قسد تعود إلى حضن الدولة السورية: قراءة في الأسباب والنتائج المنتظرة
تاريخ النشر: 12th, March 2025 GMT
شهدت الساحة السورية مؤخرا توقيع اتفاق بالغ الأهمية بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، يقضي باندماج الأخيرة ضمن مؤسسات الدولة السورية، مع تأكيد على وحدة الأراضي السورية ورفض مشاريع التقسيم والفدرلة التي طُرحت سابقا. هذا الاتفاق، الذي بدا مفاجئا للكثيرين في توقيته وسرعة إنجازه، لم يكن سوى نتيجة منطقية لتراكم عوامل استراتيجية وأمنية دفعت الأطراف إلى الالتقاء عند نقطة مشتركة، بعد أن بات استمرار التعنت السياسي خيارا مكلفا، لا سيما لقسد التي وجدت نفسها أمام حائط مسدود.
التحليل الجوهري لهذا الاتفاق يبدأ من الخارج لا من الداخل، فقد بدا واضحا أن تحولات السياسة الأمريكية تجاه سوريا -وتحديدا بعد عودة إدارة ترامب- مثّلت عاملا حاسما في تغيير قواعد اللعبة. الأكراد أدركوا أن الملف السوري أصبح هامشيا في أولويات واشنطن، وأن استمرار المراهنة على المظلة الأمريكية بات عبثا في ظل تقارب شخصي واستراتيجي بين ترامب وأردوغان، ما جعل قسد في مرمى التهديد التركي دون وجود ضمانات حقيقية من حلفائها الغربيين.
ما كان بالأمس ورقة ضغط أمريكية في وجه النظام السوري، أصبح اليوم عبئا جيوسياسيا لا يجد من يدافع عنه، الأمر الذي دفع قيادة قسد إلى البحث عن مظلة بديلة، ولو كانت تلك المظلة هي دمشق نفسها
فما كان بالأمس ورقة ضغط أمريكية في وجه النظام السوري، أصبح اليوم عبئا جيوسياسيا لا يجد من يدافع عنه، الأمر الذي دفع قيادة قسد إلى البحث عن مظلة بديلة، ولو كانت تلك المظلة هي دمشق نفسها.
التحول الإقليمي لم يقتصر على واشنطن وأنقرة، بل شمل أيضا عودة التفاهم العربي السني مع الحكومة السورية، وخصوصا مع الإدارة الجديدة بقيادة أحمد الشرع، التي نجحت في إحداث اختراق واسع في الحاضنة العربية والدولية، رغم كل ما يحيط بها من تعقيدات داخلية.
هذا الالتفاف العربي، بالإضافة إلى صمت أوروبي مدروس حيال تطورات الساحل السوري والقمع الذي شهدته بعض المناطق، بعث برسالة صريحة لقسد والدروز معا بأن مشاريع الكانتونات والفدرلة لم تعد تجد آذانا صاغية، وأن البديل الواقعي الآن هو إعادة التموضع ضمن مؤسسات الدولة السورية.
من العوامل غير المعلنة التي سرّعت توقيع الاتفاق، كانت تحركات ما يُعرف بـ"فلول الأسد" المدعومة من إيران عبر العراق وحزب الله، والتي بدأت تنشط في دمشق والساحل بشكل ممنهج. تزامن ذلك مع محاولات كردية للتقدم عبر سد تشرين، فقوبلت هذه الخطوات بتدخل عسكري تركي مباشر وتلويح صريح بالحرب، ما جعل القيادة الكردية تدرك أن الصدام مع دمشق بدعم تركي يعني خسارة حتمية في ظل غياب الدعم الأمريكي وتآكل التفاهمات الإقليمية.
رغم كل الخطابات العلنية التي توحي بأن الاتفاق تم بقرار داخلي سوري بحت، إلا أن الواقع يُظهر أن واشنطن كانت حاضرة، وإن من خلف الستار. فالمفاوضات بين قسد ودمشق جرت تحت رعاية أمريكية ضمنية، في محاولة لتأمين خروج ناعم لقسد دون أن تبدو وكأنها انهارت سياسيا. وهذا يعكس الدور المزدوج الذي تمارسه الولايات المتحدة: تتنصل رسميا من الملف، لكنها تُبقي على أدوات ضبطه خلف الستار.
النقطة الأخطر في الاتفاق تكمن فيما غُيّب عمدا من نصوصه: مصير مخيمات داعش. مخيم الهول وسجن غويران، اللذين يضمان أكثر من 20 ألف معتقل من التنظيم، لم يُذكر مصيرهما بوضوح. الحكومة السورية طالبت منذ البداية بإدارتهما، لكن الاتفاق لم يحسم هذه المسألة، ما قد يشكّل قنبلة موقوتة قابلة للتفجير في أي لحظة، خصوصا أن المجتمع الدولي يعتبر هذا الملف من أولوياته الأمنية.
واحدة من المكاسب غير المباشرة التي جناها النظام السوري من الاتفاق هي استعادة السيطرة على مصادر الطاقة الحيوية في شمال شرق سوريا، خصوصا حقول النفط والغاز والقمح والمياه. وقد بدأت أولى المؤشرات فعليا بتحركات دولية اقتصادية لافتة: تواصل الحكومة القطرية مع وزارة النفط السورية، وطلب بعض منظمات الأمم المتحدة ملف مصفاة حمص لدراسة إعادة تأهيلها.
قطر لم تقف عند حدود مراقبة التطورات، بل بادرت بشكل مبكر ومسؤول إلى فتح قناة تواصل مع وزارة النفط السورية، في خطوة تعكس فهما عميقا لأهمية استقرار سوريا ومتانة بنيتها الاقتصادية. المبادرة القطرية لم تكن مجرد استجابة لنداء أو ظرف طارئ، بل بدت وكأنها تحركٌ مدروس يُعيد تثبيت الدور العربي في لحظة كانت تحتاج فيها سوريا إلى يدٍ تمتد نحوها لا مجرد بيانات تضامن عابرة. والاهتمام بواقع مصفاة حمص يعزز هذا التوجّه،الاتفاق ليس انتصارا سياسيا بقدر ما هو اعتراف متبادل بالواقع: قسد تخلّت عن حلمها الفيدرالي، والنظام السوري أعاد دمج شريحة كبيرة من خصومه دون معارك. لكنه في الوقت ذاته يحمل بذور توترات مستقبلية في إشارة إلى بداية تحركات جادة لإعادة تأهيل البنية التحتية للطاقة، بما يفتح الباب أمام تحسين إنتاج الكهرباء واستعادة جزء من الاستقرار الاقتصادي والخدمي.
إذا تحقق هذا المشروع، فإن الحكومة السورية قد تتمكن من رفع إنتاج الكهرباء من 1500 ميغاواط إلى نحو 4500 ميغاواط، وهو إنجاز استراتيجي سيمنح دمشق قدرة أكبر على تثبيت سلطتها في الداخل، وتعزيز الشرعية عبر خدمات أساسية طالما عجزت عن توفيرها خلال السنوات الماضية.
الاتفاق ليس انتصارا سياسيا بقدر ما هو اعتراف متبادل بالواقع: قسد تخلّت عن حلمها الفيدرالي، والنظام السوري أعاد دمج شريحة كبيرة من خصومه دون معارك. لكنه في الوقت ذاته يحمل بذور توترات مستقبلية: من سيدير مخيمات داعش؟ كيف سيتم دمج المؤسسات العسكرية دون احتكاك؟ وهل ستقبل أطراف داخلية نافذة بهذا الترتيب الجديد؟
لكن الواضح أن ميزان القوى في سوريا دخل طورا جديدا، عنوانه: "العودة إلى المركز"، بعد سنوات من التشتت السياسي والمناطقي. فالفيدراليات سقطت، والتقسيم بات مشروعا مستحيلا، ودمشق استعادت زمام المبادرة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه سوريا قسد الأمريكية الشرع سوريا تركيا أمريكي الشرع قسد مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحکومة السوریة
إقرأ أيضاً:
ما المعطيات العسكرية التي أدت إلى اتفاق دمشق وقسد؟
قال الخبير العسكري والإستراتيجي العقيد ركن حاتم كريم الفلاحي إن اتفاق دمج قوات سوريا الديمقراطية المعروفة اختصارا بـ"قسد" ضمن مؤسسات الدولة السورية جاء نتيجة لمعطيات عسكرية معقدة تضافرت خلال المرحلة الأخيرة.
وأوضح الفلاحي في تحليل للمشهد العسكري بسوريا أن أبرز تلك المعطيات الانسحاب الأميركي من شمال شرقي سوريا، والتهديد التركي المتصاعد بإنهاء وجود "قسد"، إضافة إلى التطورات الميدانية التي فرضت على الحكومة السورية إعادة النظر في تعاملها مع الجماعات المسلحة خارج إطار الدولة.
وأشار إلى أن انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة شكّل فراغا أمنيا كبيرا، مما جعل "قسد" في موقف حرج، إذ باتت تواجه تحديات وجودية في ظل تزايد الضغوط التركية.
وأضاف الفلاحي أن العمليات العسكرية التركية في الشمال السوري ساهمت في دفع قادة "قسد" إلى البحث عن حلول تحميهم من تهديد أنقرة، وهو ما جعل الاندماج ضمن المؤسسات السورية خيارا مطروحا بقوة.
ويأتي الاتفاق بين دمشق و"قسد" بعد اجتماع بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، إذ تضمن الاتفاق التأكيد على وحدة الأراضي السورية ورفض التقسيم، وضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة السياسية.
إعلانكما نص على وقف إطلاق النار ودمج المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرقي سوريا ضمن إدارة الدولة، إضافة إلى تسليم السجون التي تديرها "قسد" إلى قوات وزارة الدفاع السورية.
تعزيز للقدراتوأشار الفلاحي إلى أن الاتفاق يعزز القدرات العسكرية للحكومة السورية على مستويات عدة، إذ ستتمكن من استيعاب مقاتلي "قسد" والاستفادة من خبراتهم، خصوصا أنهم يمتلكون أسلحة ثقيلة ومتطورة.
لكنه نبه إلى وجود تحديات كبيرة، أبرزها إدماج منظومة القيادة والسيطرة التابعة لـ"قسد" ضمن وزارة الدفاع السورية، بالإضافة إلى قضية توزيع المناصب والمهام بين الطرفين.
وأضاف أن هناك تساؤلات جوهرية تتعلق بمصير الأسلحة التي تحتفظ بها "قسد"، ومدى قبول تركيا بوجود هذه الترسانة ضمن المنطقة التي ستظل تحت سيطرة القوات الكردية بعد الاندماج.
كما تساءل عن مدى استعداد جميع فصائل "قسد" للاندماج، مشيرا إلى احتمال رفض بعض المجموعات هذا الاتفاق وانشقاقها.
وأكد الفلاحي أن إدارة المناطق الإستراتيجية التي تسيطر عليها "قسد" -بما في ذلك المعابر ومنابع النفط والغاز والأراضي الزراعية- ستكون من القضايا الشائكة التي ستخضع لحوار مباشر عبر لجان متخصصة.
وأوضح أن هذه اللجان ستتولى جرد الأسلحة وتحديد الواجبات والمهام التي سيتم توزيعها بين الطرفين، إضافة إلى حسم مسألة دمج بعض القوات وتسريح أخرى وتحويلها إلى قوات مدنية خارج إطار وزارة الدفاع.
تحديات لوجستية وتنظيميةوبشأن عدد مقاتلي "قسد"، قال الفلاحي إن التقديرات تشير إلى أنه يتجاوز 100 ألف مقاتل، مما يجعل عملية دمجهم تحديا لوجستيا وتنظيميا هائلا.
ولفت إلى أن المناطق التي تسيطر عليها "قسد" ذات أغلبية عربية، وهو ما يزيد تعقيد التفاهمات بين الطرفين.
ويرى الفلاحي أن نجاح الاتفاق يتوقف على طبيعة التفاهمات التي سيتم التوصل إليها بشأن مستقبل "قسد"، والامتيازات التي ستحصل عليها مقابل الانخراط في المؤسسات السورية، بالإضافة إلى آليات التعامل مع التحدي التركي وضمان عدم استخدام الاتفاق ذريعة لأي تصعيد إقليمي.
إعلانوتأسست قوات سوريا الديمقراطية بدعم أميركي في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2015 في محافظة الحسكة بسوريا لقتال تنظيم الدولة الإسلامية.
وتتألف القوات بشكل رئيسي من وحدات حماية الشعب، وهي القوة الكردية المسلحة الرئيسية وتعد العمود الفقري لـ"قسد"، كما تشمل وحدات حماية المرأة، وهو جناح عسكري نسائي مرتبط بوحدات حماية الشعب.
وتضم هذه القوات فصائل عربية وسريانية آشورية انضمت إلى قسد لتوسيع قاعدتها الشعبية والعسكرية، خاصة في المناطق ذات الأغلبية العربية.