الدوحة- حينما تشاهد بيت الرضواني أو بن جلمود في منطقة مشيرب في العاصة القطرية الدوحة ستدور في ذهنك التساؤلات حول الطراز المعماري الذي أنشئت به، وستدرك كيف كان المعمار التراثي أو الشعبي حريصا على توفير معايير الاستدامة حتى قبل ظهور هذا المصطلح وتداوله في الأعوام الأخيرة.

إذ تتميز هذه النماذج المعمارية الشعبية بتقسيماتها الفريدة التى توفر نظام تهوية منظم يفسر لماذا لا يتم استخدام أجهزة التكييف الحديثة داخل هذه الجدران كما أنها تأثرت بالقيم الاجتماعية التى يلتزم بها المجتمع مثل توفير الخصوصية والفصل بين الغرف والمجالس.

وفي هذا الصدد يشير المتخصص في الهندسة المعمارية الإسلامية يوسف الحمادي إلى أنه قبل ظهور الحداثة في منطقة الخليج العربي، وخلال عصر ما قبل النفط، كان للمعمار الشعبي روابط عميقة بالتنمية المستدامة، حيث استخدم ببراعة الموارد المحلية، بصورة تتناغم مع الطبيعة والتراث الاجتماعي والثقافي، مقدما تصاميم وهياكل فريدة حيث أظهر البناة موهبة رائعة لتلائم مبانيهم مع المحيط الطبيعي.

الفناء يتوسط المنزل وتحيط به الغرف والممرات فى شكل دائري (الجزيرة) معمار "بيت الفِناء"

وأضاف الحمادي في حوار مع الجزيرة نت أن المباني الشعبية راعت الكثير من الجوانب الاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية في التصميم والبناء ضاربا المثال بما يسمى "بيت الفِناء" (بيت الحوش)، مثل بيت بن جلمود، حيث يتوسط الفناء المنزل وتحيط به الغرف من جميع الجهات بشكل منظم ويكون مدخل المنزل بعيدا عن الفناء مما يوفر الخصوصية التى تتناسب مع العادات والتقاليد بالمجتمع، موضحا أن التقسيم المعماري الشعبي بشكل عام ينقسم إلى 4 أشكال وهي خاص وشبه خاص، وعام وشبه عام.

وفسر الحمادي هذه التقسيمات بأن الخاص ينطبق على الغرف داخل المنزل، أما شبه الخاص فهو فناء المنزل، وشبه العام هو المجلس الخاص بالضيوف وصولا إلي العام وهو المسجد أو المدرسة أو الساحة العامة والميادين، مشيرا إلى أن هذه التقسيمات أو التصميمات لم يتم وضعها من خلال مصممين متخصصين أو دارسين لهذا المجال ولكن تم وضعها بالسليقة ووفقا للمتطلبات والمعايير المجتمعية.

ويرى الحمادي أن البعد الثقافي لعب دورا مهما في تشكيل خصائص المعمار والتخطيط الحضري فيها، وهو ما نراه واضحا في أحياء منطقة الخليج العربي قبل الحداثة، فالأخلاق والعادات والتقاليد في هذه المنطقة كان لها دور مهم في هذا الأمر.

وسلط الحمادي الضوء على الأبعاد الاجتماعية والثقافية للمنازل والأحياء في منطقة الخليج العربي، قائلا إن عناصر التصميم تتكامل مع الجغرافيا والطبيعية بفعالية، ومع الجوانب العامة والخاصة للحياة الحضرية، حيث يعتبر اتساع وضيق الطرق والسكك مثالا على ذلك، حيث إن الطرق التي تؤدي إلى المناطق السكنية أضيق وأكثر خصوصية من تلك التي تؤدي إلى المساجد أو الأسواق.

وأوضح أنه بعد اكتشاف النفط بدأ النمو العضوي للنسيج المعماري والحضري في الاختفاء حيث أفسدت أساليب الحداثة التوازن بين الهوية الخليجية ومعمارها وعمرانها، وتأثر الجميع بالغرب والتطور العمراني وأرادوا تقليده في مبانيهم وهو ما بات سائدا في الغالبية العظمي من المباني بعد ذلك.

يوسف الحمادي: المباني الشعبية راعت الكثير من الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية (الجزيرة) الحفاظ على التراث والهوية

وأكد الحمادي أنه بعد اكتشاف النفط، تأثر الخليجيون بالغرب والحداثة، ولكنهم أدركوا خطأهم وسارعوا لتصحيح المسار من خلال العودة للفترة التراثية، فقد استوعبوا أهمية الحفاظ على تراثهم المعماري، فالقطريون -على سبيل المثال- رمموا بعض المنازل وحولوها إلى متاحف، مما يسمح للزوار رؤية رحلة تطور العمارة والعمران القطري والغوص في مميزاته البصرية ومفرداته المعمارية مثل بيت الرضواني وبيت جلمود في مشيرب.

وقال "يعد بيت الرضواني تجسيدا مثاليا لمنزل الفناء، ويمثل النمط المعماري السائد في منطقة الخليج حيث يتألف من طابق أرضي فقط، ويتشابه هيكله مع العديد من المنازل القطرية العامية، فقد كانت المنازل متعددة الطوابق قليلة في قطر، كما أن بعض المنازل كانت تتشارك الفناء بحسب إمكاناتهم المادية، وينطبق ذلك كذلك على المجلس، الذي كان مخصصا لاستقبال الضيوف.

واجهة بيت الرضواني في متاحف مشيرب (الجزيرة) بيت الرضواني يجسد تراث قطر المعماري

ولفت الحمادي إلى أن تصميم البيت كان فريدا من نوعه بما يسمح للهواء البارد أن يتسرب إليه من جميع الاتجاهات في العديد من الأماكن داخل المنزل، حيث يحيط بالفناء رواق معروف باسم "الليوان"، وهو الذي يسمح للهواء الطلق بالدوران، بالإضافة إلى ذلك، تنقسم بعض جدران المنزل إلى قسمين، وبين الأقسام تجاويف مثقبة تقوم بنفس الغرض، جعلت سكانه يجلسون تحت هذه الجدران المقسمة ليستمتعوا بالنسيم.

وأوضح الحمادي أن بيت الرضواني هو شهادة على التراث والإرث الثقافي المعماري الغني لقطر، ومن خلال تحويل المنزل إلى متحف، يصبح هذا التراث متاحا للجميع، فهو يقدم دروسا في الاستدامة، ومنطق الحياة في البيت القطري القديم، ولكن العولمة لعبت دورا محوريا في تشكيل المعمار والعمران في الخليج العربي، وأدت إلى الابتعاد عن المعايير المعمارية والحضرية التقليدية وتبني الحداثة.

تحويل بيت الرضواني إلى متحف، قدم دروسا عن الاستدامة في البيت القطري القديم (الجزيرة) رحلة العمارة الشعبية

وأشار الحمادي إلى أنه من هذا المنطلق تحول التخطيط العمراني المكتظ والمترابط والقابل للتكيف، المعروف باسم الفريج، إلى تخطيط شبكي غربي يتميز بأراضٍ محاطة بالجدران، كما حلت الخرسانة والإسمنت والطوب وأجهزة التكييف محل الأساليب المستدامة للتبريد التي كانت تستخدم في المنازل الشعبية.

أوضح أنه في نهاية التسعينات وبداية الألفية الثالثة، أدرك القطريون أهمية حماية ثقافتهم وتراثهم والحفاظ عليه، ومع رؤية 2030، اعتمدت الدولة إستراتيجية مبتكرة ترتكز حول التطوير الحضري المبني على المعرفة، وتسعى هذه الإستراتيجية إلى تكريم الماضي من خلال تقديم صورة رومانسية لتحديات الصحراء ومشقات الغوص بحثا عن اللؤلؤ في المتاحف والصالات المختلفة.

ويؤكد الحمادي أن رحلة العمارة الشعبية ما زالت تواجه تحديات تفرضها اللوائح التي أقرتها السلطات الحكومية للتخطيط العمراني، فخلال فترة تبني الحداثة، اعتمدت قطر على التخطيط الغربي للمناطق السكنية، معطية أولوية لطرق السيارات وتدفق المرور على التراث الاجتماعي والعمراني.

وأوضح أن هذا التخطيط تجاهل العديد من الاعتبارات المتعلقة بتوزيع المساحات العامة والخاصة، ونتيجة لذلك، أصبحت المناطق السكنية تفتقر إلى طرق المشاة، والمساحات المظللة، والقيم الاجتماعية الإسلامية، فقد أصبحت أشبه بمجموعة من الصناديق المسورة، تعزل الناس وتجبرهم على أن يكونوا مجتمعا داخليا.

مدينة مشيرب قلب الدوحة نموذج للمزج بين التراث والحداثة (الصحافة القطرية) التراث ممزوجا بالحداثة

يرى الحمادي أنه رغم التحديات المستمرة للحداثة والتغريب، فقد كانت هناك مبادرات لافتة في الخليج العربي تعكس ازدياد الوعي بتراث المنطقة وهويتها وفي نهاية العقد الأول من الألفية ظهرت مبادرات مستوحاة من التراث، قامت بإعادة صياغته وعرضته بشكل جديد.

وأوضح أن من الأمثلة المذهلة على هذه الحركة مدينة مشيرب قلب الدوحة، وهو مشروع إعادة إحياء لمنطقة أثرية بشكل حضري ومستدام، وبشكل يمزج بين التراث والحداثة، ويعيد الحياة إلى المدينة بمبانٍ خضراء ومساحات ثقافية، وفضاءات تسمح للناس بالمشي، فقد صممت لتكون منطقة حيوية صديقة للبيئة تبرز التزام قطر بالحفاظ على ماضيها مع تبني مستقبل مستدام.

وأكد أن مدينة مشيرب قلب الدوحة تُعد مشروعا مستداما نموذجيا، حيث إنه يمزج بسلاسة بين الجوانب البيئية والثقافية لمنطقة الخليج العربي، فنرى على سبيل المثال أن فتحات النوافذ وضعت بشكل يراعي اتجاه الهواء، كما تم وضع المباني بشكل إستراتيجي، بحيث إن المباني تظلل على بعضها البعض، مما يقلل بفعالية من ارتفاع درجات الحرارة، بالإضافة إلى ذلك، يتضمن المشروع المرونة الطبيعية للأشجار المحلية التي تزدهر دون الحاجة إلى جهد كبير.


كما ضرب الحمادي مثالا آخر على مشروعات تهدف إلى المزج بين التراث والحداثة مثل مشروع فرجان وادي لوسيل، والذي يعتبر مشروعا سكنيا مستوحى من الثقافة والهوية القطرية، ويبرز عناصر من الفريج التقليدي القطري، مثل السكك والمساحات العامة المفتوحة، ويمزجها بلمسة معاصرة.

وختم الحمادي حواره مع الجزيرة نت بأن التحدي الحقيقي هو توجيه الناس نحو فهم القيمة الجوهرية من إحياء الإرث المعماري، فضلا عن رفع أهمية التطوير الحضري المرتبط بالتراث والهوية الخليجية على مر العصور، والحاجة إلى تعزيزه بين المجتمعات المحلية والمعماريين والمخططين الحضريين وصانعي السياسات على حد سواء.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: فی منطقة من خلال إلى أن

إقرأ أيضاً:

سائحون أجانب: بصرى الشام نموذج للفن المعماري التراثي العالمي

درعا-سانا

زار مدينة بصرى الشام الأثرية في درعا سائحون من بلدان أجنبية عدة واطلعوا على معالمها الأثرية وأسواقها التراثية.

الباحثة الاجتماعية السويسرية مارو روغديني لفتت في تصريح لمراسل سانا إلى ضرورة العمل مع المنظمات الدولية المعنية لتقديم المساعدات الممكنة للحفاظ على الكنوز الأثرية في مدينة بصرى.

في حين أشاد الرسام الإيطالي دارشين باولو بجمالية ودقة التصميم في جميع المواقع الأثرية في المدينة، ولفت إلى التشابه الكبير بينها وبين مواقع أثرية في روما القديمة، واعتبر ذلك امتداداً طبيعياً للفن المعماري العالمي.

موغا سيلفيا سيدة الأعمال الفرنسية أوضحت أن أكثر ما أدهشها هو المدرج الروماني وطريقة بنائه الفريدة.

بينما لفت الطبيب الروماني كورين باثفون إلى أنه يعتبر زيارته لبصرى حدثاً جميلاً في حياته، لأنه تعايش حقيقي بين الحاضر والماضي.

فاشيلي رومان المهندس الكندي أشار إلى أن الأبنية الأثرية في بصرى وتعدد المواقع وكثرتها دليل على أهمية المدينة التاريخية ومكانتها المرموقة في العصور السابقة.

رضوان الراضي

مقالات مشابهة

  • المغربي عموتة مدربا للجزيرة الإماراتي حتى 2026
  • بحماية شرطة العدو ..عشرات المستوطنين يقتحمون مقام يوسف شرق نابلس
  • اعتقالات واسعة في الضفة.. والمستوطنون يقتحمون قبر يوسف
  • عشرات المستوطنين يقتحمون مقام يوسف شرق نابلس
  • مستعمرون يقتحمون مقام يوسف شرق نابلس فجر اليوم
  • جامعة بنغازي تصنف ضمن أفضل 100 جامعة في العالم
  • مستشار معماري يوجه نصائح للتقليل من تكاليف البناء
  • "أدنوك".. خطوات جادة لترسيخ معايير الاستدامة
  • التراث الشعبي الفلسطيني.. محاضرة لأحمد سالم في الجمعية التاريخية بحمص
  • سائحون أجانب: بصرى الشام نموذج للفن المعماري التراثي العالمي