عاد اتفاق سلام جوبا إلى واجهة خطاب السياسة والحرب في يومنا هذا. وأنشر نص ورقة كنت قدمتها لمؤتمر انعقد في مركز الدوحة في العام الماضي ما وسعني لكي يدور النقاش المتجدد عن الاتفاقية فوق علم باتفاق قل من اطلع على نصوصه.
الجبل والكهف
من الجهة النظرية صدرت اتفاقية سلام جوبا مثل سابقات لها عن سياسات الهوية والعرق التي جعلت من المركز، الذي نهضت الجبهة الثورية ضده، خصماً بضغينة العرق في سياساته لا بمجمل سياساته الوطنية.

وهي السياسات التي أحفظت عليه طبقات اجتماعية، وقوى نوعية، وحزبية أسقطت ثلاثة نظم مركزية ديكتاتورية بالعصيان المدني بينما لم تبلغ الحركات المسلحة منها سوى عهود اشتهرت بالحنث بها دون البر. فبمقاربة المسلحين أزمة الحكم في السودان، التي تجسدت في القسط في توزيع السلطة والثروة، بمصطلح عرقي بحت بدوا معه، في قول أحدهم، كأنهم يريدون تغيير التركيبة العرقية للثروة والسلطة لا بديمقراطية اقتسامهما على السوية. ففي شيوع القسمة العرقية في الاتفاق مصداق لنقد كل من الفيلسوفين الأمريكيين رتشارد روتري ومارك ليلا للجيل من الليبراليين الأمريكية ليومنا لتركيزهم على الهويات العرقية والجندرية المغلوبة دون المظلمة الوطنية مما انشغل به اليسار القديم. ووقع هذا لأنه "غاب عنهم الحس عما يواثق بينا كمواطنين وما يربطنا حزمة كأمة". ومع التقدم الذي أحرزوه في نصفة جماعات الهوية تلك إلا أنهم، في قول مارك ليلا، خسروا رهان الأمة. ف"تراجعوا إلى كهوف كانوا حفروها لأنفسهم فيما كان جبلاً عظيماً"، أي في أمة كبيرة.
اتفقت اتفاقية سلام جوبا مع سابقاتها في مقاربة أزمة الحكم بمصطلح عرقي جهوي فاحتل تدارك بؤس التنمية في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق مكاناً مقدماً فيها. ولكن جاء شذوذها عنها في اختلاقها ما عرف ب"المسارات" وهو ترتيب رفع مظالم أقاليم أخرى في السودان في غير دارفور والمنطقتين لم تكن تشهر السلاح ضد الحكومة لدى عقد مفاوضات جوبا. ولم تأت تلك الأقاليم غير المحاربة بممثلين بتوافق سائر أهلها، بل بمن تصادف أن كان حليفاً للجبهة الثورية خلال نضالها لإسقاط نظام الإنقاذ. وكانت تلك عاهة في الاتفاق نجلاء أغبنت جماعات من تلك الأقاليم مثل جماعات في شرق السودان استنكرت الاتفاق بقوة وبالقوة لأنها لم تفوض من انتخبتهم الجبهة الثورية لتمثيلها في التفاوض نيابة عنها. وتخلقت بالنتيجة ما عرف ب"مشكلة شرق السودان" التي ايقظت فتناً نائمة، وضرجت الشرق بالخلاف والدم والإهانة.
عَنُف الشرق بسبب "مسار الشرق"، الذي هو من فضول القول في اتفاق للسلام، مما دعاني لتسميته مع مسارات غير محاربين آخرين ب"الزائدة السياسة". فكان تداعى مسلحو دارفور لمائدة جوبا للتفاوض حول السلام مستصحبين جماعات سياسية مدنية من أقاليم أخرى تحالفت معهم خلال نضالهم معاً لإسقاط نظام الإنقاذ كما تقدم. وهي الجماعات التي سميتها في موضع آخر "صحبة مسلح"، أي أنهم ما حصلوا على كرسيهم على مائدة المفاوضات أصالة، بل بفضل حليف مسلح. وكانت "الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة" ضمن من جاء صحبة مسلح ممثلة لشرق السودان في طاقم الجبهة الثورية. ونال الشرق بمساره، الذي مهرته الجبهة بتوقيعها، حظوظاً من الإصلاح والتنمية. وأثار ذلك الخلاف في الشرق. ولانتماء جبهة التحرير والعدالة لشعب البني عامر جاء مسار الشرق في اتفاق جوبا على صورتهم لما ينبغي لمركز الدولة عمله لرفع الظلامة عن سائر الشرق غير المحارب. وأغضب ذلك الترتيب شعب الهدندوة التاريخي بقيادة ناظرهم محمد الأمين ترك وآخرين. وبين الجماعتين خصومة سبقت الثورة على نظام الإنقاذ أغبنت بعض مفرداتها البني عامر ففرجوا عنها بتضمينها نص اتفاق مسار الشرق.
فنفذ البني عامر وحلفاؤهم بالمسار إلى رفع مظلمة قديمة من استبعادهم من اتفاق الشرق في ٢٠٠٦ وصندوقه الثري الذي استفرد به موسي محمد أحمد مساعد رئيس الجمهورية، أي الهدندوة في نظر غيرهم. فجعلوا مراجعة الصندوق وهيكلته مادة في اتفاق مسار الشرق مع وجوب تمثيل الموقعين عليه في مجلس إدارته والشورى معهم فيمن يكون مديره. والحق أن الصندوق أزكم فساده الأنوف حتى حله محمد طاهر إيلا وهو على سدة رئاسة الوزارة القصيرة قبيل سقوط نظام الإنقاذ في ابريل 2019. من جهة أخرى، جاءت التحرير والعدالة في اتفاق الشرق بمادة عن معالجة موضوع النازحين بالإقليم، وتوفير الخدمات الأساسية لهم من مسكن وصحة، وتعليم، وأمن، وغيره. وما يسميهم البني عامر "نازحون" هم عند الهدندوة "لاجئون" من أرتيريا. فليس مستغرباً ألا يقبل الهدندوة بهذه المادة التي تهجس لهم كمحاولة من البني عامر تقنين وجود جمهرة من أهلهم النازحين من أريتريا.
وليس ما أغبن الهدندوة وجرعهم الإهانة التواثق في جوبا على مسار عن إقليمهم من وراء ظهرهم فحسب، بل مادة في الاتفاق أيضاً عن انعقاد مؤتمر تشاوري لأهل الشرق يتنادى له من لم يحضروا قسمة جوبا لاطلاعهم على الاتفاق وأخذ شورتهم. ورأى الهدندوة في هذا عتواً استباحت به الجبهة الثورية إقليماً بحاله تفاوض عنه بمن انتخبته ممثلاً له اعتباطاً بغير اعتبار لتضاريسه السياسية والديموغرافية. وتخلق من يومها ما عرف ب"مشكلة الشرق" التي لم ينعقد مؤتمر عن اتفاق جوبا، أو مبادرة للم الشمل الوطني منذها لم تكن فيه حاضرة. فتمسكت الجبهة الثورية بحرفية اتفاق جوبا بمساراته بينما سعت هذه القاءات والمبادرات المناورة من حوله لإرضاء الهدندوة. وهيهات.
لم يكن ليكن فينا اتفاق الشرق لولا مصادفة انتماء الجبهة الشعبية للتحرير للجبهة الثورية كصحبة مسلح لا مسلحاً. فلو كان الطرف المفاوض للحكومة هو الجبهة الشعبية (الحلو) لربما اختلف الاتفاق لأن في كتلة الحلو جماعات أخرى من الشرق صحبة مسلح.
ولا أدرى كيف ساغ للجبهة الثورية المضي في اتفاق لمسار الشرق وهو مهيض الأطراف هكذا. ولماذا داخلها أن اتفاقها المعلول سيحظى بقبول كيانات في الشرق لم تكترث هي لحضورهم. وتعلل الموقعون على اتفاق المسار بأنهم لم يعزلوا أحداً طالما جاؤوا للشرق بحقه كاملاً غير منقوص وقد رتبوا لمؤتمر للشورى حول محتواه. وتلك إساءة بعد التجريح. فمَن غيبتهم الجبهة الثورية عن المفاوضات والتوقيع على الاتفاق ليسوا رعايا تمضي الأمر عنهم وكالة. فلربما كان لهم رأياً فيما يستحقه الشرق أفضل مما جئت به، أو أنقص من ذلك قليلا. فهذه منة منك لا حقاً.

ibrahima@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الجبهة الثوریة نظام الإنقاذ مسار الشرق البنی عامر سلام جوبا فی اتفاق

إقرأ أيضاً:

هل ينسحب اتفاق سد تشرين بسوريا على بقية المناطق الخاضعة لـقسد؟

حاز الاتفاق بين الدولة السورية وقوات سوريا الديمقراطية "قسد"، على إدارة مشتركة لـ"سد تشرين" شرقي حلب، على جل اهتمام الشارع السوري، وسط توقعات بأن ينزع الاتفاق في حال جرى تطبيقه بشكل سلس فتيل صراع "دموي"، بين القوات السورية وقوات "قسد" التي يهيمن عليها الأكراد، الذين يتلقون دعماً أمريكيا.

وكانت قوات الجيش السوري دخلت سد تشرين الذي كان خاضعا لسيطرة "قسد" والذي يربط حلب بالمحافظات الشرقية (الرقة، الحسكة)، تنفيذا للاتفاق الذي ينص على إنشاء قوة عسكرية مشتركة بين دمشق و"قسد" لحماية السد، الذي شهد محيطه العديد من المعارك خلال الأشهر الماضية.

سد تشرين
ويقع سد تشرين الذي بني في أواخر القرن الماضي، على نهر الفرات بالقرب من مدينة منبج، ويبعد عن مدينة حلب حوالي 100 كيلو متر.

وكانت "قسد" تستميت في الدفاع عنه، والاتفاق حوله يأتي خطوة أولى في إطار الاتفاق الذي وقعه قائدها مظلوم عبدي مع الرئيس السوري أحمد الشرع في 10 آذار/مارس الماضي.


وعن أهمية السد، يتحدث الباحث في مركز "رامان للبحوث والاستشارات" بدر ملا رشيد، عن جوانب عديدة تُعطي سد تشرين أهمية، منها التنموية المتعلقة بالأمن المائي، وخاصة لمحافظة حلب، التي تعتمد عليه لتأمين مياه الشرب، بجانب الطاقة الكهربائية التي ينتجها السد.

ويضيف لـ"عربي21"، أن السد كذلك يشكل عقدة ربط استراتيجية بين المحافظات الشمالية والشرقية السورية، وكذلك يمنح السد الطرف المسيطر عليه عسكريا منطقة قابلة للحماية بشكل جيد.

هل ينزع الاتفاق فتيل المواجهة؟
وبحسب ملا رشيد، فإن نجاح الاتفاق على الإدارة المشتركة (الدولة السورية، وقسد) للسد، يمكن أن يُعتمد كنموذج للملفات الخلافية الأخرى بين الجانبين.

ويقول الباحث، إن الإدارة المشتركة للسد، قد تُعمم على مناطق شرق الفرات، إذا ما تم البناء عليها لاحقاُ في حال بناء تفاهمات عسكرية شاملة، وتحديدا على تسهيل عبور القوات الحكومية إلى الجزيرة السورية، والشروع بدمج "قسد" في الجيش السوري.

على المنوال ذاته، يرى المنسق العام للمجلس الأعلى للعشائر السورية، الشيخ مضر حماد الأسعد، في حديث مع "عربي21" أن تطبيق الاتفاق في سد تشرين، يعني أن الأوضاع تسير في الطريق الصحيح، لجهة فرض الدولة السورية سيطرتها على كامل سوريا.

ويقول إن سد تشرين يشكل بوابة ما يعرف بمنطقة "الجزيرة" السورية، الخاضعة حالياً لسيطرة "قسد"، معتبراً أن "من الضروري عودة كل المناطق السورية إلى سيطرة الدولة".

ماذا عن سد الفرات؟
ولا زالت تسيطر "قسد" على  سد الفرات الأكبر في سوريا، وهنا يعتقد حماد الأسعد أن اتفاق سد تشرين، يعني بالضرورة أن الاتفاق على سد الفرات بات وشيكا.

ويقول: "تنبع أهمية السدود من كونها مصدر مياه للشرب وري المزروعات، إلى جانب الكهرباء، وخاصة أن سوريا بحاجة ماسة للطاقة، ولا بد من إشراف الحكومة على هذه المواقع السيادية.


وتابع حماد الأسعد، أنه رغم الحذر والتوتر بين الدولة السورية و"قسد"، إلا أن الاتفاق على سد تشرين قد يشكل خطوة بناء ثقة، لكسر الجليد، وقال: "لكن للآن هناك سوء نية من جانب "قسد"، خاصة أنها تعاني من انقسامات داخلية إزاء التعامل مع الدولة السورية".

هل يدوم الاتفاق؟
في المقابل، توقع الكاتب والسياسي الكردي علي تمي، أن لا يدوم الاتفاق طويلا، وقال لـ"عربي21": "دخول القوات الحكومية إلي سد تشرين جاء بطلب مباشر من الولايات المتحدة، أي بعد ضغط كبير على قسد".

واعتبر تمي، أن ما يبدو حتى الآن أن "قسد" تحتفظ بنقاط عسكرية قرب السد، وبالتالي هي تستعد لأي تصعيد مرتقب، على حد قوله.

وأشار الكاتب السياسي إلى استمرار "قسد" في حفر الأنفاق داخل الرقة،  لافتا إلى أن "هذا دليل آخر على أن هناك حلقات مفقودة في الاتفاق".

مقالات مشابهة

  • سلام في إطلاق مشروع تأهيل طريق مطار: طيران الشرق الاوسط وجه لبنان الجميل
  • حرب القيامة التي يُراد بها تغيير خارطة الوطن العربي 
  • مبعوث ترامب يضع “خيارا واحدا” أمام إيران
  • روسيا ترد على تقرير استقبال اليورانيوم الإيراني
  • هل ينسحب اتفاق سد تشرين بسوريا على بقية المناطق الخاضعة لـقسد؟
  • ما الملفات التي سيبحثها نواف سلام خلال زيارته لسوريا؟
  • روسيا: موقف أمريكا من الأزمة الأوكرانية يعرقل جهود التهدئة
  • حيداوي: تقوية الجبهة الشبانية من صمام الأمان التي تحمي للجزائر
  • تفاصيل جديدة حول اتفاق محتمل بين الاحتلال وحماس
  • السعودية وأمريكا تقتربان من توقيع اتفاق نووي تاريخي