جريدة الرؤية العمانية:
2025-03-12@14:10:43 GMT

قصة الوادي الصغير (26)

تاريخ النشر: 12th, March 2025 GMT

قصة الوادي الصغير (26)

 

 حمد الناصري
 
استطاع ديفيد يوسف كبير رجال رملة ياكوف التفاهم مع "عِويق" واستثار عواطفه وحّوله من رجل هادئ ومُتصالح مع نفسه إلى رجل غاضب وحاقد:
 
ـ نحن معك يا " عِويق " وسنمدّك بقوة من عندنا، ونحن لا نُريد مَنعك عن كثبان رملة ياكوف، فأنت منها، ولكنّنا نريد توجيه ضربة قوية لأبناء عُمومتك وأحفادهم الذين انحازوا إلى قسمة الميراث الذي تركه جدّكم الأكبر وهْران، فالإرث يُوزّع بينكم بالتساوي كما في عاداتكم وتقاليدكم من قبل أن يظهر هؤلاء ومن قبلهم، آبائهم خلصوا نجيّاً لتكون قسمة ضيزى بين الأخوة، فأنت ثالث الأخوة الرجال وأخت واحدة، أليس كذلك .


 
ـ هزّ "عِويق" رأسه إيجاباً.. بـ نعم. وسكت ولم يبزم.
 
ـ إذن ما فعله أولاد وهْران في قسمة الميراث باطلة. أعني هذا وِزْراً وظُلماً يتحمّله كبار آبائكم، الأمر مُعقّد وصَعب.. دعني أحدّثك لتفهم أكثر.. جدّكم الأكبر هو وهْران، والأعراب يَلتقوا عند وهْران الذي هو الجدّ الأكبر للأعراب وأولئك ـ الأعراب ـ يَلتقون بجدّنا الأول في النسَب، ويعني ذلك أنّكم مِنا ثمّ خلسَ أحد آبائكم عن الحقّ والصواب وحادَ أبناءه عن جادّة الصواب طَوعاً، وهذا الإبن يُقال عنه بأنّه رجل شُجاع، لكنّ مَقدرته على الخِداع عالية إلى حدّ كبير، وبذكاء مُخادع، استلبَ أخويه وخادعهم وتخلّسَ ميراثهم.. انظر إلى هذه القصة يراها بعض أنّها من سداد المهارة والخِفّة، ويراها بعض آخر من الإستلاب والخديعة، فالسرقة في غفلة ليست مهارة ولا هي سَداد وخِفّة تصويب، ولكنّها مُخاتلة تخطف النفوس وتسلبها حقوقها، كما الموت يُخاتلكَ على غفلة ثم لا تكون بيننا.
ومرة أخرى أعود إلى تلك القسمة غير العادلة، قسمة ضيزى فيها غمط الحقوق.. وخُذ مثالاً آخراً في قِسْمة ضيزى لأولاد زهران؛ إذ كان من نصيب أولاد زهران استلاباً الساحل وقَعْدة أولاد زهران والجُزر الصغيرة والممرّ المائي للسفن والرمال الغربية التي هي في الأصل لنا وجدّنا الأول فصّلها لنا وقال كلمة تاريخية " حقّنا من الماء إلى الماء، عذباً ومالحاً، وتلك هيَ حدود ياكوف وقد أمرنا بها ودعانا لنهتم بها عاجلاً أو آجلاً.. اعملوا آل ياكوف ما دُمتم باقيين وإنْ ضعفتم مرّة، فإنّكم في المرّة الأخرى أنتم الفائزون، حاولوا ثم حاولوا فالنجاح في المُحاولة والتكرار".
وقد قال خير الأقدمين من الرجال: إنّ ياكوف له من الذُرّية كالجراد المُنتشر في كل البقاع والأصقاع وفي الرمال والبحار وفي الجبل والسهل، ولن أحدّثك عن وادي الرمال، فذلك الوادي كلّه لأبناء ياكوف إلا القليل من الأعراب والبدو في الوادي الصغير وفي الحارات والساحل والكثبان والرمال الغربية والشرقية وأحياء البدو.
وفي نصّ يُتلى بعقيدة راسخة " الجبال تدمع إذا رأت ياكوف وتنزل إلى مستوى قدم ياكوف لكي يَمشي عليها، فتحملها وهي في مسرّة من نوره الذي فارقها ".
وحين يذهب إلى الرمال الذهبية يتمنطق ياكوف حِزاماً، تلتف حول خاصرته والنّبال عليها، وقيل أيضاً: بأنّ ياكوف حدس البصيرة، مُقاتل وشجاع ولكنه رقيق المشاعر لطيف بهيّ المُحيا، إذ اكتملت كل الصفات النبيلة فيه.
وأحدهم عبّر عنه في كتاب، أسماه "رحلة ياكوف جدّنا الأوّل" كان ياكوف كشجرة مُوغلة الثّمر، وكان أبوه الأوّل، مُوغل في قِدم البشرية، ساعد الكثير من الناس على تطهير جِنس الأعراب، وصَبر على أذاهُم وما آذوه به، ولكنّه ثبت بعزم الشجرة المُثمرة، تلك الشجرة الأقدم في تاريخ بشرية ياكوف وما قبله، كُل ذلك في سبيل بقاء الحق وإظهار نور الشمس وسُطوع بشرية ياكوف من نورها كتلألؤ الثّمار.. ياكوف هو ذلك الأب العظيم الذي ترك لنا إرثاً لا يزول؛ حُبّ البشرية وتطهير الأعراب. ولا ريب فنحن نتحمّل مساوئ أعراباً كان نصيبهم تقاسم الحياة معنا، لنطهّر عقولهم وليس بالأمر السّهل صُعود الجبل لكن النزول منه أسهل بكثير، هكذا أمرنا أبونا ياكوف الخالد، وأخبرنا عن حكاية الرجلين الذين صَعدا الجبل العظيم، جبل الربّ الأعلى، فمات أحدهما وبقي الآخر في اللحظة الأشد إلى البقاء ولأنّ ياكوف ألْيَن البشر ، وكان أباً نقيّاً ، صافي السريرة.

اسمع يا "عِويق" أقرباؤك وأبناء عُمومتك قد خلصوا نجيًا إلى حِرمانك من أموال ومُدّخرات الرمال والبحر، فجدّك الكبير من أبيك جعل لكل من أبنائه وأحفاد أحفادهم نصيب من ذلك كله، لكن أقربائك الذين تعتزّ بهم لم يجعلوا لك نصيبًا منها، والسبب أنّ أمّك من أملاك جدّك، أو كما تُعرف لديكم، مِمّا ملكت اليمين، أيّ أنها خادمة أو مُلك يمين يَستعبدها مالكها "جدّك وهران" كيف يشاء.
وبالتالي فالرمال الغربية وكذلك الرمال الشرقية كانت تُعرف لدى أبناء ياكوف بـ أعالي الرمال لأنّها كانت رملة واحدة "رملة ياكوف" والكثبان التي أنت عليها الآن من رمال ياكوف وهي مُلكاً لنا وتُعتبر من ضِمن حوزتنا وأملاكنا وكُلّ ذلك مُوثّق تأريخياً ، وأقول لك: نحن لا نُملك لك شيئاً، إذ حرمَك من تَنتخي بهم؛ أقرباؤك وأبناء أعمامك وأحفادهم وأعراب الرمال ، عُرباً لا أخلاق لهم ولا ثقافة حتى في ما يُؤمنون به ، زوجة أبيهم ظنوا بها سُوءاً  ورَووا قُبحاً في سيرتها وشكّوا في سُلالتها ،حتى اسمك لم ينل شيئاً من برّهم، دُعيت بـ عِويق، والأصل هو عائق كما سمّاك أبوك، أيّ المانع أو الرجل الذي يقف عَقْبة في طريق غيره ويُشغلهم.. أمّا اسم "عويق" فهو الذي به عِلّة أو عُوق ولا خير ولا أمل فيه، كالمريض الذي لا يُرجى برئهِ وشفائه، وعِويق هو ذلك الاسم الذي يُعبّر عن العجز، ولا أحد من قومك تجرّأ وحدّثك عن اسمك الحقيقي غير أنا سيّد ديفيد يوسيف من قوم هاد من بني ياكوف الأكبر.. وهذا اسمي لم يكن بـ عائق لي أن أذكره أبداً.
أمّا أنت فعاجز عن ذكر اسمك الكامل لأنهم جعلوك وضيعاً بينهم وابن سوداء ومُلْك يمين وجارية وخادمة لكبار الأعراب.. ومنهم أبوك من ولد مَهران غير الشرعي للجد وهْران، ولأبيك مَهْران أولاد وبنات كُثُر، فأين هم الآن؟ قتلهم ابن عُمومتك انتقامًا من أبيهم بزواجه من امرأة سوداء كانت جارية عنده. ويُقال أنّ مَهران سار إلى رمال " مَجدولة " وهذه الرمال أقرب إلى رمال ياكوف من جهة الغرب وتُعرف بصحراء رَجْبة. أي الصحراء بها رجوب يُفزع البشر إذا استمروا في المشي عليها، ثم يخرج شيطان من بطنها فيقتل كلّ نفر من ذي البشرة السوداء.
نحن لا نعرف فلسفة الخبَر، لكنّنا نعرف حقيقة موت أبيك الأكبر ومعه من الجواري السوداوات كُثر، ونعرف بأنّ رمال رَجْبة قد ابتلعت من ضلّ طريقه فيها، أو مِمّن كانوا على سخط وغضب من السماء.. فيا ابن مَهْران نقول لك كلاماً أخيراً، يكفيك ما جاءك من أبناء عُمومتك وأحفادهم الذين غدروا بك وخانوا أمانة جدهم الكبير، وتركوك وحيداً بلا رمال ولا بحر ولا سُكنى ولا حتى قوامة رجل وتُوصف بإبن السوداء. 
وصْفاً مُشيناً وتوصيفاً يُقلّل من شأن قوامة الرُجولة.. تقليلًا من مكانتك ولتكون مَنبوذًا كحال أولئك الذين يفرّون من ديارهم قسْراً وقهراً، وإنّا نؤكّد لك، فإنْ رضخت لأمرهم وتقبّلْتَ ظُلمهم ورضيت بأنْ تكون ضعيفاً مقهوراً ومنبوذاً فاراً من قومك وهارباً إلى قوم آل ياكوف، فالأمر خطير والأسلوب مُهين. حتى أصحاب رملة الرّجْبة لم يقبلوا بك وبشرتهم أقرب إليك، وهم يعتصمون بـتلٍّ مبارك عظيم الشأن، يُعرف بجبل براح، ويتوسّلون فوق حجارته غير الصّلدة لأجل عطاء الربّ الأعلى، ومن دونه سفح أحجاره ليّنة تستطيع المشي عليها لكن الرياح الشديدة لا تنقل الحجارة السهلة من مكانها وإنْ كانت عاصفة شديدة. فعدم نقل الحجارة أو تصريفها في شدّة الريح العاصف لها دلالة على عظمة الجبل وشأنه، ويُقال: بأنّ جبل "براح " رمزٌ أو دليل على الشيطنة، وقد عُرف ذلك الجبل بتسميته بجبل براح، نظراً لما يتناقل عن الجبل وشيطتنه؛ بأنه وفي الزمن البعيد لا يُعرف مداهُ الزمني ولا تاريخ له، لكن هناك حكاية أكيدة مفادها أنّ ملك عظيم طُرد من نعيم مُقيم في سماء العليم، ونزل إلى رملة رَجْبة حاملاً العذاب والجحيم.
وذلك الملك على أرجح الحكايات هو الذي أقام الجبل، والدليل على ذلك فإنّ الجبل حجارته لم تكن صَلدة كالجبال الراسيات بل هو كانت ليّنة، يتبيّن أنّها حجارة نُقلت وصُرفت في المكان وتناثرت على وجهه ، ولكنّ الذي يُحيّر ذلك التصريف هو أنّ الريح تقف عاجزة عن تصريف رملة رَجْبة  إلى جبل براح فتطمره او تُدمّره ، بل هيَ تأتي سهلة ليّنة وهواؤها جاف تتقبّله الأجساد ، لا رطوبة فيه ولا لزوجة يتقزّز منها الساكنون، والملك على أرجائها لم يَبرح الجبل بتاتاً ، واعتصم بالجبل وسُمّي الجبل بجبل براح، وكما يبدو أنّ الملك له أسماء مُتعدّدة ، أو هو اختار اسم "براح" ليكون إعلاناً عن تخلّيه عن اسمه الحقيقي في السماء.
لكنّي أرجّح القول: إنّ الملك " براح" كان يخشى من ملك كان يتبعه أينما سار وحلّ وذهب، ويُقال: إنّ الملك "براح" أبقى على أطراف سهل الجبل الذي أنشأتهُ تكوينات رملية صلدة وطينية وهو قام بخلطها بالماء وشيء آخر، ولم يُعرف حتى الآن سرّ الخلطة التي أبقتْ الجبل شامخاً لا يتزلزل، فجائحة حلّت بالمكان لم تبقِ ولم تذر شيئاً أبدًا غير الذين اعتصموا بالجبل.. حتى السُيول لم تجرف حجارته رغم سهولة جرفها ، هنا يتكوّن السرّ العظيم الذي نزل به الملك "براح" . ووفقاً لأحداث وقعت على أطراف الجبل، وبين جانبيه شقّين كبيرين، كأنّما الأرض تشقّقت وانفصلت منذ قديم الزمن، والجبل في وسطهما لم يُحركه ساكن، حتى جاء ما يَخشى منه الملك "براح".. فذات صباح مدّ ناظريه إلى سفوح السهل المُتسع، فرأى ما يُخيفه ويَخشى منه، رجل كان يتربّص به، وتوعّده بالقتل، وحيث أنّ الملك براح لا زوجة له، فطلب من الربّ الأعلى ذرّية يستعين بها من شرّ ما يُخيفه ويخشى منه، فأمره الربّ أن يمزج ماء السهل مع طينة الوادي الواقع عن يمينه ولا يلتفت عن يساره، فذاك الوادي لخصمه "ليشح" الذي هو عدو له، اختار أنْ يكون معه، وفرّق بينه وبين ذرّيته الأولى، ولكن "ليشح" فاجأ الملك براح بزوجه الأولى التي لا ذرّية لها ولم تنجب له أحداً طوال مُكوثها معه. فساوم " ليشح " الملك براح، على أن يَسكن السهل تحت أعمق جبل، ويَنصب لنفسه خيمة ويتعهد الملك أن لا يُعاديه علناً ولا يطرده، مُقابل تسليمه زوجته السماوية التي لم تنجب له، وكان الملك براح يُحِبّها، فتقبّل الفكرة ورضي الملك براح على أن تكون أوّل صَفقة تأريخية بين ليشح وبراح منذ القِدم.

قاطع "عويق" مُحدثه ديفيد يوسيف بعجالة:

 
ـ لا أعلم لِمَ أنت كثير الحكي، فسردك لا واقع له على الأرض، فمنذ متى وأنت تُشرع في الحديث ولا تتوقّف، تقحمنا في أحاديث وتُرمينا بلا هدف ولا رؤية، ليس بيني وبينك إلا الوُدّ والقُربى والمعرفة الجديدة بكم، فلماذا تُقحمني فيما لا يخصّني.. ألا ترى أنّها حماقة غير مُنضبطة منك؟ حتى لو طوّحت رأسك في وَهْدة مُفردات لها إنسيابية ورِقّة كما لو كانت مُضغة من عسل مُصفّى بلسان حالكم، فقد قصصت لنا من المَهد إلى اللحد قصّة حياة لا طاقة لي بها، قصص وأحاديث وحكايات لا غاية لي منها ولا هدف.
ولم يتبقَّ إلّا أنْ تدعونا لنحتفل معك لإحياء ذكرى السيّد الذي سقى البنتين والعجوز مُقابل أجر عمله، فصنع ما صنع من العهد والثبات والالتزام ما صنع، ذلك الأجر جاء تكريماً لمشية فتاة رقيقة ، حسنة الوجه ، اكتست بحلّة من الحياء في مَشيتها وفي سلوكها وتصرّفها، حتّى أنّ اختها شبقتْ بالرجل الذي أدّى العهد لرجل أشيب صادق وأمين فرفض الشيخ العجوز إلا أنْ يجعل ثمن أجرهُ الفتاة الراشدة التي جاءته تمشي على استحاءٍ ولم تكتمل ثمرة نضجها بعد، وكتمت في نفسها متوعّدة في سرّ غامض لم يكشفه أحد غيرها، وقالت لأبيها لا أقدر على رعاية زرع كثير وبُستان كهذا، فلمن تُورّثه من بعدك؟، وألمحت البنت الصغرى إلى بيع البستان للرجل الشاب ذو البشرة الحِنْطيّة، ازداد بها جمالاً ونظارة .. وذلك لبقاء الشاب ناضر إلى زرعه ولا يُغادره، وليدوم شبَقها يتعاظم فيه، وقد فطنت الكبرى لحال أختها ، وحثّت زوجها بعد وفاء العهد ، فالزرع استوى وزاد المقدار وتنوّعت الثمار ، فبعد حصاد ودأبٍ وديمومة عمل وجُهد ، طلب الشاب حنطي البشرة مُغادرة الكثبان إلى تلّ سلام بوادي العجوز.
إلا أنّ الصغرى أرجأت الطلب وحثّت والدها العجوز على فعل الخير، وقالت: طالما الشاب وقور وهادي، وأهديته أختي لتكون زوجة له، ولم يبقَ غيرنا، فأنا أرى أن تبيع البستان للشاب لكي نضمن بقائه معنا، فنكسب الحجر والعصفورين، بدل أن نضرب العصفورين بالحجر.. وفهم الأب الرؤوم باللغة الثقيلة التي تُشير بها البنت الصغيرة.. فردّ عليها، قائلا: على رِسْلك يا بُنيّتي، فكلّ شيء يجري لا يَنجي أحدٌ من قدره. فقطعت على أبيها حديثه وانسلّت وتبعها العجوز، وقال ما بال صغيرتي على غير عادتها.. فالتفتت إليه، وقالت: أبي؛ أنّ الشاب لا يزال في نظري صبيّ غِرّ، لا خبرة له، أخشى أنْ يُخدع وهو في طريقه إلى وادي العجوز، فالنية الصادقة لا تشفع في كثير من الأوقات، ولا يُعتد في أمانته طالما لم تُكشف بعد، والتجربة خير بُرهان وهو أن يعمل عشر زروع بفصولها الأربعة أيّ يمكث في خدمتنا سنتان ونصف وبذلك يتجاوز حدّ غِرّ الشباب إلى النضوج وبذلك يتوسّط سِنين العِزّ الحادي والعشرين، سِنين لا خطأ كبير فيها، يسكن العقل ويستقرّ فيها الفِكر، لا تتركه يُغادرنا، فلمن يترك ابنتك إذا أراد السفر؟ وكما يبدو أنّ هذا الشاب الحِنطي له تجربة في كثبان الرمال الناعمة.. فتمسّك به إنّا هاهُنا لوحدنا.. فقد قصّ علينا القصص، وقال: صعدتُ جبلاً خفيفاً ورأيتُ الجبل آخذٌ في الأسْتواء، وسمع صوتاً شديداً.. اخلع.. اخلع. ونظر إلى نعليه فرأى بها شيء مِمّا يَكره، فخلعها ثم قال له الصوت: امشي صُعوداً إلى الجبل، فإن تحقّق لك ما تريد، فذلك ما تستحق، وإنْ سار بك الطريق طويلاً وأنت تصعد الجبل فإنّ العودة إلى السهل خير لك.
 أتذكر أبي حين سألته، هل ذاك هو أنت؟ فقال نعم؟ فهمست في أذنه فابتسم، وقلت ساعتها طُوبى للساعين صلاحاً ووفاقاً.؛

 فهزّ أبوها رأسه إيجاباً، أنْ نعم.. حكّ العجوز شُعيرات رأسه وقد ضمّخها بلون الزعفران وأردف قائلا:

ـ إنّ الكيد لظلم عظيم.. إني أعظكما أن تكونا في وضع مُستقرّ، فلا تظلمنّ أنفسكُنّ ولا تقُمن بأفعال حاقدة، وانظرنَ في حالكما من بَعْدي..  وادفعنَ سُؤالكما إلى من يستحقّ السؤال.

 
صرخ ديفيد يوسيف كالمذعور.. وقد برزت عينيه إلى الخارج مُندهشاً:
 
ـ يا إلهي كل هذه المعلومات لديك، وقد كنتُ لك من الزاهدين، لقد حرصت طوال معرفتي بك بأن أكون كارهاً للذين يَحقدون عليّ وعلى قوم آل ياكوف.. لكنّك علّمتني شيئاً لن أنساهُ أبداً؛ أنّ الحبّ أساس التعامل، وأنت تعاملت بحبّ مع بني ياكوف، ونحن معك قلباً وقالباً، وسوف أبلغ قادة رمالنا بأنْ ندعمك كقوة حتى تأخذ حقوقك كلها. فلا تجعل من نفسك أداة تُهين بها نفسك، والساكت عن الحق شيطان أخرس؛ هكذا تقولون، ونحن نقول السكوت ظُلم، وتلك الحكاية التي سردتها بها ضعف كبير ومُنكر من القول، وزورٌ وتستّرٌ عن بيان الحقيقة.. كما أنّ السكوت ضعف.. ومن لا يقف على أصله فقد ظلم نفسه.
لا أعرف بالضبط ماذا تقصد بالظالمين، فهل نحن ظالمون أو هُم؟ وبالتالي؛ لماذا تُريد أن تظلمنا، فتلك أملاكنا ورّثها لنا آباؤنا من آبائهم وامتداداً لأجدادهم الذين لا يتسع المجال لذكرهم، أنّنا نملك أقصانا ونشرف على شرقنا "من الماء إلى الماء عذباً ومالحاً ". فإن حثثت السّير في الطريق، وشعرت بالأمان، فليس ذلك من سلامة الطريق وإنما هو من نفسك وما أُحِيْطت به خُبْراً، ظاهراً وباطناً، ونحن قوم هادْ أو كما تقولون قوم هادو، أو قوم هادِنْ، كما نتمنّى وكما اشتهينا يَسِر الأمر طائعًا حثيثاً وإن أحيطت به خطيئته، فقد يأتي يوم حسَن جميل وتذهب خطايانا. أمّا أنتم فلا طِيْب ولا أثر، لماذا؟ قد تسألني أو يسألني غيرك، فأقول: إنّ قوم هادو صَبروا وأحيطوا بخبر ذلك الصبر ونتائجه استطاعت أن تجعل قوم هادوا مُفَضّلين في كل شيء. لا أقول ذلك، وأشعُر بالذنب، فأنا لا ذنب لي، فـ "هادْ" جدّنا الأكبر قد حملها عنّا وتحمّلها بإحاطته بها.
وعليه أرى ما لا تراهُ مُقنعاً، ولا أتساوى مع الذين ظلموك من أقربائك الأعراب وأبنائهم وأحفادهم، وإن رضيت مُكرهاً لظلمهم لك فلا تُلزمنا بما ترتضيه، ونحن غير مُلزمين بما يُرضيك، والقاعدة تقول لا إلزام للغير بما لا يُريده.

ومن هنا أحدّثك، فالأمر قاسٍ وصَعب، ورغم ذلك فإنّنا نُعرض عليك تعاوننا في كل شيء ، ولكنّنا لا نقبل على أرضنا ورمالنا ولا على بحر المرجان أحداً من الأعراب ضعيفاً أو ذا شيطنة شُقْراً أو سُمْراً، فبحر المرجان هو مُلك لآل ياكوف منذ القِدم، ومن ضِمن وصاياه الحادية عشرة المُوثّقة: "من الماء على الماء عذباً ومالحاً " نعم طُموحنا لا حدّ له ، وكلّ قولي يُفسّر بعضه، ولا يحقّ لأحد أنْ ينقص منه شيئاً أبداً ..القاعدة الصحيحة للسلام بيننا تحقيق الهدف "من الماء إلى الماء " وبلوغ الغاية أيّاً كانت أو كان ذلك الماء ، عذباً أو مالحاً من البداية حتى النهاية .. ولك أن تعرف تفاصيلها ـ الهدف والغاية ـ فالماء العذب مَصَبّ النهر والغاية انتهاء حدّ الماء عذباً مِثله، أو حتى يكون الماء مالح، فالعِلّة هنا تأتي بالمَعلول، مُقيّداً أو مغلولاً أو مُحرراً أو مُطلقاً، ردّد معي: " من الماء إلى الماء، عذب ومالح " إذنْ نقول من بحر المرجان إلى بحر الأعراب الكبير" هذا الماء المالح " أما العذب؛ فمن أقصى رمال ياكوف غرباً مروراً بجبل براح المقدّس إلى الرمال الشرقية والكثبان الذهبية إلى أقصى ماء كرّار. وماء كرّار أنت تعرفه أكثر مني لكونك من الأعراب، فـ "كرّار" عاش في رمال الأعراب، اغتصبَ يوماً، فهجره كثيراً من الناس، ولأنه من قوم هادو، فزع إليه رجالنا، فحثّوه على السباحة في الماء العذب، ويُعرف لديكم بالنهر وقوم هادوا يُسمونه بحراً، والسبب في الاختلاف أننا نرى فيه حوت، والبحر مَنبع الحوت.. والأعراب يُسمون الماء المالح بحراً والماء العذب نهراً، بينما كلا المائين يتولّد فيهما الحوت ويُطلق عليه لغةً "صَيد البحر" ولا يُقال: "صيد النهر".
 
    قاطعه "عِويق" مُستغرباً وقد اتّسعت عينيه إلى الملأ البعيد، وأردف قائلا:

ـ أيعقل أنْ لا يكون بينكم خائن وخونة.؛ لقد تحدّثت كثير يا "ديفيد يوسيف " وكل المواقف التي طفت عليها لم تكن مواقف مُحايدة ولا هيَ بمواقف مُلتزمة.
والسؤال البديهي، هل كان آباؤكم لا يفقهون شيئًا ولا يَعلمون الحقيقة عمّا يفعله الأعراب في رمال ياكوف؟ ولم يشكوهم أحداً من كبرائكم وكبار رجالكم قوم هادو. ولم تستيقظ عقولكم ولا شكّكت أفكاركم وكنتم طُول هذا الزمن الكبير والبعيد في غفوة وفي سُبات.
 
ـ لا ليس ذلك أبداً.. كانَ سُكوتنا صَبراً وتهيئة حتى يحين موعد النصر وأخْذ الحق بثقة العقل والتدبير. ألم تعلم أننا أنقى بشر تخلّق في قلب السماء، وعُرفنا في التكوين بالأنقياء.. ألم تعلم أنّنا كُنّا وما زُلنا أصفى الناس، بل أنّ قوم هادو أطهر من الرمال.
 
ـ اسمع يا ديفيد يوسيف، كثرة الجدل لا يُوحي إلى المعرفة، فالسماء لم تُورثكم الرمال ولا البحر، ولم تمنحكم أقداركم دياراً وأموالاً، ولكن السبب كان في أنفسكم، فكنتم مغارسًا للمال. قدّستموه بشحّ وتقتير، حتى صرتُم لا ترعون الحقوق ولا ترعون واجباً ولا تُؤمنون بالسلام إلا من خلال المزيد.

 
ـ افهم يا عِويق، نحن آل ياكوف صفوة الناس، قيل عنّا وصْفاً الأخلّاء يومئذ في صفاء وكمال.  وأزيدك قليلاً، ذلك النقاء امتداد إلى ما لا نهاية.. والسماء ناضرة بما يتخلّق على الأرض، وقد هُدِيَ الشاب الذي عمل لأجل زواجه من ابنة العجوز إلى جبل، فتمثّل له الجبل نوراً فاهْتدى به. وحين سار في الرمال لم يكن لأحد أن يَدلّه ويرشدهُ عليها وإنّما النور بقيَ شُعلة في نفسه، فأضاء له المكان واستقرّ.
والربّ الأعلى في السماء العالية، أراد لنا الرجوع إلى ذلك النور لنهتدي به ولنستقر في الرمال والكثبان في السواحل وفي جبال البحر، وكأنه يُوجّهنا إلى شيء غفلنا عنه " كما بدأتم تعودون " أنقياءً وأصفياءً للناس، رغم معرفتنا بأنّ فئة من الناس، لا نقاوة لهم ولا صفاوة وهُم ضدّنا منذ التكوين الأول حين مارسوا التقسيم من أولاد الرجل التائه والذي خرج مطروداً من النقاوة والصفاوة إلى مكان لا صفوة فيه ولا نقاء.
ولمّا أراد الرب الأعلى تقسيم الكون، وباشر التكوين، انقسم الكون وتشطّر على ثلاثة لا غيرهنّ.. السماء مُلك الربّ الأعلى والبحار العميقة من نصيب الصبي الأعمى، والثالثة أهدى الرمال والكثبان والبحار العميقة وقسّمها إلى سبعة وجعل بحر المرجان كنزاً ولآلئ في قيعانه وعرض جبالاً للساكنة والوديان والعيون والأخوار للأقوام المُستضعفة والكهوف والكنوز والثمار للأعراب الفقيرة.
وأمّا عن الصبي الأعمى، فإنْ هو عبس وبسَر، ردّ الربّ بصيرته إليه ، ونظر إليه ربّه وأرشدهُ وتخيّر ، ورأى الماء الزُلال في العُمق  ، ومدّهُ إلى القاع  فيرى الماء المالح وأعماقه وامتداده ، إلى أقصاهُ شرقاً أو غرباً  ، وكان البحر هجعة ، تُعرف بهجعة الملك الأعمى ، يُغرق من يشاء فيه ويُنجي من يشاء بقدرته وإذا أبْصَر ورضيَ وامتدّ نظرهُ وصوّب هدفه ، أدار الكون بحكمته ، وإنْ عبس وغضب ارتجفت الأرض ولانت الجبال طوعاً.
ذلك الصبي الأعمى من جُذور الرجل الذي نعرفه اليوم بـ هادو، وكان اسمه الحقيقي نور الهُدى، ذلك الصبيٌ خُلق من نور صفوة البشر، ونقرأ في الأثر البعيد أنّ أعرابياً عطش عطشاً شديداً وشارف على الموت، فقدّم له نور الهُدى مَذقة من شراب مُصفّى فأنعشت جسده ونشّطت روحه، وعاد الصبي الأعمى وكرّر الفِعْلة مرة أخرى، فمزج لبن وماء وسقاهُ بيده وأقعده على مرتفع رملة صغيره، وقال له انظر إلى حدّ الشوف، وقُل ماذا ترى؟ ومدّ الاعرابي بصرهُ إلى أقصى شرق الرمال فرأى بحرا عميقاً وزاد من مدّ بصرهُ إلى بحر الظُلمات وامتداده وقال هذا لك، وبارك للأعرابي أياماً سعيدة، وطبطب عليه قولاً جميلاً، وقال، كُن في وئام وسلام، وكُلْ وقومك من ثمرات الربّ الأعلى، ذلك رزقٌ لكم ولا تبطروا، فالبَطر دناءة الحَمقى.. ذلك خيرٌ لم نُعطهِ مثلما أعطيناكم، ثمار وحصاد وزروع وكنوز، ورمال وبحار لم تهب السماء مِثلها لأحد غيركم..

 وفي هذه الساعة، توقف الأعرابي واسترجع بصره ورفرفت عينيه ورأى جحش صغير، واقترب منه وركب فوقه وسار به الجحش إلى أمكنة لم يكن يعرفها من قبل، ودار حول بُقعة جُعلت له مُستقراً يتكاثر فيها، ويموت فيها، وتكون له مرجع لا يستقرّ فيه أحد، والرجل الغابر عُرف بها ودُفنَ فيها ولم تكن له مُستقراً، ذلك المكان المُفجع حالكاً بسوادٍ ارتبطت به، لتكون أقرب إليه، ذلك المُستقر هو وادي الأعراب.

يتبع 27

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

أمن الوادي يوجه نداء للجمهور

أنهت مصالح أمن ولاية الوادي وباذن الصادرة عن نيابة الجمهورية لدى محكمة الوادي. عن توقيف شخص ونشرت صورته.

ويتعلق الامر بالمدعو ” ز ف” على خلفية قيامه بالنصب على المواطنين.  وإستعمال مختص بمهنة منظمة قانونا الذي راح ضحيته عدة أشخاص .

ودعت المواطنين الذين يكونوا ضحايا لذات الشخص او شهود عن وقائع او يملك اي معلومات، على المستوى المحلي او الوطني ضرورة التقرب من اقرب مقر الأمن .

مقالات مشابهة

  • 3 طرق سهلة لتحضير الخروب في رمضان.. ونصائح لضمان مذاق لذيذ
  • الأمطار تُغرق شوارع سلا والسكان يتنفسون تحت الماء
  • أمن الوادي يوجه نداء للجمهور
  • "الرمال المتراكمة تتسبب في حادث مأساوي".. مصرع سيدة وإصابة 3 في انقلاب سيارة بترعة المريوطية
  • الأمطار تعيد الحياة إلى منتجع رأس الماء بشفشاون
  • قصة الوادي الصغير (25)
  • الجزيرة نت ترصد الدمار الذي خلفه الاحتلال بمستشفيات الجنوب اللبناني
  • الماء شكّل مكونا رئيسيا لنشأة المجرات الأولى
  • “اغاثي الملك سلمان” يوزع 1.300 سلة غذائية في الجبل الأسود