اتفاقية سلام جوبا: التمادي في بذل العهود المستحيلة (1)
تاريخ النشر: 12th, March 2025 GMT
عاد اتفاق سلام جوبا إلى واجهة خطاب السياسة والحرب في يومنا هذا. وأنشر نص ورقة كنت قدمتها لمؤتمر انعقد في مركز الدوحة في العام الماضي ما وسعني لكي يدور النقاش المتجدد عن الاتفاقية فوق علم باتفاق قل من اطلع على نصوصه.
الاتفاق الصفقة
تنبني هذه الورقة على مقالاتي الصحفية الراتبة التي نظرت فيما يشبه اليوميات في اتفاقية السلام الموقعة في جوبا في أغسطس 2020 بين الحكومة الانتقالية والجبهة الثورية التي ضمت حركات مسلحة من إقليمي دارفور والنيل الأزرق.
وترى الورقة أن الاتفاقية بعامة لم تخرج عن سنخ الاتفاقات المكرورة التي سبق أن عقدتها حركات مسلحة مع نظم عسكرية حاكمة في الماضي. ففي بحث أولئك العسكريين في يومنا عن قاعدة سياسية يقوون بها مركزهم حيال قوى الحرية والتغيير (قحت) خرجوا باتفاقية جوبا التي هي صفقة سياسية، لا اتفاقية، تمت من وراء ظهر الحكومة الانتقالية بقصد إزاحتها عن المشهد السياسي في ملابسات وتفاهمات وبإجراءات نوفيها في هذه الورقة.
ومع أن الاتفاقية لم تخرج بعامة عن سنخ الاتفاقات المكرورة التي سبق أن عقدتها حركات مسلحة مع نظم عسكرية حاكمة في الماضي إلا أن اختلافها عنها فهو في أن العسكريين في هذه المرة كانوا شركاء مع قحت في حكومة انتقالية قبلوا بها عن كره باسم “الانحياز” لثورتها في ديسمبر 2019 وبيتوا النية على التخلص منها. ففي بحث أولئك العسكريين عن قاعدة سياسية يقوون بها مركزهم حيال قحت خرجوا باتفاقية جوبا التي تعاقدوا فيها على السلام مع مسلحي دارفور في الجبهة الثورية وغيرها.
لم تكن الاتفاقية صفقة تمت من وراء ظهر الحكومة الانتقالية فحسب، بل من وراء ظهر حركات مسلحة أشد خطراً من الجبهة الثورية ولا يكون سلام مؤمن بدونها. وستعرض الورقة للملابسات التي ساقت طرفي الاتفاقية، العسكريين والحركات، لعقد تلك الصفقة. فكان دافع الحركات لعقدها خروجها صفر اليدين من جاه السلطة الجديدة بعد ثورة 2018 بعد مفاوضاتها الماراثونية مع قحت. وأراد العسكريون من جهتهم حليفاً سياسياً ينازلون به قوى الثورة التي لا ترغب بغير الدولة المدنية بديلاً. وكان ثمن ركوب مسلحي الجبهة الثورية للجاه عن طريق العسكريين تفاهم سماه مني مناوي، زعيم جبهة تحرير السودان، ب”تحت الطربيزة”. وهو التزامهم بالكف عن إثارة مسائل محرجة للعسكريين مثل تسليم المتهمين بجرائم الحرب من صفوة نظام الإنقاذ إلى محكمة الجنايات الدولية.
ومكن العسكريون للصفقة في أديس أبابا، كما جاء في شهادة لصديق تاور عضو مجلس السيادة قبل انقلاب 25 أكتوبر 2021، بقرار الجبهة الثورية الجلوس للتفاوض مع العسكريين دون المدنيين بعد ورشة انعقدت مع العسكريين من وراء ظهر مجلس السيادة، بل من وراء تاور نفسه الذي كان المجلس اختاره رئيساً للجنة التفاوض مع الحركات المسلحة أول مرة. فجاء في فيديو أذاعه في 2 نوفمبر 2022 أن لجنته للسلام ظلت ترتب لمساعيه زهاء أربعة شهور بتنسيق وثيق مع رئيس الوزراء. ثم حدثت الخيانة، أو ما سماه تاور “سلوك استفهاماته لا تزال تحتاج لفهم”. فقال إنه اختفى فجاءة أعضاء سياديون من العسكريين وبعض المدنيين لمدة أسبوع في أديس أبابا مستضافين بواسطة منظمة أمريكية دولية من رعاة السلام. وهو أمر لم يُعرض على اللجنة كمشروع ولا كموضوع. وكان كله من وراء ظهر المجلس ولجنته للسلام. ولا علم للمدنيين من أعضاء المجلس ممن لم يغادروا لأديس أبابا به.
ولما عاد الجماعة من أديس أبابا بعد أسبوع أطلعوا المجلس بأنهم حضروا ورشة بها وتلقوا فيها تدريباً في التفاوض. وأنهم التقوا ب”ناس الحركات” وقد قطعوا معهم شوطاً طويلاً في الإعداد لمفاوضات السلام. وتهربوا من أسئلة من أراد استيضاحهم عن تلك المهمة التي تمت من وراء ظهورهم ليقفزوا إلى التبليغ بأن ناس الحركات أطلعوهم أنهم لن يتفاوضوا مع الحرية والتغيير، المدنيين، ويفضلون التفاوض مع العسكريين لأنهم من تقاتلوا معهم في ميدان الحرب. وزادوا بأنه طالما كان نائب رئيس المجلس، محمد حمدان دقلو “حميدتي”، قد سبق له الاتصالات بالحركات المسلحة وبدولة الجنوب، المقر المقترح لاستضافة مفاوضات السلام السودانية، فليكن مشرفاً على السلام، ويكون الفريق ركن شمس الدين الكباشي كبير المفاوضين بينما يكون محمد حسن التعايشي ناطقاً رسمياً عن مفاوضي الحكومة. وهكذا انتقل ملف السلام من لجنة تاور إلى العسكريين مطعمين بمدنيين قبلوا بالأمر على علاته. وقال تاور إن العسكريين اختطفوا التكليف الدستوري للجنته بطبخة مدروسة وغير بريئة.
وأرخص بالاتفاق خروجه من جنس العهد إلى جنس الصفقة. فبدا من بنوده وكأن العسكريين زاهدون في محتوى الاتفاقية، بل وفي دستوريتها طالما استمالوا الحركات إلى صفهم. ولسنا نجد عبارة أدق من ” الخمج” لوصف الكسوب التي وقعت للحركات جراء هذه الصفقة. والخمج مصطلح سوداني في معنى البذل بلا حساب لمن واددت حتى تخرج عن “المعقول” بالمرة.
فليس من استهانة بلغت بمفهوم الدستور أشد نكيراً مما ورد في الاتفاق من أنه، إذا تعارض مع الوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية، يُزال من الوثيقة ما لا يتوافق مع نصوصه. فليست الحاكمية إذاً للدستور بعد الاتفاق الذي جب ما قبله. ومن مظاهر هذا الخمج التي لا تخطئها العين ما بدا من الاتفاقية وكأنها بصمت على تعيين مني مناوي والياً على دارفور. فجاء في اتفاق مسار دارفور في الاتفاق خطة لاستعادة نظام الأقاليم الذي سبق قبل أن تتحول الدولة عنه إلى نظام الولايات. وسيعرض هذا الأمر على مؤتمر خلال ٦٠ يوماً من التوقيع على السلام. ونص الاتفاق على قيام الحكم الإقليمي في دارفور اتفقت بقية أنحاء السودان في هذا المؤتمر الدستوري على عودة الحكم الإقليمي أو لم تتفق. فدارفور ستصير إقليماً في ظرف ٧ شهور من الاتفاق بغض النظر: انعقد المؤتمر أو لم ينعقد وأجاز المؤتمر العودة للحكم الإقليمي أو لم يجزها. ومتى قام إقليم دارفور صار عليه والياً. وكأننا في مسرح للعبث لا للسلام. فكيف يقوم لدولة قوام وجزء منها بوضعية الإقليم وبعضها الأخر بوضعية الولايات؟
وجاء الكسب للعسكريين في مجلس السيادة عداً رجّح كفتهم على الحكومة الانتقالية. فرتب الاتفاق لقيام مجلس باسم مجلس “شركاء الفترة الانتقالية”، الذي غلب عليه العسكريون وحلفاؤهم في الحركات المسلحة على قحت، وقلدوه بصلاحيات من شأنها “تخريد” مجلس الوزراء في مثل صلاحية الإشراف على الفترة الانتقالية بما فيها تمثيل السودان في المؤتمرات الدولية. وقاوم عبد الله حمدوك، رئيس وزراء الحكومة الانتقالية، هذا الاختصاص الذي قد يعد الانقلاب الأول الناعم على دولته. وقال الأكاديمي والصحافي جين بابتسي قالوين إن الثوار العائدين بكسبهم من الاتفاق سيلعبون دوراً كبيراً في توازنات المركز بما نالوا من نصيب في مجلس السيادة (3) ومجلس الوزراء (5) والمجلس التشريعي (25 في المئة). والواضح أن المكون المدني في السلطة الانتقالية، في قوله، خرج من هذه الاتفاقية على حال ضعف شديد. فقد صارع طويلاً ليكون نديداً للعسكريين. وها هو يرى حظه في مجلس السيادة يتضاءل. فصار، بعد دخول عسكريّ الحركات، في الطرف الناقص. واستفاد العسكريون من الاتفاقية بتمديد الفترة الانتقالية إلى أربع سنوات بدلاً عن ثلاث. وسيمكن هذا الفريق ركن عبد الفتاح البرهان ليبقي رئيساً لمجلس السيادة حتى مايو 2022 في حين كان المفروض أن تنتهي دورته في مايو 2021 ليحل مدني محله.
ولا نعرف خسارة ابتلت بها الحكومة الانتقالية من باب الاتفاقية في عظم تعطيلها قيام المجلس التشريعي الذي تقرر قيامه بالوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية. ووقع ذلك التعطيل بنص من تفاهم سبق التفاوض لاتفاقية جوبا نفسه عرف ب “إجراءات بناء الثقة والتمهيد للتفاوض” في 11 سبتمبر 2019 قضى ب”إرجاء تكوين المجلس التشريعي وتعيين الولاة لحين الوصول للسلام”. وهكذا لم تكد تنشأ الدولة الانتقالية في آخر يوليو 2019 حتى شلت “إجراءات بناء الثقة” يدها دون إنشاء المجلس التشريعي. ولم يقم المجلس، الذي حصلت فيه الحركات الموقعة على الاتفاقية على 25 في المية من عضويته كما تقدم، حتى انقلاب العسكريين على الحكومة المدنية في 25 أكتوبر 2021. ولم يكن العسكريون راغبين في قيامه لأنه مما يعزز شوكة المدنيين في الدولة. وينسب الكثيرون الآن نكسة التحول الديمقراطي إلى غياب ذلك المجلس الذي ترك غيابه فراغاً دستورياً معيقاً.
ونواصل
عبد الله علي إبراهيم
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الحکومة الانتقالیة المجلس التشریعی الجبهة الثوریة مجلس السیادة حرکات مسلحة من الاتفاق
إقرأ أيضاً:
إحالة تقارير متابعة أداء الحكومة ربع السنوية إلى اللجان المختصة
أحال المستشار الدكتور حنفي جبالي، رئيس مجلس النواب، بجلسة المجلس المعقودة اليوم الأحد، إلى اللجان النوعية بالمجلس، تقارير المتابعة ربع السنوية المقدمة من الحكومة عن معدلات أدائها خلال الربع الأول من عام ٢٠٢٤/ ٢٠٢٥ وهو العام الأول من تنفيذ برنامج عمل الحكومة.
وتتضمن التقارير معدلات الإنجاز المحققة على مستوى الأهداف الاستراتيجية والبرامج الرئيسية والبرامج الفرعية المتضمنة ببرنامج عمل الحكومة، وكذلك الخطة العاجلة للعام الأول من برنامج عمل الحكومة.
ويأتي هذا في إطار التزام الحكومة أمام المجلس بمتابعة تنفيذ برنامج عملها طوال فترة تنفيذه بما يسهم في رصد مستوى الإنجاز المحقق وتقييم الأداء الحكومي بشكل ربع سنوي بصورة واقعية تعكس معدلات الأداء الحقيقية.
ووجه المستشار الدكتور رئيس المجلس، الشكر والتقدير إلى الدكتور مصطفى مدبولي (رئيس مجلس الوزراء) على التزامه بتنفيذ تعهداته أمام المجلس أثناء منح الثقة لحكومته.
ووافق المجلس على تكليف اللجان النوعية المختصة بعقد اجتماعات داخلية لكل لجنة بين أعضائها لدراسة وتحليل ما يدخل في اختصاصها من هذه التقارير، وإعداد مذكرة في شأنها تتضمن بياناً بما تم تنفيذه من برنامج الحكومة خلال الربع الأول من العام الأول من برنامج الحكومة، ونسب الإنجازات المحققة على أرض الواقع، وما قد يتراءى للجنة من ملاحظات أو استفسارات أو توصيات لتحسين مستوى الأداء الحكومي والتغلب على أية عقبات قد تحول دون تنفيذ مستهدفات برنامج عمل الحكومة الذي وافق عليه المجلس في يوليو الماضي؛ لعرض هذه المذكرات على مكتب المجلس للنظر فيها.
لمعرفة حالة الطقس الآن اضغط هنا
لمعرفة أسعار العملات لحظة بلحظة اضغط هنا
الدكتور حنفي جبالي متابعة أداء الحكومة لجان مجلس النوابتابع صفحتنا على أخبار جوجل
تابع صفحتنا على فيسبوك
تابع صفحتنا على يوتيوب
فيديو قد يعجبك:
الأخبار المتعلقةإعلان
رمضانك مصراوي
المزيدهَلَّ هِلاَلُهُ
المزيدإعلان
إحالة تقارير متابعة أداء الحكومة "ربع السنوية" إلى اللجان المختصة
© 2021 جميع الحقوق محفوظة لدى
القاهرة - مصر
24 15 الرطوبة: 26% الرياح: شمال المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار bbc وظائف اقتصاد أسعار الذهب أخبار التعليم فيديوهات تعليمية رمضانك مصراوي رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك