنتسيا الروسية، كأنها مسألة خلاص وسبيل إلى الحياة الأبدية، كما تحولت المادية إلى عقيدة دينية، واتهم خصومها في عصر معروف جيداً أنهم أعداء تحرير الشعب.لقد اعتاد الشبان استعمال مصطلحات فلسفة شيلنغ الطبيعية حين يعترفون بالحب. وينطبق الأمر نفسه على الولع بهيغل وبوخنر. لقد اهتم دوستويفسكي كثيراً بمصير المثقف الروسي، الذي يسميه جواب (جوال) المرحلة البطرسبورغية في التاريخ الروسي، وأنه سيكشف عن الأسس الروحية لهذا التجوال.

إن سمات الإنتيليجنسيا المميزة هي: الانشقاق، والتمرد، والتجول، واستحالة المصالحة مع الحاضر، والطموح إلى المستقبل، من أجل حياة أفضل وأكثر عدالة. كما أن شعور تشاتسكي بالوحدة، وفقدان أونيغن وبيتشورين) لتربتهم الاجتماعية هي ظواهر تنبئ بظهور الإنتيليجنتسيا.

يقول الكاتب نيقولاي ألكسندروفيتش بِرديائف: "تنحدر الإنتيليجنسيا من شرائح اجتماعية مختلفة، جاء أغلبها في البداية من النبلاء، ثم أضحت من الروزناتشينيتس، إذ تجد المثقف تارة شخص هامشي، ثم تجده ثورياً ـ تلك هي اللحظات المختلفة لوجود الإنتيليجنتسيا. امتلكنا في ثلاثينيات القرن الماضي، فرصة للخروج من الحاضر، الذي لا يطاق. ترافق ذلك مع يقظة الفكر. وما يدعوه و. فلوروفسكي خطأ بأنه خروج من التاريخ: "التعليم (التنوير)"، والطوباوية، والنهلية (العدمية)، والثورية ـ هي أيضاً فعل تاريخي. التاريخ ليس مجرد عادات وتقاليد، وليس فقط الأمن والحماية(37)..

إن فقدان الأسس له تربته الخاصة، والثورية هي حركة (قاطرة) التاريخ؛ فحينما تشكلت لدينا الإنتيليجنسيا اليسارية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في صيغتها النهائية، اكتسبت طابعاً شبيهاً بالطراز الرهباني. هنا تجلى الأساس الأرثوذكسي العميق للروح الروسية بمغادرتها العالم الغارق في الشر، وبزهدها، ومقدرتها على التضحية وتحمّل الآلام والشهادة. لقد حمت نفسها بالتعصب والتميز الحاد عن بقية العالم. إنها وريثة الانشقاق نفسياً. وبفضل ذلك استطاعت أن تعيش في أثناء الملاحقات. لقد عاشت طوال القرن التاسع عشر في صراع حاد مع الإمبراطورية، وسلطة الدولة. كانت الإنتيليجنسيا هي المحقة في ذلك الصراع، في تلك اللحظة الديالكتيكية في مصير روسيا، لقد تمخضت عن الفكرة الروسية، التي خانتها الإمبراطورية، في توقها للسلطة والعنف.

راديشف هو مؤسس الإنتيليجنسيا الروسية، الذي أبدع وحدد سماتها الرئيسة؛ فحينما كتب في كتابه "رحلة من سانت بطرسبرغ إلى موسكو" قائلاً: "نظرت حولي، فأدمت معاناة البشرية روحي" ولدت الإنتيليجنسيا الروسية.

يقول الكاتب نيقولاي ألكسندروفيتش بِرديائف: "لقد تحدث دوستويفسكي عن الفتية الروس، الذين انشغلوا بمعالجة القضايا العويصة، وفي برلين اهتم تورغينيف بفلسفة هيغل، وعبر عن ذلك قائلاً: "في ذلك الوقت رحنا نبحث في الفلسفة عن حلول لكل شؤون العالم، باستثناء التفكير الخالص". سعى مثاليو الأربعينيات إلى تحقيق تناغم مشاعر الفرد الشخصية.

في الفكرة الروسية، يتفوق العنصر الأخلاقي على الميتافيزيقي، وهي تخفي وراءها ظمأ التوق لتغيير العالم.

فالاهتمام الاستثنائي، في سنوات الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، بفلسفة شيلينغ وهيغل لم يفض إلى تأسيس فلسفة روسية مستقلة. ينبغي أن نستثني عدداً من أفكار السلافويين الفلسفية، لكنهم ليسوا هم من وضعها. كانت الفلسفة مجرد طريق، أو إعادة خلق الروح وتغييرها، أو تغيير المجتمع. إذ عانى كل شيء الانقسام عن الإمبراطورية، وازدادت مسألة الموقف من "الواقع" تعقيداً وصعوبة سنتعرف هنا إلى الدور الذي لعبته فلسفة هيغل(ص75)..

لقد أسهمت الفلسفة المعروفة بالمثالية في الأربعينيات بدور كبير في تشكيل شخصية الإنسان الروسي الأديب المثقف. فقط في الستينيات استبدل الأنموذج "المثالي،" بالأنموذج "الواقعي". لكن ميزات "المثالي" لم تختف قط، حتى حينما بدأ الاهتمام ليس بشيلينغ، ولا بهيغل، بل بالمادية والوضعية. لا توجد حاجة إلى إعطاء كثير من الأهمية للأفكار المثبتة عن طريق الوعي.

يعد غرانوفسكي أكثر النماذج المثالية الإنسانية اكتمالاً. لقد كان شخصاً رائعاً، أثار الافتتان والتأثير الكبير كأستاذ، لكن فكره لم يكن أصلياً كما ينبغي. لقد ظهر الشقاق جلياً بين غرانوفسكي وغير تسن. تعذر على غرانوفسكي المثالي الانتقال من فلسفة هيغل إلى فلسفة فيورباخ، الذي مثل أهمية فائقة بالنسبة إلى غيرتين. أراد غرانوفسكي أن يظل مخلصاً للمثالية، وثمن الإيمان بخلود الروح، فهو معارض للاشتراكية، ويعتقد أنّ الاشتراكية معادية للشخصية الفردية، في حين اتجه غير تسن، وبيلينسكي إلى الاشتراكية والإلحاد. يمتلك كل من غير تسن، وبيلينسكي أهمية مركزية في المصير الروسي؛ إنهما ممثلا التيار اليساري في الغربوية، المفعم باستشراف المستقبل.

يعد بيلينسكي واحداً من أكثر الشخصيات المركزية في تاريخ الوعي الروسي في القرن التاسع عشر. إنه يختلف عن كتاب الثلاثينيات والأربعينيات الروس الآخرين بمنبته الاجتماعي، فهو لم يخرج من بيئة النبلاء، ولم يمتلك ميزات اللوردات التي امتاز بها الأنارخي (الفوضوي) باكونين. إنه أول مثقف أنموذجي بالمعنى الأضيق المنبثق من عامة الشعب، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حينما توقفت ثقافتنا أن تُعدّ ثقافة النبلاء وحدهم حصراً، لقد امتلك بيلينسكي مواهب عظيمة، وحساسية رائعة، واستيعاباً متميزاً، لكنه امتلك معرفة محدودة باللغات، إذ لم يكن يعرف اللغات الأجنبية، ولا اللغة الألمانية تقريباً. فتعلم فلسفة هيغل ليس عبر قراءة كتب هيغل نفسه، إنما عبر المقالات التي كتبها باكونين عن هيغل الذي قرأه باللغة الألمانية. لكن درجة استيعابه بلغت حداً غير عادي لدرجة أنه فهم مقاصد هيغل، واستوعب بمنهجية فيخته، وشيلينغ، وهيغل على التوالي، ثم انتقل إلى فويرباخ والإلحاد المكافح. وسعى بيلينسكي، كمفكر روسي أنموذجي، في جميع مراحل تطوره إلى امتلاك وجهة نظر أيديولوجية كونية عن العالم. لقد تساوى لديه كإنسان مرهف وحساس الإدراك والمعاناة. لقد عاش حصرياً من أجل البحث عن الأفكار، وعن الحقيقة، "دؤوباً، قلقاً ومتسرعاً"؛ فالتهب، مبكراً واحترق.

لقد وصف روسيا بأنها نسيج من جميع العناصر، وأراد هو نفسه أن يصبح نسيجاً من جميع العناصر، لكنه لم يحقق مرامه مباشرة، وظل يسقط باستمرار في مطب الحدود القصوى، إنما بمنهجية، وفي الوقت المناسب. يُعد بيلينسكي أهم ناقد روسي، والناقد الروسي الوحيد الذي امتلك حساسية فنية وشعوراً جمالياً. لكن النقد الأدبي لم يكن بالنسبة إليه سوى شكلاً من أشكال التعبير عن وجهة نظره الأيديولوجية الكونية عن العالم، والنضال في سبيل الحقيقة.

سيصبح الاتجاه اليساري الاشتراكي الغربوي أكثر روسية، وسيتجذر تجذراً أصيلاً في فهم مسارات روسيا أعمق من اتجاه الغربوية الليبرالي الأكثر اعتدالاً، الذي سيصبح عديم اللون أكثر فأكثر. وسيكتشف اتجاه الاشتراكية الشعبوية المنبثق عن الجناح اليساري في اتجاه الغربوية، المسألة الروسية وخصوصية الطرق الروسية، واستبدالها بالطرق الغربية للتطور الصناعي الرأسمالية. سيصبح غيرتين أحد مصادر الاشتراكية الروسية الشعبوية.يقول الكاتب نيقولاي ألكسندروفيتش بِرديائف: "في تلك المرحلة، عُرف الأنارخي (الفوضوي) باكونين بشغفه بالفكرة الهيغلية "الواقعية" العقلانية، وجذب بيلينسكي إلى الشغف بهذه الفكرة. وسنرى أن هيغل لم يكن مفهوماً على نحو صحيح، وأن ذلك الشغف بني على فهم قاصر. فقط في المرحلة الأخيرة، في أواخر حياته، بنى بيلينسكي وجهة نظرأيديولوجية إلى العالم محددة تماماً، وأصبح ممثلاً للحركات الاشتراكية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. إنّه سلف تشير نيشيفسكي المباشر، بل الماركسية الروسية في نهاية المطاف، وهو أقل ميلاً إلى الشعبوية من غير تسن. حتى أنه نادی بالتطور الصناعي. نجد لدى بيلينسكي، عند تطرقه إلى القضايا الاجتماعية، تقييداً للوعي فعلاً، واستبعاده لكثير من القيم، التي أثارت إعجاب الإنتيليجنتسيا الثورية في الستينيات والسبعينيات بدرجة فظيعة. لقد مثل الروسي الحقيقي في انتفاضته ضد روح هيغل المطلقة باسم الإنسان الواقعي المحدد(78).

كما نكتشف الموضوع الروسي نفسه لدى غيرتسن. لقد أثر إعدام الديكابريين تأثيراً قوياً في صياغة وجهات نظره. يمتلك غيرتسن أهمية كبيرة في موضوع التأريخ الروسي؛ وهو إن لم يكن أعمق، فهو الأكثر روعة بين أناس الأربعينيات. إنه الممثل الأول للمهاجرين الثوريين. لقد عاش الغربوي (نصير الغرب الروسي هذا خيبة أمل عميقة في أوروبا الغربية. لم يعد ممكناً، أن يبقى تيار الغربوية على النحو الذي وجد فيه في الأربعينيات بعد تجربة غيرتسن؛ إذ سيناصر الماركسيون الروس الغربوية بمعنى مختلف، وستكتشف في ماركسية الشيوعيين بعض سمات المسيانية الروسية. وسيتلاقى تيار الغربوية مع السلافوية في شخص غيرتين، وسيحدث الأمر نفسه مع فوضوية (فوضوية) باكونين السياسية.

عموماً، سيصبح الاتجاه اليساري الاشتراكي الغربوي أكثر روسية، وسيتجذر تجذراً أصيلاً في فهم مسارات روسيا أعمق من اتجاه الغربوية الليبرالي الأكثر اعتدالاً، الذي سيصبح عديم اللون أكثر فأكثر. وسيكتشف اتجاه الاشتراكية الشعبوية المنبثق عن الجناح اليساري في اتجاه الغربوية، المسألة الروسية وخصوصية الطرق الروسية، واستبدالها بالطرق الغربية للتطور الصناعي الرأسمالية. سيصبح غيرتين أحد مصادر الاشتراكية الروسية الشعبوية.

لقد طور غيرتسن وتيار الاشتراكية الشعبوية فكرة تشادايف القائلة إن الشعب الروسي، الأكثر تحرّراً من ضغط عبء التاريخ العالمي، يمكن في المستقبل أن يخلق عالماً جديداً. إن غيرتسن هو أول من أعلن الانتفاضة الروسية ضد النزعات البرجوازية الصغيرة في الغرب، ورأى خطر تلك النزعات في الاشتراكية الغربية نفسها. إنما هذه لم تكن فكرة الاشتراكية الشعبوية وحدها، إذ امتلكت هذه الفكرة عمقاً كبيراً، لم تسبر أغواره فلسفة غيرتسن السطحية نفسه، لقد كانت فكرة روسية مرتبطة بالمسيانية الروسية.

لقد سار غيرتين عبر فلسفة هيغل مثله مثل جميع مثقفي الأربعينيات، وهو واحد من أوائل الذين وصلوا إلى فيورباخ، وتوقف عنده. هذا يعني أنه كان قريباً من الفلسفة المادية، وإن لم يكن عميقاً، وملحداً، إنما بدلاً من ذلك، سنصفه بأنه إنساني ـ شكاك. لم يكن بطبعه مؤمناً، متحمساً، مثل بيلينسكي، إذ لم يعد المادية والإلحاد ديناً.

إن اشتراكية غيرتسن اشتراكية شعبوية فضلاً عن أنها فردية، فهو لم يميز بعد بين الفردية والشخصية "لقد ذابت شجاعة الفرسان، وأناقة العادات الأرستقراطية، والتراتبية البروتستانتية الصارمة، واستقلالية البريطاني المتعجرفة وحياة الفنانين الإيطاليين الفاخرة، والذهن الموسوعي المتلألئ، وطاقة الإرهابيين القائمة، وانصهر كل ذلك ليولد مجموعة أخرى من العادات البرجوازية الصغيرة ضيقة الأفق المهيمنة." "وكما كان الفارس هو الأنموذج الأولي للعالم الإقطاعي، فإن التاجر أصبح هو الأنموذج الأولي للعالم الجديد؛ فاستبدل الملاك بالسيد". "لقد تغير كل شيء في أوروبا بسبب تأثير البرجوازية الصغيرة؛ إذ استبدل شرف الفروسية بأمانة المحاسبة، والعادات الإنسانية بعادات الموظفين التراتبية الهرمية واللطافة بالصرامة، والفخر بالاستياء والحدائق بالجنائن المسورة، والقصور بالفنادق المفتوحة للجميع (أي للجميع الذين يمتلكون المال).

إقرأ أيضا: الروح الروسية بين الشرق والغرب.. كتاب يرصد تطور الفكر الروسي ومصيره

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب السورية كتاب سورية عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القرن التاسع عشر فی الغرب من القرن لم یکن

إقرأ أيضاً:

د.محمد عسكر يكتب: أزمة “تيك توك”.. تهديدات للأمن القومي أم صراع جيوسياسي؟

في عصر أصبحت فيه التكنولوجيا مسرحاً رئيسياً للصراعات الدولية، تحولت منصة "تيك توك" الشهيرة إلى نقطة إشتعال جديدة في التوتر المستمر والمزمن بين الولايات المتحدة والصين.

 التطبيق الذي بدأ كوسيلة ترفيهية لمشاركة مقاطع الفيديو القصيرة، أصبح اليوم محور نقاش سياسي، أمني، وإقتصادي بين أكبر قوتين في العالم. يُعد تطبيق "تيك توك" أحد أبرز منصات التواصل الإجتماعي عالمياً، إلا أن ملكيته الصينية تسببت في توترات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، حيث تتهم واشنطن التطبيق بتهديد أمنها القومي بسبب جمعه لبيانات المستخدمين ، بينما تعتبر بكين ذلك إستهدافًا سياسياً.

الولايات المتحدة  الأمريكية، ومنذ سنوات، تنظر بعين الشك إلى تطبيق "تيك توك"، بإعتباره منصة مملوكة لشركة "بايت دانس" الصينية، وتخشى من أن تستخدمه الحكومة الصينية كوسيلة لجمع بيانات عن المواطنين الأمريكيين، أو التأثير على الرأي العام، خصوصًا بين فئة الشباب. بينما على الجانب الأخر، تعتبر الحكومة الصينية الضغوط الأمريكية على تطبيق "تيك توك" بمثابة "قمع" للشركات الأجنبية، واصفةً ذلك بـ "التلاعب السياسي"، وأشارت إلى أن الولايات المتحدة تستغل مفهوم الأمن القومي كذريعة لمهاجمة شركات التكنولوجيا الصينية دون تقديم أدلة ملموسة.

المخاوف الأمريكية تصاعدت بشكل حاد خلال عام 2024، حين أقر مجلس النواب الأمريكي مشروع قانون يُمهل "بايت دانس" ستة أشهر لبيع التطبيق لشركة أمريكية أو مواجهة الحظر الكامل داخل البلاد. الدعم لهذا القانون جاء من الحزبين الجمهورى والديمقراطى معاً، وهو ما يعكس إجماعاً نادراً في السياسة الأمريكية بشأن التهديدات القادمة من الصين.

الصين، بدورها، لم تقف مكتوفة الأيدي. فقد وصفت الإجراء الأمريكي بأنه "إبتزاز سياسي" و"تضييق على التكنولوجيا الصينية تحت ذرائع واهية"، كما حذّرت وزارة الخارجية الصينية من أن هذا النوع من التصعيد قد يضر بثقة الشركات الأجنبية في بيئة الأعمال الأمريكية، ومن غير المستبعد أن ترد الصين بإجراءات مقابلة، سواء ضد شركات تكنولوجية أمريكية تنشط داخل أراضيها، أو عبر تعزيز دعمها للتطبيقات المحلية وتوسيع نفوذها الرقمي في الأسواق الناشئة.


القضية لا تتعلق فقط ببيانات المستخدمين أو مخاطر الإختراق السيبراني، بل ترتبط بصراع أعمق حول من يضع قواعد اللعبة في العالم الرقمي؟ ومن يسيطر على سلوك الجيل الجديد عبر المنصات الإلكترونية؟ الولايات المتحدة ترى أن بسط الصين سيطرتها على منصات رقمية عالمية قد يمنحها قوة ناعمة غير مسبوقة. أما الصين، فترى أن الإجراءات الأمريكية تمثل إستهدافاً غير مبرر لشركاتها وأن ما يحدث هو محاولة أمريكية واضحة لعرقلة صعودها التكنولوجي لفرض الهيمنة الأمريكية الرقمية على العالم تماماً كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية سابقاً وفرضت ولا تزال تفرض هيمنتها على مجمل الإقتصاد العالمى.

المستقبل القريب قد يحمل سيناريوهات عدة. في حال فُرض الحظر على "تيك توك"، قد نرى تحركات قانونية من الشركة أو حتى إحتجاجات من المستخدمين الأمريكيين الذين يتجاوز عددهم 150 مليون مستخدم. أما في حال تم بيع التطبيق لشركة أمريكية، فستبقى التساؤلات قائمة حول حُرية السوق وإستقلالية الشركات في زمن تتداخل فيه التكنولوجيا مع السيادة، حيث تتداخل قضايا الأمن القومي مع التنافس الجيوسياسي.

على الرغم من أهمية حماية البيانات الشخصية وخصوصية المستخدمين، إلا أن التوتر بين الولايات المتحدة والصين يعكس أكثر من مجرد مخاوف أمنية. إنه صراع على القوة الرقمية، حيث تسعى كل دولة لإرساء معاييرها الخاصة بها في عالم الإنترنت. وإذا إستمر الوضع على هذا المنوال، فقد نشهد تحول الإنترنت من شبكة عالمية مفتوحة إلى "شبكات محلية" تتنافس على المستوى العالمي، مما قد يغير قواعد اللعبة الإقتصادية والإجتماعية في المستقبل.


التكنولوجيا يجب أن تكون وسيلة لتعزيز التعاون الدولي، لا أن تكون أداة لتقسيم العالم إلى معسكرات متناحرة. ومع ذلك، فإن سياسة "المنع" أو "التفكيك" ليست دائمًا هي الحل الأفضل، فقد يؤدي ذلك إلى تفاقم الأمور بدلاً من معالجتها. قد يكون الحوار الدولي والتنظيم المشترك هو الطريق الأمثل لتجنب التصعيد وضمان إستدامة الإستخدام العادل والأمن للتكنولوجيا في عالمنا المتشابك.

"تيك توك" لم يعد مجرد تطبيق، بل إنه أصبح رمزاً لصراع عالمي تدور رحاه في السحاب، لكنه يُترجم على أرض الواقع في قاعات المحاكم، وغرف التشريع، وبين أيدي ملايين المستخدمين حول العالم. إنه تذكير بأن التكنولوجيا رغم بساطتها الظاهرة، فإنها قد تحمل في طياتها أعقد القضايا الجيوسياسية لعصرنا الرقمي. في رأيي، أزمة "تيك توك" هي مجرد حلقة في سلسلة أكبر من الصراعات الجيوسياسية التي تتخذ من التكنولوجيا ساحة لها. من الواضح أن البرامج والتطبيقات التكنولوجية لم تعد مجرد أدوات تُستخدم لتسهيل الحياة اليومية، بل إنها أصبحت محركاً رئيسياً للنفوذ الدولي، وتُستخدم لتحقيق أهداف سياسية وإستراتيجية.

ومن خلال التحليل الحالي للمواقف من الجانبين، يبدو أن أزمة "تيك توك" بين الولايات المتحدة والصين قد تنتهي بعدة سيناريوهات، وكل واحد منها يحمل تداعياته الخاصة. لكن بناءً على المعطيات والإتجاهات الحالية، يمكنني تصور ثلاث إحتمالات رئيسية:
 

الإحتمال الأول:- صفقة مع شركة أمريكية


قد تجد "بايت دانس" نفسها مجبرة على بيع "تيك توك" لشركة أمريكية كبيرة، مثل "مايكروسوفت" أو "أمازون" أو "أوراكل"، كما طُرح في بعض التسريبات. هذا السيناريو سيتيح للتطبيق البقاء في الولايات المتحدة مع ضمان تخفيف القلق الأمريكي بشأن الأمن القومى وخصوصية بيانات المستخدمين. وفي المقابل، سيمنح "بايت دانس" القدرة على الإحتفاظ بحصة من السوق العالمية بدون التورط في التوترات السياسية مع واشنطن. إلا أن هذا السيناريو قد يفتح الباب لمزيد من الرقابة الأمريكية على التطبيقات الصينية في المستقبل، مما يهدد نمو شركات التكنولوجية الصينية في الأسواق الغربية.


الإحتمال الثانى:- الحظر الكامل


هناك إحتمال كبير أن تستمر الضغوط الأمريكية على "تيك توك" حتى يتم فرض حظر شامل على التطبيق في الولايات المتحدة. هذا قد يتسبب في خسائر كبيرة لشركة "بايت دانس" في السوق الأمريكي، مما سيؤدي إلى تأثر أرباحها بشكل كبير. من جانب آخر، سيكون لذلك تأثير مدمر على مستخدمي التطبيق في أمريكا، الذين يشكلون جزءاً كبيراً من قاعدة المستخدمين العالمية. لكن الحظر سيزيد من تصاعد التوترات الجيوسياسية وقد ينعكس سلبًا على الشركات الأمريكية في الأسواق الصينية، مما يؤدي إلى دوامة من العقوبات المتبادلة.


الإحتمال الثالث:-  الحل الدبلوماسي والتنظيم الدولي
قد تجد الدول الكبرى في نهاية المطاف أن التصعيد على مستوى الحظر أو التفكيك ليس الحل الأنسب على المدى الطويل. في هذا السيناريو، قد يتم إنشاء إتفاق دولي لتوحيد المعايير الأمنية المتعلقة بجمع البيانات وحمايتها في عصر الإنترنت، مع إمكانية تشكيل هيئة تنظيمية مستقلة تدير هذه القضايا بشكل محايد. وهذا قد يسمح لتطبيقات مثل "تيك توك" بمواصلة العمل ضمن إطار من الشفافية والمساءلة، ما يعزز الثقة بين الدول. هذا الحل قد يكون الأكثر إستدامه، لكنه يتطلب إرادة سياسية قوية من جميع الأطراف.

من المتوقع أن تتراوح الأزمة بين هذه السيناريوهات المختلفة، وقد تنتهي إما بتسوية سياسية أو من خلال التدابير القانونية التي قد تتغير مع مرور الوقت. لكن ما يبدو واضحًا هو أن التكنولوجيا أصبحت جزءاً أساسياً من الصراع العالمي بين القوى العظمى أكثر من أي وقت مضى، وأن الحلول الدبلوماسية ستكون دائماً الأكثر تأثيراً على المدى الطويل.

في النهاية، لا يمكن القول أن أحد الأطراف سينتصر بشكل مطلق. قد تحقق كل من الولايات المتحدة والصين مكاسب جزئية، لكن الصراع سيستمر في تطوراته المستقبلية، وقد يمتد ليشمل مسائل أوسع مثل السيادة الرقمية والتنافس في مجال الذكاء الاصطناعي. قد يكون الحل الأمثل برأى هو إتفاق دبلوماسي يؤدي إلى توازن، ولكن من المؤكد أن الأزمة ستُظهر للعالم كيف أن التكنولوجيا أصبحت ساحة تنافس جيوسياسي حاسمة في عصرنا الحالي. وإذا كان يجب تحديد "من سينتصر"، يمكن القول إن الطرف الذي سيحقق "الإنتصار" الأكبر هو الذي سيكون قادرًا على التكيف مع التغيرات السريعة في السياسة الدولية وتكنولوجيا المعلومات، وليس بالضرورة من يفرض إرادته بالقوة في هذه المعركة.

مقالات مشابهة

  • د.محمد عسكر يكتب: أزمة “تيك توك”.. تهديدات للأمن القومي أم صراع جيوسياسي؟
  • صراع ثلاثي على حقوق الدوري الإيطالي للموسم المقبل
  • فنانون يعيشون صراع التوبة مع عائلاتهم
  • أمين الفتوى يعلق على الـمشاهد غير الأخلاقية التي تخالف الذوق العام
  • المسند يكشف عن درجات الحرارة المثالية للإنسان
  • علي جمعة: تخلصنا من عشوائيات السكن وباقي عشوائيات الفكر والتدين
  • أمطار غزيرة بالقليوبية والمحافظة ترفع حالة الطوارئ
  • أمطار غزيرة تضرب القليوبية والمحافظة ترفع حالة الطوارئ
  • صراع الإخوان والحكومة! أين الوطن؟
  • الزمالك يفرض 4 عقوبات ضد زيزو .. تفاصيل