ليس النّـزاعُ على حـقـوق الإنسان نزاعا حصـريّا بين مَـن يتمسّـكون بها مناضلين عنها بثـباتٍ وإصـرارٍ، من جهـة، ومَن يَعـتسفونَـها ويَـنْهكـون حُرمتها، شديـدَ النَّـهْك، من جهـةٍ مقابلة. قـد يكون هـذا هو النّـزاع الـرّئيس بين المنزوعـة حقوقُـه بالقـوّة -فـردا كان أو جماعةً- والمتسـلِّطِ الغاشم الذي يصادِرها مـن النّاس بالإكـراه، غير أنّـه ليس وحـدهُ النّـزاع الدّائـر عليها في المجتمع ولا هو يُخفي، بالتّالي، أنواعا أخرى من النّـزاع في شأنها تـتوزّع فيها قواها على مواقـعَ متباينة وأحياناً متناقضة في المسألة.
نعْـلم، على القطـع، أنّ نزاعا على مفهـوم حـقـوق الإنسان نَـشب -واستمـرّ طـويلا- بين تـيّارات أيـديولوجيّـة وسياسيّـة أربعـة جـرّب كـلُّ واحـدٍ منها أن يتـمسّـك بمفهومـه لتلك الحقوق ناظرا إليه بوصفه الصّحيح أو، على الأقـلّ، بوصفـه الأَوْلى بالاعتـناء من غيره. هـذه حقيقة شهـدت عليها قضيّة حـقـوق الإنسان في مجتمعات العالم كـلِّها، مع ملاحظة أنّ غلبة مفهـومٍ على غيره من مفاهيـم حـقـوق الإنسان الأربعة هـذه واقـعٌ يُـفسِّـره ما يَحتـلّه في كـلّ منطقة من العالم الكيانُ الذي يُـفْـتَـرَض أنّه مركزُ تلك الحقوق وقُطبُ الرّحى فيها.
والكيانُ الذي نعنيـه، هـنا، هو الكائـن الاجتماعيّ الحامل لقضيّـة حـقـوق الإنسان أو المنظور إليه من حيث هـو الفاعل الاجتماعيّ المُصادَرةُ حقوقُـه والذي ينبغي أن يُـدَافَـع عنها من قِـبَـلِه ومن قِـبَـل مَـن يدعـم حقّــه من القوى الاجتماعيّـة. أمّـا هـذا الكائن فلا يعـدو -في خطابات التّـيّـارات الأربعـة- أن يكون غيـرَ واحـدٍ من هـذه الحدود الأربعـة: الفـرد، الطّـبقـة والفـئـة الاجتماعيّـة، الشّـعب، والأمّــة. وما أغـنانا عـن القول إنّ كـلّ مفهـومٍ من هـذه يكـوِّن نـواةً لأيـديولوجيا من الأيـديولوجيّـات السّياسيّـة الأربع التي تـدخل في معـمعان ذلك النّـزاع على حقـوق الإنسان، مثـلما يـرمـز إلى حقـبـةٍ من حـقـب السّياسـة والفـكـر السّياسيّ في التّاريخ المعاصر.
حـقـوق الإنسان، بالتّـعريف، هي حقـوق الفـرد في الخطـاب اللّيبراليّ؛ فهـو، عنده، مبدأُ المجتمع والوحـدةُ الأساس فيه الذي تعـتـرف به الـدّولة وتَـسُنّ لـه القـوانين وتُـقِـرّ له الحقـوق وتـفرض عليه الواجبات. حـقـوقُه، بهـذا المعنى، حـقـوقٌ مـدنيّـة وسياسيّـة، كانت تـنـتمـي أمـس إلى منظـومة حـقوق المواطَنـة ولكـن صار يُـراد لها اليـوم -في حقبـة الفـردانيّـة العولميّـة- أن تـكون «كونيّـة» عابرة للأوطان والـدّول. في الخطـاب الاشتـراكيّ أو الماركسيّ يخـتلف الأمـر؛ حقـوق الإنسان حقـوق طبقات اجتماعيّـة في الثّـروة (طبقـة عاملة، فلاّحون، طبقـة وسطى، فـئات مهمّـشة...) وحقـوق فـئات اجتماعيّـة مستَحَـقَّـة (نساء، شباب، أطفـال، مستـهـلكون، مهـنـيّـون...)؛ إذِ المجتمع -في هـذا الخطاب- ليس مـؤّلـفا من أفراد، كما يخال الخطاب اللّيبراليّ، بـل من طبقات وفئات اجتماعيّة متناقضةِ المصالح ومتفاوتـةِ المراتب إزاء الثّـروة العامّـة. ولقد وسّع الخـطاب الوطـنيّ دائـرة الجماعة الاجتماعيّـة فانتـقـل بها من الطّـبقة إلى الجماعة الوطـنيّـة ومادّتها الصّلبة (= الشّـعب).
هكذا أصبحت حقوق الشّـعب (= حـقّ تقـرير المصير الوطنيّ وحيازة الاستـقلال والسّيادة مثـلاً) هي جـوهر حـقـوق الإنسان لدى هـذا التّـيّار؛ فيما كان الخطـاب القـوميّ يـذهـب بعيدا في توسعـتـه إطارَ الجماعة الاجتماعيّـة بحيث تُطابِـق حدودُه حدودَ الأمّة. هكذا انتهى معنى حـقـوق الإنسان عنده إلى حيث بات يُـلـحّ على فـكـرة حـقّ الأمّـة في وضع حـدٍّ لتجزئـتها الكيانيّـة واستعادتها لوحـدتها القـوميّـة التي تعـرّضت للتّـمزيق الاستعـماريّ.
مـن البـيّـن أنّ كـلّ مفهـوم لحـقـوق الإنسان، من المفاهيـم الأربعة هذه، يترجم مرحلةً من الوعي الفلسفيّ والسّياسيّ والحقـوقيّ ويقـترن بحوادث العالم الكبرى التي أسّست له وبـرّرتـه. ارتبطت دعوى حقوق الفـرد، في صيغتها الفلسفيّـة- الحقوقـيّـة الأولى (قـ 17 و18)، بالفلسفة اللّيبراليّـة، وفي صيغـتها العولميّة الجديدة الرّاهنة بالنّيوليبراليّـة؛ وارتبطت دعـوى حقوق الطّـبقات والفئات الاجتماعيّـة بصعود الحركات العـمّاليّـة والنّـقابيّـة والمدنـيّة وتنامي الخطاب الماركسيّ (بين نهايات القرن 19 وسبعيـنيّـات القرن 20)؛ فيما اقترنت دعـوى حقـوق الشّـعب بحقبة الاستعمار الأوروبيّ والأمريكيّ واليابانيّ لبلدان الجنوب وصعود حركات التّحرّر الوطنيّ فيها، واقـترنت دعـوى حقـوق الأمّـة بواقعة التّـجزئة الكولونياليّـة التي تـقـطَّعت بها أوصالُ كيانات عـدّة في القارّات الثّـلاث المستعـمَـرَة ونشوء حركات التّـوحيد القوميّ في الجنوب. نحن، إذن، أمام أربعة مفاهيم تـترجم وعي أربعة تـيّارات سياسيّـة وفكريّـة، بل أربعة أجيالٍ من فكـرة الحقّ: الحقوق السّياسيّـة والقانونيّـة (للفـرد)؛ الحقـوق الاجتماعيّـة (للطّـبقات والفئـات)؛ الحقـوق الوطنيّـة (للشّـعوب)؛ ثمّ الحقوق القـوميّـة (للأمم). وهي مفاهيـم تُظْـهِـرُنا على ذلك الذي أسميناهُ نزاعا على مفهوم حقوق الإنسان؛ أي على سعْـيٍ متعـدِّد الأطراف إلى فرض مفهومٍ بعيـنه لها.
هل من تَعارُضٍ، إذن، بين هذه الأنواع من الحقوق التي جرى النّـزاعُ على معناها ويجري، والتي حاول كـلُّ فريقٍ منخرطٍ فيه أن ينـتـزع لنـفسه حقّ احتكـارِ تسميـةِ حقـوق الإنسان وتعيين ماهـيتها؟
ما مِـن تعارُضٍ، في ما نرى، بين حقـوق الآحاد من النّاس وحقـوق الجماعات، طبقاتٍ وفـئاتٍ اجتماعيّـةً وشعوبا وأمما، طالما ظلّ هناك ما يـبرِّر كـلَّ مدافَعَـةٍ عنها. نعم تـتـبرَّر حقوق الفـرد والطّبقة والشّعب والأمّـة جميعُـها طالما ظلّ هناك تسـلُّطٌ، واستغلالٌ (أو سـوء توزيع الثّروة)، واحتلالٌ، وتجزئـة.
إنّها (حقوقٌ) تكون في حالةِ تَعارُض فـقط إنْ أُخِـذَ بها منعزلةً يُـقابِـل بعضُها بعضا. أمّا إن أُخِـذَت مجتمعةً، بوصفها منظومةً غيرَ قـابلة للمقايضة، فـتبدو على نحـوٍ من التّـرابُط والتّداخُـل والتّـضامُن لا لبْس في مشروعيّـته ويرتفع عنها، بالتّالي، ذلك النّـزاع والتّخاصُم الذي يُباعِـد بين حـدودها.
عبدالإله بلقزيز أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وحاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: حـقـوق الإنسان حقـوق الإنسان الاجتماعی ـة اجتماعی ـة الس یاسی یاسی ـة الذی ی
إقرأ أيضاً:
مشيرة خطاب: ما يحدث للفلسطينيين من أبشع صور الإخلال بالقانون الدولي
عقد المجلس القومي لحقوق الإنسان لقاءً تشاورياً تحت عنوان: "أهمية تبني النهج الحقوقي وإدماج القيم والمبادئ الحقوقية في التشريعات الوطنية"، وذلك بحضور نخبة من أعضاء البرلمان بغرفتيه.
جاء ذلك في إطار حرص المجلس على تكريس قيم العدالة والمساواة وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان في البيئة التشريعية، ودعم التعاون المؤسسي بينه وبين السلطة التشريعية وتأكيداً لالتزام الدولة بالمباديء الدستورية والمعايير الدولية لحقوق الإنسان.
وأكدت السفيرة مشيرة خطاب رئيسة المجلس - خلال اللقاء ضرورة إدماج النهج الحقوقي في عملية التشريع لضمان اتساق المنظومة التشريعية الوطنية مع التزامات مصر الدولية وتعزيز العدالة في المجتمع، مشددة على أن بناء منظومة تشريعية تستند إلى مباديء حقوق الإنسان هو أمر جوهري في ظل التحديات الوطنية والإقليمية الراهنة،
وأعربت رئيسة المجلس عن قلقها الشديد إزاء الوضع المؤلم الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، مؤكدة أن ما يتعرضون له من نتهاكات جسيمة يُعد من أبشع صور الإخلال بمباديء القانون الدولي الإنساني ومواثيق حقوق الإنسان.
ومن جانبه، أكد النائب محمد أنور السادات عضو المجلس، أن المرحلة الحالية تفرض ضرورة التكامل بين المؤسسات الدستورية لتعزيز البُعد الحقوقي في مختلف التشريعات، لآفتاً إلى أهمية إرساء آلية دائمة للتشاور بين المجلس والبرلمان ليكون هذا البُعد جزاءاً من التفكير الاستراتيجي في سن القوانين.
وأشار الدكتور مجدي عبد الحميد المدير التنفيذي لمشروع الاتحاد الأوروبي، إلى أهمية تبني منظور حقوقي شامل في التشريعات للنهوض بالبيئة التشريعية وبناء الثقة بين المواطن والدولة، منوها بأنه يجب ألا تكون التشريعات بمعزل عن الواقع الحقوقي بل انعكاساً له، داعياً إلي تفعيل الحوار المستمر مع الجهات التشريعية.
ويأتي هذا اللقاء ضمن عدة لقاءات يعقدها المجلس لتعزيز الحوار البَناء مع مختلف مؤسسات الدولة وتعميق الفهم المشترك حول القضايا الحقوقية، وذلك في إطار سعيه للتعاون المستدام مع المؤسسات المعنية لضمان إدماج القيم والمبادئ الحقوقية في المجتمع من خلال مؤسسات الدولة المختلفة، إيمانا منه بإلتزامه الدائم بتعزيز وتكريس حقوق الإنسان كأساس للتنمية المستدامة.