لجريدة عمان:
2024-10-03@13:11:05 GMT

الآخَـر «في ذاتـه»

تاريخ النشر: 23rd, August 2023 GMT

اقترنت صورةُ الآخَر (الأوروبيّ) في الوعي العربيّ المعاصر بالقوّة المادّيـة المسلَّحة التي أَبْـداها ذلك الآخَـر، في المجتمعات العربيّة المَغْـزُوّة، بما هو مستعمِـر. ومع أنّ تلك القوّة العارية أَنْجبت - في الشّروط التي جرت فيها - حالاً غالبةً من الخنوع الاضطراريّ والقهريّ (الممزوج، أحياناً، ببعض الإعجاب)، إلاّ أنّ هذه الحال السّائدة لم تمْنع من نُمُـوٍّ مطَّـرِدٍ لسيكولوجيا جماعيّة رافضة لفعل الاحتلال والقهر الاستعماريّين، ممانِعةً - في الوقت عينِه - لمفعول الشّعور العامّ بالخوف من بطش الغالب.

من الطّبيعيّ، في مثل هذه الحال من اشتغالِ جدليّة السّيطرة/الخضوع في المستعمرات، أن تكون صورة الآخَـر (الأوروبيّ)، في وعيِ العربيِّ، ناقصةً أو غير مكتملة أو، للـدّقّـة، وحيدة الجانب بحيث لا يبدو فيها سوى وجهه الكريه؛ ذلك أنّ الآخَـر هذا لم يكن قد قدّم نفسه، إبّانئـذٍ، إلاّ بوصفه غازياً يجثم على صدر المجتمع الموطوءة أرضُه. هي، إذن، الصّورة التي رسمتْها في المتخيّـل الجمْعيّ ظرفيّةُ الاحتلال وسياساتُ الأخير تجاه الأهالي الذين ما تعرّفوا من هذا الأجنبيّ الوافـد على ديارهم سوى على قوّته النّاريّة وبطش عساكره وموظّفي إدارته الاستعماريّة.

ستختلف ملامح صورة الآخَر، كثيراً، كلّما ابتعدنا عن الميدان المباشر لاشتغال تلك الجدليّة (جدليّة السّيطرة/الخضوع): المستعمَرات؛ أي كلّما كان فضاء الصِّلة بالآخَر (الأوروبيّ) هو مجتمعه بالذّات. هنا - في عـقر داره - يختلف أمرُه؛ حيث إنفاذُهُ أحكامَ نموذجه المجتمعيّ والحضاريّ على نفسه وبني جلدته مختلفٌ، أشدّ الاختلاف، عمّا يأتيه من أفعال تجاه غيره في المستعمَرات! ولكنّ الذين كان بمُكْـنهم أن يتعرّفوا ذلك الآخَر في دياره - قبل قرنين - كانوا قُلاًّ معدودين أكثرهم من القناصل والسّفراء وكبار التّـجّار وأُولى البِعْـثات التّعليميّة، أو من الذين ساقهم فضولُ الاِطّـلاع على عالم المدنيّة الجديدة إلى السّفر إلى بلدان أوروبا وتدوين رحْلاتهم في نصوصٍ تحوَّل بعضُها القليل إلى وثائق أدبيّة- تاريخيّة تشهد بنوع التّمثُّـلات التي تكوّنت لأصحابها حين اتّصالهم بهذا العالم الجديد: عالم الآخَـر الأوروبيّ.

ومع أنّ إيقاع الاتِّصال تَسَارع واتَّسع نطاقُه أكثر منذ ما بين الحربين، مقارنةً بما كان عليه منذ عشرينيّات القرن التّاسع عشر؛ وذلك نتيجة تدفُّق موجات المهاجرين العرب على بلدان أوروبا بحثاً عن العمل، أو قصد استكمال الدّراسة...، إلاّ أنّ الصّور التي تكـوّنت عن ذلك الآخَـر في عقر داره لم تشهد على تغييرٍ يُذْكَـر عمّا كانت عليه في عهود الاتّصال الأولى (القرن 19)؛ إذْ ظلّ من ثوابتها وعيُه بما هو مثالٌ لقيم العِلم والتّـقدُّم والعـدل والإنتاج والحريّـة والمساواة، لا للقـوّة والبطش كما هو يبدو خارج موطنه. والحقّ أنّ الكثير من هذه الصّور، التي تعدّلتْ بها تمثُّـلات العربيّ للآخَـر، يتردّدُ التّعبير عنها في عشرات نصوص الرّحلة التي كتبها أدباء عرب كثر، بين نهاية عشرينيّات القرن التّاسع عشر وبداية الحرب العالميّة الأولى (ومنها، من باب التّمثيل فقط نصوص رفاعة رافع الطّهطاويّ، وفارس الشّدياق، ومحمّد الصّـفّار، وجرجي زيدان...). ومع أنّ أدب الرّحلة عريق في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة نصطدم به وبنظْراته المقارِنة في نصوص عدّة كتلك التي وضعها المسعوديّ والبيرونيّ وابن بطّوطة... إلخ، إلاّ أنّ لها وضعيّةً اعتباريّـةً خاصّة، في نطاق الثّقافة العربيّة الحديثة، تَـرُدُّ إلى الظّرفيّة التّاريخيّة التي كُتِبَت فيها، والتي تختلف عمّا قبلها من أزمنة.

إذا كان الكتّاب العرب القدامى قد دشّـنوا أدب الرّحْلة وانْهَـمُّوا بآخَرهم، الذي اكتشفوه في موطنه، من غير تهويلٍ منه ولا تنقيصٍ من الذّات، فلأنّهم كتبوا ما كتبوه أَيَّانَ كان العرب في موقع تفـوُّقٍ، مغمورين بشعور الثّـقة بالقدرة على صناعة التّاريخ. وما كانت تلك حالُهم حين تَجَـدَّد عندهم تقليدُ أدب الرّحلة في مطالع القرن التّاسع عشر، بل لقد أتى عليها (= حالهم) من ضروب السّوء ما زعزع الثّـقةَ بالذّات، وأَوْقـد في النّفس نار الشّعور بالانكسار والهزيمة الحضاريّة والخروج من التّاريخ. كانت مدنيّتُهم الموروثة - وقد شرعت في الانحلال منذ زمن - قد بدأت تَدْمُـر تحـت سنابك خيل الغزاة الأوروبيّين، منذ انطلقت حملة نابليون على مِـصْـرَ في الهزيع الأخير من القرن الثّامن عشر؛ وكان نظامُهم المرجعيّ في الفكر والاجتماع والقيم يتآكل ويتداعى تحت وطأة زحفِ المدنيّة الأوروبيّة المحمولِ على ركاب الغزوة الكولونياليّة الشّاملة، فيما ديارُهم تُستباح من جيوشٍ جرّارة لا قِـبَـلَ لهم بكسْر شوكتها أو كـفّ غائلتها!

كان كلّ شيء قـد تغيّر، إذن، حين استُعيد تقليدُ الرّحلة واعتُـمِدَ تدويناً لمشاهَـداتِ عالَـمِ الآخَـر الجديد. لذلك، حين ذهب مَن ذهب من الكُـتّاب إلى الدّيار الأوروبيّة، ودوّن رحلته ومشاهداته فيها، كان الشَّـدْهُ والدّهشة من المرئيِّ والمُعَايَن الغالبَيْن على مادّة نصوص الرّحلة؛ بل كان الشّعور الجارف بالانبهار والإعجاب ممّا يتعصّى على الحَجْب والإخفاء. حتّى الذين جرّبوا من كتّاب الرّحلة أن يأخذوا لأنفسهم مسافةً من ذلك الشّعور بالانبهار، فيتحدّثوا عن مشاهداتهم بلسانٍ نقديّ، أو بمفردات تنتصر للنّموذج الحضاريّ العربيّ الإسلاميّ، في مواجهة النّموذج الأوروبيّ، كانوا أشبه بمن يمارسون فِعْـلَ مُكابَـرةٍ، في ما يقولونه، أو أشبهَ بمن يخوضون قتالاً تراجعيّاً من مواقعَ دفاعيّة غير حصينة أو هي تكاد أن تكون في حُكْم الآيلة إلى سقوط!

على أنّ التّمثّلات التي تكوّنت عن الآخَـر (الأوروبيّ) في الثّقافة العربيّة، من موقع الشّعور بالانكسار والهزيمة، لم تكن من جنسٍ واحد دائماً، بل الغالبُ عليها أنّها تولّدت من شعورين متناقضين استبدّا بالمثقّـفين العرب وأَفْضَيَـا إلى توزيعهم على معسكريْن متقابلين؛ عنينا شعور الانبهار وشعور الإنكار، وعلى إيقاع تَقابُلهما كان تَقابُل المعسكريْن الثّقافيّين ذيناك: معسكر المُنْبَهِرة من المثقّـفين من الذين استبطنوا الانكسار وحوّلوه إلى شعور نفسيّ ملازِم، وسلّموا بالقطيعة التّاريخيّة بين الأزمنة - والمدنيّة - الحديثة ونظيرتها السّابقة؛ ومعسكر المُنكِـرة منهم من الذين تعاموا عن التّحـوُّل المَهُول واعتبروه عارضاً ومؤقّـتاً، وشدّدوا على الاستمراريّة التّاريخيّة. في ضوء هذا الانقسام على حدود وعي الآخَـر، سيتولّد انقسام موازٍ في النّظر إلى الأنا؛ إذ بمقدار ما كانتِ الأنا - وهي تكوِّن تلك الصُّور عن الآخَـر- تحاول وعيَ ذلك الآخَـر وتحديد سلوكها تجاهه، كانت - في الوقت عينِه - تتعرّف إلى نفسها كَ أنـاً في مرآة ذلك الآخَـر الذي يقابلها.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العربی ة ما کان الآخ ر ة التی

إقرأ أيضاً:

"الاتحاد الأوروبي في خطر".. السيارات الكهربائية والاقتصاد في قلب المحادثات مع شولتس

أشار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى أن الوضع الحالي للاتحاد الأوروبي يعاني من عدم الاستقرار، وقد يتعرض لمشكلات إذا لم يتم تعزيز العلاقات داخل سوقه الموحدة ومعالجة قضية "التجزئة". جاء ذلك في خطاب ألقاه خلال مؤتمر برلين للحوار العالمي، وهذه هي الزيارة الرابعة له إلى ألمانيا هذا العام.

اعلان

استقبل المستشار الألماني أولاف شولتس الرئيس الفرنسي في برلين يوم الأربعاء، حيث أكد شولتس على أهمية وقف إطلاق النار في المنطقة.

من جهته، تعهد ماكرون بدعم إسرائيل عبر تعزيز الوجود العسكري الفرنسي في الشرق الأوسط.

تأتي هذه الزيارة في وقت حرج، حيث يتصاعد التوتر بين إيران وإسرائيل، مما يزيد المخاوف من دخول المنطقة في حرب شاملة.

وفيما يتعلق بالشأن الأوروبي، أشار ماكرون إلى أن عدم اتخاذ الاتحاد الأوروبي خطوات عاجلة لإصلاح القوانين قد يؤدي إلى الحاجة إلى خطة إنقاذ خلال خمس إلى عشر سنوات.

كما أبدى دعمه لخطط الاتحاد الأوروبي لفرض رسوم جمركية على المركبات الكهربائية المستوردة من الصين.

ورغم أن شولتس لم يتفق مع ماكرون بشكل كامل، إلا أنه أعرب عن قلقه من تأثير هذه الرسوم سلبًا على صناعة السيارات، التي تعد أساسية للاقتصاد الألماني.

ومن خلال هذه الزيارة، يتضح أن أكبر قوتين اقتصاديتين في أوروبا لا تزالان تختلفان في وجهات النظر حول كيفية التعامل مع الرسوم على السيارات الكهربائية الصينية.

شعار شركة صناعة السيارات الألمانية بي إم دبليو في المقر الرئيسي في ميونيخ بألمانياAP

وقام شولتس بحملة عامة من أجل إجراء حوار مفتوح مع الصين، واكتفى بمجموعة ضغط (لوبي) قوية من شركات صناعة السيارات الألمانية، التي أعربت عن رغبتها في أن تصوت ألمانيا ضد فرض رسوم استيراد إضافية في التصويت المزمع إجراؤه بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في 4 تشرين الأول/أكتوبر.

وقال ماكرون خلال اللقاء، إن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى إعطاء الأولوية للدفاع والأمن، بالإضافة إلى "تحسين القدرة على الابتكار".

وأشار إلى أن التكتل يواجه مخاطر تتعلق بالتخلف عن القوى العالمية مثل الصين والولايات المتحدة، مما يتطلب اتخاذ خطوات فورية لتعزيز قدراته.

Relatedما هي أكثر الوظائف إرهاقاً في أوروبا؟تقرير: أطفال بريطانيا الأكثر تعاسة بالقياس مع أقرانهم في أوروبا.. ماذا وراء الأرقام الصادمة؟جودة الحياة في سن الشيخوخة: مالطا النموذج الأفضل في أوروبا

أكد ماكرون أن الميزانية الحالية لأوروبا ليست فعالة، مشددًا على ضرورة إحراز مزيد من التقدم في التحول إلى الطاقة الخضراء، محذرًا من أن عدم القيام بذلك قد يؤدي إلى مزيد من الركود الاقتصادي في القارة.

في الوقت نفسه، يواجه شولتس معدلات تأييد ضعيفة، مما يثير تساؤلات حول ما إذا كانت جهوده لتحقيق إعادة انتخابه ستنجح في الانتخابات الفيدرالية المقررة العام المقبل.

كما نسق الرئيسان القضايا المطروحة في اجتماع المجلس الأوروبي المقبل في منتصف الشهر الحالي، وفقًا لبيان صحفي صادر عن الحكومة.

شارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية وسائل النقل في أوروبا: السيارات تتصدر والمشي وركوب الدراجات يكتسبان شعبية كير ستارمر يلتقي جورجيا ميلوني في روما لبحث استراتيجيات وقف تدفق المهاجرين بعد برلين.. كير ستارمر يلتقي ماكرون في باريس لبحث تعزيز العلاقات الثنائية الصين الاتحاد الأوروبي ألمانيا إيمانويل ماكرون سيارات كهربائية أولاف شولتس اعلاناخترنا لك يعرض الآن Next عاجل. الحوثيون يعلنون استهداف هدف حيوي في تل أبيب ومعارك ضروس بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله في الشمال يعرض الآن Next روسيا تتصدى لـ113 مسيرة أوكرانية وبوتين يفتح باب العفو العام للمحاكمين الراغبين في الانضمام للقتال يعرض الآن Next إعصار "كراثون" يصل تايوان: مقتل شخصين وإجلاء الآلاف في المناطق المتضررة يعرض الآن Next تفاصيل جديدة: خامنئي حذر نصر الله قبل أيام من الاغتيال والأمين العام لحزب الله آثر البقاء في لبنان يعرض الآن Next أوضاع صعبة يعيشها سكان الجنوب الشرقي للولايات المتحدة.. إثر انقطاع الماء والكهرباء، جراء إعصار هيلين اعلانالاكثر قراءة الأردن يعيد مشهد نيسان ويعترض صواريخ إيران وهي بطريقها إلى إسرائيل.. "موقف مبدئي للمملكة"

مقالات مشابهة

  • "الاتحاد الأوروبي في خطر".. السيارات الكهربائية والاقتصاد في قلب المحادثات مع شولتس
  • الاتحاد الأوروبي يعلن تقديم مساعدات إضافية بـ30 مليون يورو إلى لبنان
  • الاتحاد الأوروبي يوصي شركات الطيران بتجنب المجال الجوي الإيراني
  • أوامر بمغادرة الاتحاد الأوروبي لمواطني هذه الدول
  • منصات التواصل تخضع للتحقيق من قبل الاتحاد الأوروبي
  • مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي: يجب وقف إطلاق النار في جميع أنحاء المنطقة فورا
  • غوتيريش: الاتحاد الأوروبي يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار
  • الاتحاد الأوروبي: أي تدخل عسكري في لبنان سيزيد من تدهور الوضع على نحو كبير ويجب تجنبه
  • الاتحاد الأوروبي: ندعو إلى عقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن لبحث التصعيد في لبنان
  • الاتحاد الأوروبي: الوضع الإنساني في لبنان يتدهور بسرعة