السودان … إستشراف المستقبل بعد الحرب
تاريخ النشر: 12th, March 2025 GMT
(1) ظل السودان منذ استقلاله في يناير من العام 1956م، يعاني عدم الاستقرار السياسي ويدور في فلك الثورات الشعبية وفترات الحكم الحزبي ذات الطابع التعددي الديمقراطي ثم الانقلابات العسكرية، مما جعل هذه الصيرورة تقوده لحالة عميقة من القلق والتململ السياسي، لينتهي به المطاف بعد (67) عامًا من نيل استقلاله إلى حرب داخلية دمرت السودان وأفقرت شعبه.
خلال هذه الفترة كانت الأحزاب السودانية تتعاقب على الحكم في فترات ما عرف بالديمقراطية الأولى، ثم الثانية، فالثالثة، ولكنها ما تلبث بضع سنين إلا ويتحول بأسها بينها شديد حتى تنفك عُراها وتضعَف قدرتها لتتدحرج الأمور مُؤذنة بانقلاب عسكري جديد يقف من خلفه أحد هذه الأحزاب.
إن واحدة من أوضح مشكلات السودان هي أحزابه التي تشكلت مع مخاض وتفاعلات الصراع من أجل الاستقلال من خلفيات شتي متأثرة بظلال الخارج أكثر من احتياجات الداخل وتطلعات السودانيين ، فهي تتحمل وزراً كبيراً من هذه المآلات المخيبة للآمال كونها تعاني ضعفاً بيناً في بنيتها التنظيمية وفي برامجها العامة وخطابها السياسي ، ومن أخطر ما قامت به بلا وعي منها أنها أعلت من سقف الخطاب السياسي الدعائي عوضًا عن الخطاب التنموي الاقتصادي ، لأنها تقدم نفسها من منطلقات أيديولوجية بحتة يميناً ويساراً أكثر من أن تقدم برامج متعلقة بحياة الناس ومعيشتهم ورفاههم، وهذا يقود إلى ضرورة أن تعيد هذه الأحزاب صياغة نُظمها بعد الحرب بما يجعلها أحزاباً برامجية تقدم ما ينفع الناس لا ما تدفعها إليها منطلقاتها الفكرية التي لم يعد أغلب الناس على اهتمام بها . وبتتبع تلك الحقبة يتضح أن فترات الحكم العسكري كانت هي الأطول استمرارًا والأكثر انضباطاً والأوفر إنجازاً، بينما كانت فترات حكم الأحزاب على النقيض من ذلك تتسم بالفوضى والضعف وعدم القدرة على اتخاذ القرار حتى تأثرت سيادة السودان وإرادته جراء تلك الحالة من الصراع العدمي الذي استنزف موارد البلاد وأبقاها في دائرة النزاعات المستمرة.
ظلت الحروب المتواصلة عنوانًا ثابتًا في السودان منذ استقلاله وإلى اليوم، ولا شك أن تلك الحروب تعود بالأساس إلى فشل النخبة الوطنية من صياغة تعاقد وطني يؤسس للعيش المشترك بين أبناء الوطن الواحد، ولم تكن الحرب الحالية إلا محطة من محطات فشل الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال، وعجز النخبة عن الإدارة الخلاقة التي تقود للبناء الوطني السليم.
وفي سياق الصراع السياسي بين الأحزاب تمكنت الجبهة الإسلامية من أن تتغلغل في المجتمع في ظل غياب الآخرين محدثة فيه تحولًا ملموساً مكنها من بلوغ السلطة عبر الانقلاب العسكري المعروف بثورة الانقاذ الوطني في يونيو (حزيران) من العام 1989م، لتصنف الأطول مكوثاً في حكم السودان الحديث، والأبقى أثراً عبر ما افترعت من مشروعات كبرى لا تخطئها عين، رغم أنه كان بمقدورها أن تنجز أكثر مما فعلت وأن تقود بنفسها عملية ترقية الممارسة السياسية لتؤسس استقرار السودان وفقاً لمفهوم التداول الانتخابي السلمي للسلطة .وخلال فترة حكمها الممتدة ثلاثين عامًا شهدت البلاد انفصال جنوب السودان الذي أدى إلى تدهور اقتصادي انتهى باندلاع ثورة 19 ديسمبر من عام 2018م، التي أنهت تلك الفترة من الحكم، ودخول السودان مرحلة جديدة تم فيها تشكيل المجلس العسكري الانتقالي ثم مجلس السيادة الانتقالي في 2019م.
حراك ديسمبر وحكومة حمدوك وصناعة الأزمة:
كان حراك 19 ديسمبر في بعده الشعبي عند الناس العاديين تعبيراً صادقاً يبحث عن الأفضل، حيث امتلأت الميادين بالثوار والأشرعة بالأمل والأحلام الوردية، غير أن التدخلات الدولية والمطامع الإقليمية أجهضت تلك الأحلام في مهدها، حين رفعت مجموعات سياسية صغيرة لهرم السلطة وملكتهم أمر السودان في تزاوجٍ قسري بينهم وبين المجموعة العسكرية عبر ما عرف بالوثيقة الدستورية التي أسست لفترة انتقالية تقاسمت السلطة فيها تلك المجموعة الصغيرة مع المكون العسكري.
وبمجرد تسلم عبد الله حمدوك منصب رئيس الوزراء وهذه المجموعة الصغيرة للسلطة سرعان ما تكشف للسودانيين أنهم بلا خطط وبلا رؤية للإجابة على ما بعد هتاف الثورة الشهير (تسقط بس) .
كان تحالف الحرية والتغيير يضم عددًا من الكيانات الحزبية الصغيرة التي هي في الواقع كيانات احتجاجية تجيد الاحتجاج والاعتراض أكثر من أن تكون على دراية بأدوات بناء الدولة وإدارة شأن الناس. انطلقت هذه المجموعة من رغبة جامحة في التشفي والانتقام قادتها لتكوين لجنة إزالة التمكين التي ضربت بالقانون عرض الحائط، وأصبحت هي القاضي والجلاد، فتعدّت على أملاك الناس وصادرتها وأخذتهم بشبهات لا ترقى لتمثل بينات إدانة، وما كان بمقدور أحد ان يستأنف أو يراجع شيئاً من قراراتها الجائرة.
لقد صادر دعاة الحرية والديمقراطية حتى حق الناس في التظاهر ، حين خرج محمد الفكي سليمان عضو مجلس السيادة وقتها متحدثًا وعلى رؤوس الأشهاد إثر خروج مجموعة من المواطنين في تظاهر سلمي قائلاً (إن هذا ممنوع ونحن وحدنا من يحق له أن يتظاهر)! بالطبع لم تصمد تلك التوليفة المعيبة كثيراً ولم تسعفها عملية صناعة الصورة الإعلامية التي بذل فيها الخارج أمولاً ضخمة مصورةً للسودانيين أن عبد الله حمدوك هو المخلص والمنقذ للسودان وشعبه .
تدهورت الأوضاع الاقتصادية أكثر وزادت بؤساً لتزداد حالة الاضطراب السياسي في شكل صراع بين تحالف الحرية والتغيير والعسكريين حتى بلغت مداها بإجراءات 25 أكتوبر 2021م، التي قضت بحل مجلسي السيادة والوزراء وإعفاء حكام الولايات وإعلان حالة الطوارئ في البلد.
(2)
الاتفاق الإطاري واندلاع الحرب:
تفاقمت الأوضاع لاحقاً حين تكشفت التحالفات الخفية، وبدأ التقارب يظهر للعلن أكثر وضوحاً بين أحزاب الحرية والتغيير و نائب رئيس مجلس السيادة قائد قوات الدعم السريع الذي بدل تحالفه مع الجيش للاصطفاف مع تلك المجموعة، فيما فهم وقتها على أنه استجاب لضغوط دولية مورست عليه، وولد ذلك التحول شكوكًا متزايدة بين الجيش وقوات الدعم السريع التي مضت في توسيع علاقتها مع تحالف الحرية والتغيير ، حتي أعلنت تطورات تلك العلاقة الآثمة عن ميلاد ما يعرف بالاتفاق الإطاري الموقع في الخامس من ديسمبر 2022م، كان الاتفاق الإطاري محاولة لإعادة التقارب بين العسكريين والمدنيين مرة أخرى، وقد نشطت في توقيعه جهات إقليمية ودولية متمثلة في الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي ومنظمة الإيقاد) بجانب الرباعية التي تضم المملكة العربية السعودية وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ودولة الإمارات العربية المتحدة. بدا واضحاً أن المجموعة الموقعة على الاتفاق من تحالف الحرية والتغيير تعول كثيرًا عليه باعتباره فرصة لعودتها للسلطة ويتضح ذلك من خلال تصريحات بعض قيادات هذا التحالف، حيث صرح أكثر من مسؤول متوعدًا ومهددًا بعواقب عدم إقبال الجيش على التوقيع النهائي على الاتفاق الذي أعطى حصانات واسعة لقوات الدعم السريع مقابل التضييق على القوات المسلحة والنص على هيكلتها وتفكيك مؤسساتها الاقتصادية، ووقف بابكر فيصل القيادي بحزب التجمع الاتحادي وتحالف ( قحت) في ندوة مشهودة لإعلان موقف تحالفه قائلًا (إما أن توقع القوات المسلحة على الاتفاق الإطاري أو ترضى بالحرب )!
وتبدّى لاحقاً أن الاحتقان كان أكبر من أن ينجح ذلك الاتفاق في احتوائه بين المكونات السياسية ، فقد نصت المبادئ العامة في الفقرة (14) من الاتفاق على ( أن تؤول السلطة الانتقالية إلى سلطة مدنية كاملة دون مشاركة القوات المسلحة)، وهو ما أُعتبر محاولة من تحالف الحرية والتغيير للهيمنة على السلطة في السودان مع إقصاء بقية القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة بجانب حرمان حركات دارفور التي وقعت على اتفاقية جوبا للسلام من أن تشارك هي الأخرى، ليفقد الاتفاق الإطاري روح الشمول والتوافق الوطني ويظهر على حقيقته مجرد اتفاق إقصائي . بالطبع لم ينجح الاتفاق في تهدئة الأوضاع بل عجل باندلاع الحرب التي كانت بوادرها من الوضوح بحيث توقعها المراقبون وعامة الناس، خاصة بعد الحشد العسكري الكبير الذي ظلت تعد له قوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم قبل شهور من اندلاع الحرب.
سيناريوهات نهاية الحرب:
الآن تكاد الحرب التي شنتها ميليشيا الدعم السريع تكمل عامها الثاني مخلفة آثار كارثية يدفع ثمنها السودانيون بكثير من المشقة والجلد، فالملايين شردوا من البلاد ما بين نازح ولاجئ وهم في انتظار أن يحسم الجيش السوداني ومن يقاتل في صفة من متطوعي المقاومة الشعبية والقوات المشتركة المعركة ضد من اغتصب نساءهم وسرق أموالهم واحتل بيوتهم، فالحرب ما تركت بيتاً في السودان إلا ودخلته بأبشع الانتهاكات وأشد الفظائع.
وعلى الرغم من انتظار الشعب السوداني لنصر عسكري كاسح ازدادت إمكانيته أكثر بعد التطور الأخير الذي أحدثه الجيش في العمليات العسكرية بإتباعه لإستراتيجية إنهاك الدعم السريع وضرب القوة الصلبة فيه مع تحرك محسوب لتقليل الخسائر البشرية في صفوفه، الأمر الذي مكن الجيش السوداني من عبور عدد من الجسور المهمة التي تربط العاصمة المثلثة في عمليات نوعية، ووسع نفوذه في مناطق جديدة بتحريه لكامل محليات بحري وشرق النيل وغالب أمدرمان والخرطوم و سنار والفاشر والنيل الابيض متوجاً هذه الإنتصارات قبل ذلك بتحرير مدينة ود مدني التي مثلت ضربة موجعة لميليشيا الدعم السريع ودالة على تراجعها وانحسارها الأمر الذي يعجل بمعركة التحرير الأخيرة فيما تبقي من ولاية الخرطوم التي باتت وشيكة وفقًا لمعطيات ميدانية وعسكرية .
وعلى الرغم من ذلك فإن جهوداً للحل التفاوضي قد بُذلت أبرزها المبادرة السعودية والمبادرة التي اطلقتها تركيا مؤخراً، فقد استطاعت المملكة العربية السعودية أن تجمع الجيش وممثلين للميليشيا بعد شهر واحد من اندلاع الحرب، ووقع إثر ذلك إعلان جدة الذي اشتمل على (3) شروط و ( 21) التزامًا، غير أن ميليشيا الدعم السريع لم تلتزم بأي مما ورد في ذلك الإعلان، حيث خرقت أغلبها باستباحتها للأعيان المدنية واستخدامها لأغراض عسكرية، بجانب استهداف المدنيين واعتقالهم وتعذيبهم وفق ما أظهرته تقارير المنظمات الدولية الحقوقية، وروايات الناجين من ويلات معتقلات وسجون ميليشيا الدعم السريع التي ملأت العاصمة الخرطوم، حتي أنها حولت منازل المواطنين ومساكنهم واستخدمتها كمعتقلات وسجون إضافية يقبع فيها مئات الآلاف ويموتون فيها لانعدام الغذاء والدواء . ومع ذلك فإن انتهاء الحرب بأي من المسارين في أي وقت يظل أمراً وارداً خصوصًا بين يدي المبادرات الكثيرة التي تطرح كمؤشر لتوجهات المجتمع الدولي الذي فضحت هذه الحرب مواقفه الأخلاقية لكونه لم يقابلها بما تستحق من الاهتمام. فالمسار الأول هو الانتصار العسكري الحاسم، وهو الأمر الذي ينتظره السواد الأعظم والأكثرية من السودانيين، والثاني هو إنهاء الحرب عبر مسار العملية التفاوضية، وهنا يجب الأخذ في الاعتبار توجه ورغبات السودانيين الرافضة للميليشيا والداعمة للجيش خلال هذه الحرب، وانعكاس ذلك وتأثيره على القرار المتعلق بالتفاوض، فالإصرار الشعبي الشديد على إنهاء أي وجود أو دور مستقبلي لميليشيا الدعم السريع صغُر أم كبُر، كونها مجموعات مرتزِقة وعميلة تنفذ أجندة معادية للوطن، مما دفع الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة للتعبير عن ذلك أكثر من مرة مصرحاً ( أنهم لن يكونوا طرفاً في أي أتفاق يعيد إنتاج الميليشيا مرة أخرى)، وهذا يعني أن الخيارات التي يمكن أن تعيد الميليشيا في المستقبل بأي شكل وبأي حجم خيارات صعبة ، و ستكلف قيادة الجيش الحالية الكثير إن هي أقدمت عليها ، فالميليشيا في واقع الأمر لا تحارب الجيش وحده و إنما تخوض حرباً ضد الشعب السوداني الذي تصاعدت مشاعره العدائية تجاه ميليشيا الدعم السريع لتصبح حالة مجتمعية شاملة من المستحيل تجاوزها . عليه فإن المؤشرات الدالة على نهاية الحرب وانتصار إرادة الشعب السوداني باتت هي الأقرب والأكثر إمكانية وفي فترة زمنية لن تطول بإذن الله.
3)
ماذا بعد الحرب:
إن الحرب التي شنتها ميليشيا الدعم السريع على الرغم من بشاعتها ودمارها للسودان يمكن أن تمثل علامة فارقة ونقطة تحول في تاريخ السودان الحديث تُصحح فيه كثير من المفاهيم وتقود شعبه إلى مرحلة جديدة من الأمل، فمثل هذه المحكات الخطيرة والأزمات الصعبة شكَلت بالفعل منعطفات إيجابية في التاريخ لكثير من الأمم وحولت طرائق تفكيرها ودفعتها دفعاً نحو الأفضل. فالسودان بعد الحرب لن يكون كما كان قبلها، لقد شعر السودانيون في مهاجرهم وملاجئهم حيث نزحوا، بقيمة الوطن في حياتهم حين افتقدوا أبسط الحقوق وتخطتهم المخاطر، فهذه الحرب ضاعفت من روح الإحساس بأهمية الوطن، وقوت من روابط اللحمة الوطنية بينهم وفتحت في مجالسهم النقاش حول الأسئلة الكبيرة عن كيف ينهضون وبأي السبل يبنون بلدهم. لاستشراف مسارات المستقبل بعد الحرب يجب الانطلاق من بعدين هما الإصلاح السياسي والإداري وما تشملانه من إدارة حوار شامل يمهد الطريق نحو الاستقرار الدستوري ويحدد الطريقة التي سيُحكم بها السودان وصولًا لعملية التراضي والتصالح الوطني بما لا يخل بتطبيق القانون ومعاقبة الجناة. ففي الجانب السياسي الحزبي يجب أن تستفيد الأحزاب الوطنية من مناخ البدايات الجديدة الذي سيتوفر بعد الحرب من أجل إصلاح أوضاعها الداخلية وتحولها إلى أحزاب حقيقية تهتم بهياكلها التنظيمية وخطابها السياسي وتتجه نحو التكتلات والتحالفات الكبيرة أكثر من كونها مجرد لافتات سياسية. إن تحولها لأحزاب برامجية من شأنه أن يقود إلى تغيير جذري في المشهد السياسي برمته لينسحب ذلك على الخطاب وعلى الاهتمامات العامة ويقود إلى إعلاء مفاهيم التوجه الاقتصادي والتنموي ويجعل من هذه الأحزاب منصات لصناعة البرامج والمشروعات المفيدة وتعبئة طاقات الأمة السودانية نحوها. أما الإصلاح الإداري فهو حجر الزاوية في انطلاق الدولة نحو النهوض والتطور السريع بالاستفادة من الأنماط الإدارية الناجحة في العالم التي طُبقت في كثير من الدول، فالخدمة المدنية الموجودة حاليًا تحتاج إلى ثورة ترفع من قدراتها وتقودها للتحول الرقمي، فالوظيفة العامة يجب أن يرتقي مفهومها ويزداد وزنها بإسنادها لأولئك المتميزين بقصص نجاح تؤهلهم للقفز بها مستفيدين من مهاراتهم العلمية وخبراتهم العملية. تلك هي المفاهيم التي يجب أن تكون محل اهتمام الجميع وفي مقدمتهم الحكومة القائمة عندئذٍ.
حكومة ما بعد الحرب:
لن تنتج الحكومة القادمة من العدم ولكنها ستكون نتاجًا لتطور المشهد العسكري والسياسي القائم الآن، ويري كثيرين أن ملامحها واضحة بحيث يمكن اعتبارها فترة انتقالية من مرحلتين، الجزء الأول منها هو ما نعايشه الآن والذي تمثل فيها القوات المسلحة السلطة الرئيسية بحكم الأمر الواقع الذي تفرضه الحرب، وهوما يحتم عليها القيام بأعباء الحكم ومتطلبات السيادة، أما الفترة الثانية المكملة لها فتبدأ بعد انتهاء الحرب بالانتقال نحو حكومة مدنية تعمل على معالجة آثار ما بعد الحرب ووضع لبنات مرحلة الإعمار والتأكد من قدرة الدولة الادارية والفنية المشار لها سابقاً، ومن ثم تهيئة البلاد لعملية انتخابية مستوفية للمعايير المطلوبة، ينتخب فيها السودانيون من يمثلهم، وهذا ما طبق بالفعل ونجح في أمثلة كثيرة حول العالم يمكن الاستفادة منها .
تجارب بلدان ناجحة:
إن الانتقال بهذه الكيفية يجب أن يأخذ في الاعتبار الدروس الكبيرة التي واجهها السودان، كما يجب أن يأخذ تجارب الدول التي نهضت بعد خوضها ظروفاً مشابهة. ففي رواندا أنهكت الحرب القبلية الدولة وقُتل ما يقارب المليون شخص في حرب الإبادة الجماعية، ومع ذلك نهضت رواندا من تحت ذلك الركام مستفيدة من الدعم الدولي والمساعدات التنموية بعد الحرب، وقد بدأت في تعزيز حكم القانون الذي ساعد على الاستقرار وجذب المزيد من الاستثمارات ليصل معدل النمو فيها 8 % في العام 2023م، مع تطور لافت في القطاع الزراعي الذي يسهم بما يفوق 25%. من جملة الناتج المحلي الإجمالي لوحده،
وفي سنغافورة كان لي كوان يو أول رئيس وزراء لها بعد أن تخلت ماليزيا عنها، رجلاً مذهلاً حفر الصخر وقهر المستحيل من أجل أن ينهض بتلك الجزيرة الصغيرة المحاطة بالمستنقعات، والتي كانت وكراً للجريمة والانفلات الأمني، غارقة في البطالة والفقر الشديد بسبب انعدام الموارد الطبيعية، وبسبب اهتمامه بالتعليم ابتعث الآلاف للدراسة بالخارج ليعودوا محملين بالمعرفة والتجارب الناجحة من الخارج. لقد وحدهم ووحد لغتهم وحارب النزعات العنصرية والقبلية فيهم واهتم بالقانون وتطبيقه ليحارب به الفساد المالي والإداري الذي كان مستشرياً. الآن سنغافورة خامس أغني بلد واقتصادها هو الأكثر انفتاحًا في العالم، وتملك مطارًا دوليًا صنف لثمانية مرات متتالية على أنه الأفضل والأنظف دولياً.
للسودان في سير الناجحين عِبر ودروس فقد خرجت جنوب إفريقيا من أزمتها التاريخية لتصبح بلدًا ناهضًا كان بطله الزعيم الإفريقي الأشهر نيلسون مانديلا، كما نهضت اليابان بعد قنبلة هيروشيما وكذلك ألمانيا بعد الحرب وغيرها كثير. تلك تجارب ملهمة جرت وقائعها في أنحاء متفرقة من العالم، استطاعت فيها تلك الدول أن تتجاوز أزماتها الكبيرة وتطويها سريعاً بفضل قيادات حكيمة ومتقدمة الأفق، وبفعل حكومات عملت وفق النظم الحديثة لأنماط الإدارة. السودان بعد الحرب بحاجة ليقتفي أثر تلك النماذج ويتلمس منها أسباب النهوض والتطور السريع لتكفيه الصراعات المعيقة والدوران في فراغ الفشل والإخفاق، ولا شك أن بوابة ذلك هو مد البصر نحو المستقبل والتحلي بالحكمة مع النظر العميق في تجارب الماضي، وأخذ العبر المطروحة في صفحات التاريخ.
م. قبيس أحمد المصطفى
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: تحالف الحریة والتغییر میلیشیا الدعم السریع الاتفاق الإطاری القوات المسلحة مجلس السیادة بعد الحرب کثیر من أکثر من ما بعد یجب أن
إقرأ أيضاً:
السودان: الدعم السريع يقصف مدينة الأبيض لليوم السادس توالياً
تعيش مدينة الأبيض ظروفًا صعبة في ظل تطور العمليات العسكرية وتدهور الأوضاع المعيشية، في وقت يطالب فيه المواطنون بتدخل عاجل لرفع المعاناة وتوفير الاحتياجات الأساسية.
التغيير: الأبيض
قالت مصادر لـ (التغيير) إن قوات الدعم السريع شنت قصفًا مدفعيًا على مدينة الأبيض حاضرة ولاية شمال كردفان، غربي البلاد، مساء اليوم الثلاثاء، وذلك لليوم السادس على التوالي.
وأضافت أن القصف استهدف أحياء سكنية متفرقة بالمدينة، حيث سقطت أكثر من خمس قذائف. وأشارت المصادر إلى أنه حتى اللحظة لم ترد معلومات حول سقوط قتلى أو جرحى جراء القصف.
وتعيش مدينة الأبيض ظروفًا صعبة في ظل تطور العمليات العسكرية وتدهور الأوضاع المعيشية، في وقت يطالب فيه المواطنون بتدخل عاجل لرفع المعاناة وتوفير الاحتياجات الأساسية.
ومع اندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم ومناطق أخرى، شهدت المدينة مواجهات عسكرية دامية بين طرفي الصراع، مما أدى إلى سقوط مئات القتلى والجرحى من المدنيين جراء القصف العشوائي المتبادل.
ومنذ 15 أبريل الماضي، تحاول قوات الدعم السريع فرض سيطرتها الكاملة على الأبيض، فيما يواصل الجيش السوداني حماية قيادة الفرقة الخامسة مشاة والمواقع الاستراتيجية بالمنطقة.
وتتمتع المدينة بموقع استراتيجي في غرب البلاد، حيث تضم أكبر سوق لمحصول الصمغ العربي على مستوى العالم، إلى جانب أسواق أخرى للمحاصيل والماشية، كما أنها ترتبط بطريق الصادرات الذي يربط بين ولايات غرب السودان المختلفة.
الوسومآثار الحرب في السودان جرائم وانتهاكات قوات الدعم السريع مدينة الأبيض ولاية شمال كردفان