اخترت هذا العنوان، لأنه يليق بالحياة التي عشتها من فجر الطفولة، إلى ضحى الشباب، حياتي التي تشبه نهراً ينبع من وسط الأحراش والغابات والمرتفعات الوعرة، لتحتضنه قبيل مصبِّه في البحر، مدينة ناعمة، تنبض شوارعها بالحياة والفن والترف.
حياتي بين الصباح والمساء، بين حارة اليمن ومدارس الثغر النموذجية،
بين عيال الحارة، وأبناء الذوات، بين وليد ونبيل وأسامة صباحا، وحمتو والحلة مساء.
بين درس العزف على الكمان في المدرسة، ومساعدة خالة رحمة، وهي تعيد غنماتها الثلاث من أطراف الحارة إلى صندقة الغنم، لأتفرغ بعدها لمقاضي الرباط، حيث تعودت أن أذهب بين المغرب والعشاء، إلى رباط باناجة في حارة البحر، لمعرفة حاجات السيدات من ساكنات الرباط من خبز، أو سجائر، أو دواء، أو شئ من الطعام، أو البسكويت، وأعود لهن بأكياس صغيرة، وقروش قليلة، هي ما يبقى من الريالات التي استلمها منهن، لشراء المقاضي. يرحمهن الله جميعا.
أتذكر أمام هذا، ما تعودناه في النهار، عندما ينتهي اليوم الدراسي في مدرستنا الثغر، نخرج جميعا الى مطعم المدرسة، حيث نجلس على كراس وثيرة، في طاولات مجهزة بالأطباق والشوك والملاعق، ويقف خلفنا المباشرون ( السفرجية )، وأغلبهم رجال من النوبة بثيابهم البيضاء، يقدمون لنا أصناف الطعام بدءا بالشوربة، ثم السلطة، ثم الوجبة الرئيسية، وبعد ذلك يطوفون علينا بأطباق الحلا، ثم ننصرف الى بيوتنا في باصات المدرسة المريحة .
وأذكر فيما أذكر، مصافحتي وأنا في سن العاشرة، للعم صالح أبو طالب في الحارة الشقاوي الذي كان يعمل في البحر، وأذكر كم كانت يده خشنة شعرت يومها أني صافحت تمساحا !وأمام هذا اذكر أني كنت ضمن فريق استقبال رئيس جمهورية السودان، نتدرب على حفظ نشيد الترحيب، وصافحت حينها رئيس جمهورية السودان الأول بعد الاستقلال الرئيس اسماعيل الازهري يرحمه الله ،وأذكر لليوم كم كانت يدة ناعمة كالحرير يفوح منها عطر العود الذي بقي أثره في يدي ليومين متتالين.
ويبقى في خاطري عن الحارة، ذكرى سيتي عقادة والتي لم تكن أكبر العجائز سنا في الرباط، بل كانت أكثرهن بؤساً وفاقة، التي كنت أعرف طلبها الذي لم يتغير: شريكة بالزبدة ب ٤ قروش، تقسمها نصفين: تغمسه مساء للعشاء، وتبقي النصف الثاني لتغمسه صباحا في الماء لإفطارها.
هكذا توزعت صباحات طفولتي ومساءاتها بين ترف المترفين وكدح الكادحين، ولن أحدثكم كيف تسنّى لولد الناس الغلابة من أهل حارة اليمن، أن يلتحق بمدارس الثغر النموذجية، لأن
وراء ذلك سراً أخبئه عسى أن يأتي الوقت لأبوح لكم بذلك السر، ولكن ليس المهم ذلك السر،
وإنما المهم سر آخر، كنت أحرص على أن اخبئ عن صباحاتي أسرار المساءات، وأكتم عن مساءاتي أخبار الصباح ، أفصل صباحاتي عن مساءاتي ، أقيم بين رفاق الدرب وزملاء الدرس جدارا عاليا، فلا يعلم هؤلاء عن أولئك شيئا، ولا يعرف أولئك عن هؤلاء شيئا ، وتعلمت أن أحيا مع كل فريق باعتباري واحدا منهم ، ولد الحارة و إبنا من أبناء الذوات ، لم يستأثر فريق من الفريقين بي، ولم يمل قلبي لجهة من الجهتين ، تعلمت من هؤلاء كما تعلمت من أولئك .
ومرَّ العمر على ذلك الشأن، وها أنا على مسافة نصف قرن من تلك الحياة، أحتفظ في غرف قلبي السرية، بالعالميْن معا ، أبناء الذوات وأولاد الحارة٠
ولكن في زحمة كل الذكريات، لا أنسى فضل العم عبدالقادر نصيف، إبن الأفندي محمد نصيف، صاحب أكبر مكتبة شخصية في العالم العربي يومها ، يرحم الله العم عبدالقادر كان يعيرني من وقت لآخر ما يتوفر لديه من كتب في الأدب والتاريخ، قرأتها مبكراً كلها ، وأترحم عليه كلما تذكرته في ثوبه الأبيض، وعمامته الحلبية!
S@bogary.com
المصدر: صحيفة البلاد
إقرأ أيضاً:
مصطفى يونس: وهبت حياتي للأهلي.. وهكذا بدأ عشقي للقلعة الحمراء
روى مصطفى يونس، نجم الأهلي ومنتخب مصر السابق، موقفًا أثر في حياته، حين طلب منه الكابتن مصطفى حسين بعد أحد التدريبات عدم المغادرة، ليكتشف لاحقًا أنه كان يريد اصطحابه هو وزميله محمود عبد الفتاح لشراء ملابس جديدة من متجر "ملابس الأهرام" بوسط البلد، وهو الأمر الذي كان مفاجئًا لهما.
وأكد يونس أنه للمرة الأولى في حياته ارتدى جاكيت أنيقًا وفانيلا برقبة حمراء، ما عزز لديه الشعور بالانتماء والفخر بكونه جزءًا من النادي الأهلي.
وأضاف خلال لقائه في الجزء الثاني من حلقته ببرنامج "خط أحمر" الذي يقدمه الإعلامي محمد موسى على قناة الحدث اليوم، هذا هو الأهلي، النادي الذي احتضننا ومنحنا الفرصة لنصبح ما نحن عليه اليوم. أنا ابن حي شبرا، وأفخر بذلك، ومن ليس له خير في أهله والناس الذين صنعوا مجده، فلن يكون له خير في نفسه أو في الآخرين".
وأكد عشقه العميق للنادي الأهلي، مشيرًا إلى أنه وهب حياته للنادي منذ الصغر، وتذكر كيف كانت الشخصيات العظيمة داخل القلعة الحمراء سببًا في غرس حب الأهلي في نفوس الأجيال المتعاقبة، قائلًا: "جيلنا تأثر برمزين كبيرين، الأول هو الكابتن صالح سليم، وقبله كان هناك الكابتن مصطفى حسين، الذي يُعد الأب الروحي للناشئين والأشبال في النادي".
وأكمل: الكابتن مصطفى حسين كان يشرف على جميع فرق الناشئين في الأهلي، بدءًا من فريق 21 عامًا وحتى فرق المدرسة الكروية، مشددًا على أن هؤلاء الرموز هم من زرعوا الانتماء وحب النادي في قلوب اللاعبين.
وأشار إلى أن الحب لا يأتي من فراغ، بل هناك دائمًا أسباب تؤدي إليه، وهو ما جعله يرتبط بالأهلي منذ نعومة أظافره.
وفي سياق حديثه عن بداياته، كشف مصطفى يونس أنه كان أول ناشئ في تاريخ النادي الأهلي يتقاضى راتبًا شهريًا منذ تأسيس النادي عام 1907، حيث تلقى 5 جنيهات شهريًا وهو في سن السادسة عشرة.