البعوضة؟! (قصة قصيرة من رعب المعركة)
تاريخ النشر: 13th, March 2025 GMT
أصدر قائد المجموعة أمره بصرامة ودون أيّ تردّد، الأمر لا يتجاوز كلمة واحدة:
- البعوضة.
وسط الركام لم نجد سوى عجوزين، عجوز يؤنس عجوزته رغم أنف الحرب والدمار، وكأن بقيّة أفراد العائلة قد ابتلعتهم الحرب قتلا أو تشريدا أو كليهما، والأغلب قتلا لأن العائلات الفلسطينية لا يمكن أن تترك مسنّيها وتذهب، وسط هذا الدمار الهائل الذي لم يترك بناية على حالها، أتاها وفعل فعله الشنيع بها، والموت منتشر للناس من فوقهم ومن تحت أرجلهم، بحرا وبرا وجوا وبأشكال متعدّدة وبكل الألوان، ومن لم يمت بالقصف مات بالقنص أو الحرق أو تساقط ركام الأبنية فوق رأسه، عجوزان ينتظران الموت في أية لحظة، لا شكّ بأنّهما قد رآنا ولكن لا حيلة لهم سوى انتظار الموت والرضى بقدرهم.
يريد قائدنا الأشمّ تطبيق خطّة البعوضة، كيف؟ معقول؟ على إنسانين بهذا السنّ المتقدّم، على كلّ حال هو لا يعترف بإنسانيتهم أوّلا ولا اعتبار للسنّ عنده إلا المزيد من الإمعان في الإذلال والقهر.
هجم الجنود بشراسة على فريستهم، عصّبوا المرأة العجوز وشدوا الوثاق على عينيها، سحبوا الرجل ودفعوه أمامهم، ربطوا عبوة ناسفة على رقبته، ثم هتف القائد الأغرّ بشراسة:
- انظر يا بطل، القنبلة في رقبتك وكبسة التفجير بيدي، ستسير حسب أوامرنا، أنت جاهز.
تلعثم الرجل ولم يدر ما يقول، حشد شجاعته وهمس من أعماقه:
- تريدونني درعا بشريّا.
- اخرس، ماذا تقول؟ نحن الجيش الأعلى أخلاقا من كل جيوش العالم.
- وما هذا الذي تفعلونه؟
- شيء من إجراءات السلامة العامة والحماية من الإرهابيين.
وزعق آخر:
- هيّا سر أمامنا وإياك أن تحيد عن تعليماتنا.
وعاد كبيرهم للتوجيه عبر سمّاعة زرعوها في أذن المسنّ.
تأرجح الرجل بين الركام وسار بأقدام واهنة تتحسّس طريقها بصعوبة، أوامرهم تغور في أذنه بقسوة بالغة.
- سر للأمام يا كلب، امش بسرعة، شدّ رجلك، انتبه كبسة واحدة تهوي بك في جهنّم.
صوت طائرات التجسّس تغدو وتروح بأصواتها المزعجة، صوت الانفجارات كبيرها وصغيرها تصخّ الآذان وتضرب بها القلوب الحناجر، لا مفرّ أمام هذا الحيوان البشري أو قل البعوضة من أن يسير أمامنا ويؤثرنا بالموت إن خرج لنا من تحت هذه الأرض المشئومة. أدخله ضابطنا أماكن متعدّدة، كانت حركته بطيئة وكأن جسمه قطعة من الأرض ينتزعها مع كلّ خطوة، رأيت في وجهه كلّ ألوان القهر وأشكال العذاب، رأيت في عينيه الموت يتمنّاه حتى تغيب عن شاشتها.
اشتغل معنا في هذا اليوم حتى المساء، كانت بعوضة ثقيلة بطيئة قد أكل منها الدهر وشرب، ألم تجد شابّا أخفّ ظلّا أيها الضابط العتيد؟ ضاقت عليك غزّة بما رحبت ولم تجد إلا هذا الهرم؟ أم أردت أن تمعن في كيل أشد أنواع العذاب حتى يطال المسنّين منهم، لتقول إنّك قد أدخلت ماكينة عذابك كل أعمارهم، يا لك من ضابط مرهف الحسّ الإنساني النبيل!
بعد رحلة طويلة مع هذا الدليل الهرم عدنا به إلى نصفه الآخر، ثم أصدر ضابطنا أمره لهما بالمغادرة من هذا المكان وأشار إلى الطريق الآمن الذي يجب أن يسلكوه للنجاة بأرواحهم.
عانقت يد الشيخ يدّ محبوبته التي تعلقّت به بكل ما فيها من خوف وحبّ وهلع، سارا معا يتعكّز كلّ منهما على الآخر، لسانها نطق بكلمات على الأغلب أنّها من صلواتهم، واضح أنّه قد أشرق وجهها بلقاء محبوبها وانطلقا يزحفان إلى حيث تأخذهما الطريق. في غزّة لا يسير المرء على هواه وإنما تسير به الطريق على هواها، وكل الطرق تؤدي إلى خيمة على قارعة الطريق أو بقايا طريق.
نهاية الطريق كانت لهم طلقتان وضعتا حدّا لنهاية بعوضتين، كانت هناك دبّابة لهما بالمرصاد، لم يرق له تعليمات الاتصال الذي أتاه من قبل ضابطنا أنّ بعوضتين مسنتين مسالمتين ستقطعان الطريق من الشمال إلى الجنوب، رأى فيهما أنهما أبوان لقساميين ألهبوا ظهروهم بسياطهم: "اقصف البعوض دون أن يرف لك قلب أو رمشة عين. هناك المزيد من البعوض فلا تتردّد يا فتى".
(ملاحظة: استخدم جيشهم تطبيق البعوضة في قطاع غزّة بهذه العنصرية المتوحّشة في مرات لا تعد ولا تحصى)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات الفلسطينية احتلال فلسطين غزة عجوز مدونات سياسة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
في ذكرى وفاته.. كيف كانت وظائف عباس العقاد سجنًا له؟
تحل اليوم ذكرى وفاة الأديب الكبير وعملاق الأدب العربي وأهم الأدباء في التاريخ، الراحل عباس محمود العقاد، الذي رحل في 12 مارس 1964، تاركًا لنا تراثا كبيرا من مؤلفاته وإرثًا ضخمًا من الأدب يعكس نظرته في تحليل الشخصيات.
نشأته ومولدهولد الأديب الكبير عباس العقاد في مدينة أسوان ملتقى الحضارات القديمة والحديثة، في 28 يونيو عام 1889، حيث نشأ وترعرع في أسرة تعشق المعرفة وتتسم بالتقوى، كما نشأ في بيت يملأه الهدوء والسكون والعزلة.
حب الشعر والكتب الأدبيةدرس عباس العقاد في مدرسة أسوان الأميرية وذلك أثناء تلقيه تعليمه الأساسي، ثم تخرج عام 1903، وحب العقاد المطالعة والكتابة فعند تلقيه العلم تأثر بمجلس الشيخ أحمد الجداوي، الذي أنصت إليه في المطارحات الشعرية، كما عكف على قراءة مقامات الحريري حتى أصبح محبًا للكتب العلمية والأدبية، فضلًا عن أن نشأته في مدينة أسوان أثرت خياله وفتحت مداركه منذ صغره.
الوظائف الحكومية للعقاد سجنًا لأدبه وموهبتهالتحق عباس العقاد في بداية حياته العملية بالعديد من الوظائف الحكومية حيث عمل في ديوان الأوقاف ومصلحة الإيرادات في قنا في جنوب الصعيد، إلا أنه اعتبر الوظائف الحكومية سجنًا لأدبه وموهبته، ليقرر بعدها تأسيس جمعية أدبية يمارس من خلالها عشقه وموهبته في الأدب.
العمل في الصحافةبعد تأسيس العقاد للجمعية الأدبية، قرر الانتقال إلى القاهرة وبدء العمل في مهنة الصحافة، حيث كانت بدايته في صحيفة الدستور إذ عمل في إدارة تحرير الصحيفة وذلك مع صاحب الصحيفة آنذاك محمد فريد وجدي، كما كتب في الصحف الأسبوعية والمجلات الشهرية أثناء الحرب العالمية الأولى، فضلًا عن عمله في صحيفة الأهرام وصحيفة الأهالي، واستخدم العقاد قلمه في الدفاع عن الدستور والحياة النيابية والقضايا الوطنية مهاجمًا الملكية.
تجديد الشعر العربيلمع العقاد وأبدع في كتابة الشعر والأدب والنقد والمقال، كما كتب في التاريخ والفلسفة والدين، وقدم العقاد مفاهيم جديدة في الأدب والنقد وذلك من خلال تأسيس (مدرسة الديوان) بالتعاون مع عبد الرحمن شكري والمازني، حيث كانت مدرسة الديوان خطوة كبيرة نحو تجديد الشعر العربي.
كما خاض عباس محمود العقاد العديد من المعارك الفكرية والأدبية مع كبار الأدباء في عصره مثل طه حسين وأحمد شوقي والتي أثرت الأدب العربي بإنتاج غزير من مؤلفاته وأسلوبه المنطقي الذي يعتمد على الأفكار المرتبة.