سودانايل:
2025-04-15@02:01:10 GMT

اسكات المدافع، هل هو نصر مؤقت أم تحول حقيقي؟

تاريخ النشر: 13th, March 2025 GMT

في زمن تلاشت فيه الحدود بين العقل والجنون، وسقطت فيه المعايير التي تفصل اليقين عن الوهم، كان هناك رجل أنهكته الحمى، يمشي عاري الجسد، عاد إلى لحظة الميلاد الأولى، بلا ثوب يستره ولا جلابية تقيه نظرات العابرين. وبينما هو على حاله تلك، دخل إلى السوق بخطوات واثقة، فتلقفته ضوضاء الحياة المتدفقة من كل زاوية.

المكان نابض بالصخب، حيث تعالت أصوات الباعة وهم يزاوجون بين النداء والإلحاح، بينما تتشابك أصوات الزبائن بين مساومة وتردد. تحاول أن تلتهم الرتابة وتبعث في الأشياء روحاً متجددة. الهواء محمّل بروائح مختلطة، عطر التوابل ورائحة الخبز الطازج هناك، وقف المجنون عند بائع الطواقي، راح يقلبها بين يديه، ببطء العارف الذي ينقّب عن شيء مفقود، أو ربما عن إجابة ضلت طريقها في سراديب الزمن. لم يمر المشهد دون أن يلفت انتباه البائع، الذي ألقى نظرة جانبية على وجهه، داير شنو يا زول؟ بصوت هادئ كأنما يأتي من بُعد سحيق: تقدّم نحو البائع ومدّ يده ليلتقط الطاقية، ثم سأل بصوت خافض، فيه من الجدية ما يكفي لإثارة الفضول: (بكم هذه الطاقية؟) لم يأتِه الجواب على الفور، بل سبقه نوع من الابتسامة التي تحمل أكثر مما تبوح به الكلمات، قال بصوت متمهل، (سيبك من ثمن الطاقية… بس وريني، قروشك داسيها وين؟)

كشعب، نقف أحياناً أمام الأسئلة البسيطة التي تخفي وراءها عُمقاً لا يُستهان به، تماماً كما تساءل ذلك البائع الماكر: فالسؤال لم يكن عن المال فقط، بل عن مكان وجوده. واليوم، نحن بدورنا نردد السؤال ذاته، ولكن بصيغة أخرى: (نحن الحكمة داسنيها وين؟) أين خبأنا ذلك العقل الذي كان يُضيء دروبنا في أحلك اللحظات؟ كيف سمحنا للتخبط أن يحل محل البصيرة، وللفوضى أن تطغى على صوت الحكمة الهادئ؟، كيف فقدنا الاتزان بين الفطرة والوعي، بين العفوية والتدبر، بين الطيبة والذكاء؟

في رحلتي إلى المناطق التي تحررت من قبضة الميليشيا، ترسخت في ذهني قناعة عميقة بأن اختزال المشهد في ميزان النصر والهزيمة العسكرية لا يفي بحقيقة المأساة. فالوطن اليوم ليس مجرد ساحة معركة تحددها خطوط النار والمدافع، بل هو جرح غائر في جسد أمةٍ أرهقتها الحروب، وفتكت بها دوائر الفوضى والاستبداد المتكررة. إن الحروب ليست لحظات عابرة تنتهي بوقف إطلاق النار، بل هي كائنات متجددة، تتغذى على إرث القهر والتهميش، وتعيد إنتاج نفسها من رحم غياب العدالة وانعدام التوافق الوطني. وإذا كان انهيار الدعم السريع يوحي للبعض بقرب انبلاج فجر جديد، فإن الواقع أكثر تعقيداً من ذلك، إذ لا يمكن بناء الاستقرار على أنقاض أزمة لم تُجتث جذورها، ولا يمكن للسلم أن يكون وليد الغلبة وحدها، بل هو ثمرة تصالح وطني عميق، ومشروع يعيد صياغة مفهوم السلطة لا بوصفها مغنماً، بل مسؤولية تُمارس بعدل وإنصاف، في وطن لا يُقصى فيها أحد، ولا يُدار شأنها بمنطق القهر والإكراه. فإن لم تكن المرحلة القادمة ولادة لوعي جديد، فإن ما يُرى اليوم انتصاراً قد لا يكون سوى هدنة لصراع قادم، ويبقى الوطن معلقاً بين ذاكرة الجراح وأشباح الغد، منتظراً يقظة لم تحن بعد.

إن التاريخ لا يرحم أولئك الذين يظنون أن البندقية وحدها تصوغ مصير الأمم، فالنصر الحقيقي ليس في اندحار قوة عسكرية، بل في انكسار الفكر الذي يُنتج الطغيان ويعيد تشكيله بأوجه جديدة. الوطن ليس مجرد ساحة صراع على الحكم، بل مسرحٌ لصراع أعمق على معنى الدولة نفسها، هل تكون وطناً يحتضن الجميع، أم غنيمةً يتنازعها الأقوياء؟ إن الخراب لا يبدأ حين تسقط القذائف، بل حين تسقط الأخلاق والقيم التي تحمي الإنسان من أن يكون وقوداً في أتون الأطماع. وكل حربٍ لا تنجب عدلاً، ستولد صراعاً جديداً، وكل سلطةٍ تُبنى على الغلبة، لا على التوافق، ستظل قلعةً محاصرة، مهما علت أسوارها. لذلك، فإن هزيمة الدعم السريع، مهما بدت فاصلة في المشهد، لن تكون نقطة النهاية، ما لم تتبعها يقظةٌ وطنية تعيد تعريف السلطة باعتبارها مسؤولية لا امتيازاً، وتؤسس لدولةٍ لا تُبنى على أنقاض المغلوبين، بل على مصالحةٍ حقيقية تُطهر الأرض من ميراث القهر والتمييز. وإلا، فإن التاريخ لن يتردد في إعادة المشهد، بوجوه جديدة، وسلاح مختلف، لكن بجراحٍ قد تكون أعمق وأشد خطراً.

إن الاستقرار ليس ظلاً تلقائياً يسقط بمجرد إنتهاء الحرب، بل هو شجرة تحتاج إلى تربة من العدالة، ويسقي بماء التوافق الوطني، ويتنسم هواء الحرية، فإن لم يتوفر لها ذلك، ستبقى حرب اليوم مولود صراع الغد، ، وكأنه يعيد نسج ذاته بأقنعة جديدة، تخفي المأساة ذاتها في ثوب مختلف، بينما يبقى الجوهر عالقاً في دوامة لا تنتهي تتغير الأسماء، وتتلون الشعارات، لكن الدائرة تظل مغلقة، كرقصة أزلية على إيقاع التكرار. يعيد التاريخ تشكيل ملامحه بأقنعة جديدة، تخدع البصر للحظة، لكن جوهر المأساة يبقى ثابتاً، كقدر يأبى أن ينكسر، وكأن الزمن يدور لا ليمضي، بل ليعود إلى النقطة ذاتها في مسرح بلا نهاية.

إن الأوطان لا تُبنى على ركام الحروب، ولا تُصاغ هويتها في ساحات الوغى، بل تنبع من وعي أبنائها بأن الدم لا يكون أبداً ثمناً مشروعاً للسلطة، وأن الاستقرار لا يولد من انتصار القوة، بل من انتصار العدالة. فالمرحلة القادمة لا ينبغي أن تكون فصلاً جديداً في كتاب الصراع، بل بداية لكتابة تاريخ مختلف، حيث يكون السودان وطناً يسع الكل، لا ساحةً يتنازعها المتغلبون. إن أعظم الانتصارات هي تلك التي تُحقق على جبهات الوعي، حين يدرك الجميع أن الوطن ليس كياناً يُختزل في راية فصيل أو في حدود سلطة، بل هو عقدٌ اجتماعي، أخلاقي وسياسي يُبنى على شراكة عادلة، لا يُقصى فيها أحد، ولا يُستبد فيها بفئة على حساب أخرى. فإن لم يخرج السودان من هذا المخاض برؤية تنبذ منطق الغلبة وتؤسس لدولة العدل، فسيظل أسيراً لدورة أزماته، يتقدم خطوة ليتراجع خطوتين، يقترب من النور، ثم يسقط مجدداً في ظلال الفوضى، متأرجحاً على حافة التاريخ، بلا يقينٍ ولا أمان.

‏abudafair@hotmail.com.

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: بنى على التی ت

إقرأ أيضاً:

حكومة غزة: إسرائيل تحول المياه إلى سلاح قتل بطيء للفلسطينيين

حذر المكتب الإعلامي الحكومي في غزة ، اليوم السبت 12 أبريل 2025، من أن إسرائيل حولت المياه إلى أداة إبادة جماعية وسلاح قتل بطيء لأكثر من 2.4 مليون فلسطيني في القطاع.

وقال في بيان، إن "إسرائيل تواصل تعمدها حرمان السكان من الحد الأدنى من المياه اللازمة للبقاء على قيد الحياة، عبر استهداف البنية التحتية المائية بشكل ممنهج، ووقف خطوط الإمداد، وتدمير محطات وآبار المياه، وقطع الكهرباء والوقود اللازم لتشغيل مرافق المياه والصرف الصحي".

وأكد المكتب الحكومي أن إسرائيل عطلت مؤخرا خطي مياه شركة "ميكروت" الواصلين إلى شرق مدينة غزة والمحافظة الوسطى، واللذين يوفران أكثر من 35 ألف متر مكعب من المياه يوميا لما يزيد على 700 ألف فلسطيني.

وأوضح أن إسرائيل سبق وأوقفت "خط الكهرباء الذي يغذي محطة تحلية المياه في منطقة دير البلح بالوسطى، ما أدى لتوقفها بالكامل عن إنتاج المياه المحلاة، حيث عرضت حياة 800 ألف مواطن في محافظتي الوسطى وخان يونس لخطر العطش الشديد".

وذكر أن إسرائيل دمرت منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 أكثر من 90 بالمئة من بنية قطاع المياه والصرف الصحي، كما منعت وصول الطواقم الفنية لإصلاح الأعطال، واستهدفت العاملين أثناء أداء مهامهم الإنسانية، فضلا عن منعها دخول الوقود اللازم لتشغيل الآبار ومحطات التحلية في ظل انقطاع الكهرباء منذ بداية الإبادة.

المصدر : وكالة سوا اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من آخر أخبار فلسطين حماس: إطلاق سراح الأسرى مقابل وقف حرب غزة أربعة شهداء في قصف الاحتلال حي الشجاعية وخان يونس أحدث إحصائية لعدد شهداء غزة الأكثر قراءة بالفيديو: موظفة عربية في "مايكروسوفت" لمسؤول: أيديكم ملطخة بدماء غزة إذاعة الجيش الإسرائيلي: صاروخان أطلقا من اليمن ليلًا ألبانيز: الدليل على قتل المسعفين في رفح تم إخفاؤه محدث: 14 شهيدا إثر قصف استهدف مواطنين في عدة مناطق بقطاع غزة عاجل

جميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025

مقالات مشابهة

  • المدافع "الشرس" عن نظام الأسد.. هل طلب اللجوء في روسيا؟
  • حسم مستقبل لابورت مع النصر
  • كيف يمكن التخلص من الكربون؟ دفنه قد يكون حلا
  • إسرائيل تحول الضفة إلى مكب في جريمة بيئية مستمرة
  • نتنياهو يثني على ابنه لشتمه ماكرون: يائير صهيوني حقيقي
  • ليفربول يقترب من لقب الدوري الإنجليزي
  • “هل مواعيد الامتحانات في العراق مجرد مسكنات أم بداية لحل حقيقي؟”
  • خبير: تحول فرنسي وأوروبي جذري تجاه القضية الفلسطينية
  • «فيتش» تتوقع خفض المركزي المصري لسعر الفائدة إلى مستوى يتوافق مع معدل حقيقي 4%
  • حكومة غزة: إسرائيل تحول المياه إلى سلاح قتل بطيء للفلسطينيين