حاضنات الابتكار الاجتماعي .. بلورة التوافق وإحداث التأثير
تاريخ النشر: 11th, March 2025 GMT
هيمنت العلوم الأساسية والتطبيقية على المشهد الابتكاري لعقود طويلة، واقتصر فهمنا للابتكار -تقليديا وتاريخيا- على خلق القيمة الاقتصادية من الاختراعات العلمية والتكنولوجية، وتحقيق الميزة التنافسية، وعندما يأتي الحديث عن حاضنات ومسرعات الأعمال كإحدى أدوات اكتساب القيمة من مخرجات المعرفة والابتكار، فإن الابتكارات الاجتماعية تكون غالبا غير بارزة، فهل حان الوقت للالتفات إلى هذه الابتكارات التي لا يقتصر تأثيرها على قطاع اقتصادي محدد مثل الابتكارات التكنولوجية، ولكن يتم استحقاق القيمة من الابتكار الاجتماعي والتأثير على الاقتصاد والمجتمع ككل؟
فإذا تتبعنا نشأة مفهوم الحاضنات والمسرعات، نجدها قد ظهرت في منظومات الابتكار كأطراف وسيطة، وذلك من أجل سد الفجوة بين الأوساط الأكاديمية وريادة الأعمال، ويتلخص دورها في ترجمة الأفكار المبتكرة إلى تطبيقات عملية، وتعمل الحاضنات في الواقع على منهجيات بسيطة وإن كان دورها الفعلي هام ومحوري، ووجودها في العملية الابتكارية يمكنه أن يحدث فرقا كبيرا في المخرجات، فالحاضنات في الإجمال توفر البيئة الداعمة للأفكار أو بذور الأفكار، وتوظف مختلف أشكال التعلم والتبادل المعرفي وتأسيس شبكات التعاون، والتكامل والتشبيك مع جميع أصحاب المصلحة والشركاء والمستفيدين، وعلى الرغم من أن الجيل الأول من الحاضنات والمسرعات لم يكن مرتبطا بشكل حصري بالابتكارات العلمية والتكنولوجية، إلا أنه قد جرى العرف بألا تضم هذه الحاضنات ابتكارات في التخصصات الاجتماعية ومختلف فروع العلوم الإنسانية، وهذا ما تسبب في تأخر ظهور حاضنات الابتكار الاجتماعي، ومع تنامي الأصوات التي كانت تنادي بأهمية قيادة الابتكار الاجتماعي وعملية وضع حلول التحديات الاجتماعية، وبأن الحلول التكنولوجية لوحدها ليست كافية في معالجة القضايا الاجتماعية، فقد تم تخصيص حاضنات ومسرعات للابتكار الاجتماعي، وتطور مسماها مع الوقت إلى ما يطلق عليه الآن «حاضنات التأثير الاجتماعي».
ففي سياق الابتكار الاجتماعي، يرتبط إحداث التأثير الإيجابي بتسهيل عملية اقتران الأفكار الإبداعية والابتكارية بأشكال جديدة وواسعة المدى من ريادة الأعمال التي تؤدي إلى النتائج الاجتماعية المنشودة. ويتطلب ذلك وجود هياكل مؤسسية، وعمليات معيارية منظمة لهذا الاقتران، ولهذا السبب، يجب أن يتم توفير البيئة التي يحدث فيها هذا الإبداع الاجتماعي، ويمكن اعتبار حاضنات التأثير الاجتماعي بأنها المكان المكافئ للحاضنات العلمية الداعمة للبيئات الصناعية والإنتاجية القائمة على التكنولوجيا، ولكن في صورة مختلفة ومغايرة تماما للمفهوم التقليدي للحاضنات العلمية، فالتحديات الاجتماعية تحدث في واقع حياة المجتمعات، وهذا عكس التحديات الصناعية التي تنشأ في نقاط دقيقة في خط الإنتاج، والتي يسهل تجريب الحلول المقترحة وتقييمها، ولكن ينفرد الابتكار المجتمعي بأنه متطلب من حيث الفترة الزمنية التي تمر بها هذه الحلول لتقييم نتائجها، وكذلك من حيث النطاق الواسع الذي يرافق تنفيذها، ونظرا لهذه الاختلافات الجوهرية في مقومات وركائز الابتكار الاجتماعي مقارنة بالابتكارات العلمية والتكنولوجية، فلا بد من التأكيد على أهمية الفهم الواعي لتفعيل حاضنات التأثير الاجتماعي دون استنساخ تجربة الحاضنات العلمية بحذافيرها، مما يستوجب وضع استراتيجية شاملة للابتكار الاجتماعي، بحيث تضمن تعزيز ومواءمة الإبداع الاجتماعي مع التوافق الاستراتيجي في معالجة الاحتياجات الاجتماعية الملحة، وتحقيق التأثير المطلوب، مع التفكير في إطلاق أشكال هجينة وغير تقليدية من الحاضنات والمسرعات لكونها محركات أساسية لتحقيق الابتكار الاجتماعي.
وعلى المستوى التشغيلي، يُعد الحيز المكاني لموقع الحاضنات العلمية من أهم العوامل المحددة لنجاح الابتكارات العلمية، حيث إن القرب المكاني للحاضنات العلمية من المراكز البحثية والابتكارية يساعد بشكل كبير في عملية انتشار المعرفة، واستقطاب الكفاءات العلمية، وتعزيز اكتساب المهارات التقنية، وهي جميعها عوامل حاسمة في تطوير الابتكارات التكنولوجية إلى منتجات أو خدمات قابلة للتصنيع والتسويق، وفي الجهة المقابلة فإن الابتكارات الاجتماعية لا تعتمد بشكل كامل على مخرجات الأبحاث النظرية، أو الرؤى الفلسفية وحسب؛ ولكنها تقوم على القيمة المكتسبة تشاركيا من المعرفة النظرية، والحكمة، والخبرة العملية، والفهم العميق للقضايا والتحديات الاجتماعية الأساسية، والتي من شأنها أن تعزز الاستجابة الريادية لهذه التحديات، وهذا بدوره يجعل من الموقع المكاني للحاضنات والمسرعات محورا ثانويا، وفي ذات الوقت يُظهر أهمية تعزيز روابط الابتكار، والاستثمار في رأس المال الاجتماعي، ولا يقتصر ذلك على مشاركة جميع الفاعلين والمستفيدين من العملية الابتكارية، ولكنه يتطلب صناعة جيل من رواد الأعمال الاجتماعية الذين يمكنهم تحفيز التفاعل بين منتجي المعرفة والابتكار الاجتماعي وبين قطاعات الأعمال والمجتمع بأكمله من جهة، ومن جهةٍ أخرى، يمكن لرواد الأعمال الاجتماعية أن يلعبوا دورا حاسما في خلق الطلب على الابتكارات الاجتماعية مما يساعد على إنتاج المزيد من الأفكار الابتكارية في المجالات الاجتماعية، وتوليد رؤى أكثر ثراء حول الروابط الإنتاجية بين حاضنات التأثير الاجتماعي والجهات المنتجة لهذا الابتكار، والمساهمة بشكل مباشر في تسريع جعل الابتكار الاجتماعي محركا مركزيا في أجندات ريادة الأعمال، وترسيخ تكاملها مع أبعاد مترابطة من أنواع الابتكارات الأخرى، والتي تقوم جميعها على بناء القدرات وإحداث التأثير المطلوب.
وبذلك يمكن القول بأنه لا يتمثل التحدي في الافتقار إلى الابتكارات الاجتماعية بحد ذاتها، بل في ضرورة تعزيز منظومة مستدامة لتوليد الابتكار الاجتماعي الذي يتسم بالفعالية في استكشاف الحلول الابتكارية ذات الإمكانات الواعدة، والتوافق بشكل وثيق مع الاحتياجات الاجتماعية، والقدرة على إحداث الأثر المنشود، وقد حان الوقت لإبراز هذا النوع من الابتكار، وتمكينه ليأخذ دوره بجانب الابتكارات العلمية والتكنولوجية، وتوفير البيئة المحفزة له على المستوى التنظيمي والتشغيلي، وتأتي حاضنات التأثير الاجتماعي كحلقة الوصل في تمكين هذا المسار، وذلك من حيث تسهيل الوصول إلى المؤسسات الابتكارية، والمبتكرين الأفراد الذين يمتلكون الفهم العميق للتحديات الاجتماعية، وفي الوقت نفسه، لديهم الأفكار حول كيفية حلها، ولكن تنقصهم القدرة التنظيمية الكافية لتطوير وتسريع هذه الأفكار بمفردهم، وتحويلها إلى مبادرات ومشروعات ذات قيمة ومردود، وكذلك تنقصهم أدوات توظيف رأس المال الاجتماعي، الذي يمثل الدعامة الأساسية في إنجاح الابتكار الاجتماعي، والوصول إلى الهدف الأوسع والمتمثل في خلق تأثير إيجابي وبطريقة مبتكرة ومستدامة وتمكينية للاقتصاد والتنمية الاجتماعية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الابتکارات الاجتماعیة العلمیة والتکنولوجیة الابتکار الاجتماعی الابتکارات العلمیة
إقرأ أيضاً:
الإمارات تقود الابتكارات المتطورة بمجال المركبات ذاتية القيادة
حققت الإمارات تقدماً في التنقل الذاتي والابتكارات المتطورة في مجال المركبات ذاتية القيادة، بفضل البرامج التجريبية الناجحة التي طبقتها والتزامها الراسخ بالابتكار في هذا القطاع.
وأشار التقرير الصادر عن "آرثر دي ليتل"، شركة الإستشارات الإدارية العالمية، إلى أن دولة الإمارات تعمل على بناء منظومة فعالة للتنقل تتسم بالتوازن بين الكفاءة التشغيلية وأهداف الاستدامة.
وأكد التقرير أن الإمارات تبوأت مكانة رائدة في هذا المجال، حيث حولت مدنها إلى مراكز للتميز في مستقبل قطاع النقل، ورسخت معياراً يحتذى به في تبني الأنظمة ذاتية القيادة عن طريق دمج البنية التحتية المتقدمة مع الشراكات الاستراتيجية.
ولفت التقرير إلى بروز التنقل الذاتي بشكل سريع كقوة تحولية على مستوى أنظمة التنقل العالمية خلال العقد المنصرم، إلا أن التوسع في استخدام هذه التقنيات لتلبية احتياجات الواقع لا يزال يواجه تحديات كبيرة نظراً لتعقيدات البنية التحتية والعقبات التنظيمية والتكاليف التي أدت إلى إبطاء وتيرة التقدم على المستوى العالمي.
وقال سمير عمران، الشريك في قسم ممارسات قطاع السفر والتنقل والضيافة لدى شركة "آرثر دي لتل" الشرق الأوسط، إن الإنجازات التي حققتها دولة الإمارات تجسد في مجال التنقل الذاتي رؤيتها الطموح التي تجمع بين الابتكار والتنفيذ الناجح، وتبين بوضوح كيف أن الأُطر التنظيمية الاستشرافية والاستثمارات في البنية التحتية تعد عنصراً حيوياً في بناء منظومة تنقل مستقبلية متكاملة سواء من خلال أُطرها التنظيمية المتقدمة أو استعدادها لتبني التقنيات الحديثة، مؤكداً أن تقدم الإمارات يعد نموذجاً يحتذى به في كيفية تحويل التنقل الذاتي إلى واقع ملموس.
من جانبه، أوضح توني هان الرئيس التنفيذي لشركة "وي رايد"، أن العوامل الأساسية لنجاح تطبيق المركبات ذاتية القيادة تتمثل في توفر الربط اللوجستي، والتقنية المتطورة، والتمويل الكافي، والقدرة على التسويق، والأُطر التنظيمية المناسبة.
وقال عمران إن مدينتي دبي وأبوظبي تحولتا إلى ساحتين رئيسيتين لاختبار تكنولوجيا المركبات ذاتية القيادة ،ففي دبي، قادت هيئة الطرق والمواصلات، بالتعاون مع شركة "كروز"، سلسلة من التجارب الناجحة لمركبات الأجرة ذاتية القيادة، وهو ما يثبت إمكانية دمج هذه التقنيات في البيئات الحضرية المعقدة، فيما أكدت أبوظبي على الابتكار في مجال النقل العام مع حافلات "وي رايد" ذاتية القيادة، التي أدت دوراً محورياً في مواجهة تحديات الربط اللوجستي، وتخفيف حدة الازدحام المروري.
وأكد حسن خيرت مدير مشروعات لدى "آرثر دي لتل" الشرق الأوسط، أن مبادرات الإمارات في هذا القطاع لا تقتصر على كونها إنجازات محلية فحسب، وإنما تساهم إسهاماً فعالاً في تطوير حلول التنقل الذكي على مستوى العالم، منوهاً بأن تركيز الإمارات على اختبار التقنيات الحديثة وإقامة شراكات مع رواد الابتكار العالميين يعزِز من مكانتها الريادية في رسم ملامح مستقبل قطاع النقل.
ويبشر التنقل الذاتي في منطقة الشرق الأوسط بتحقيق مكاسب اقتصادية وبيئية كبيرة، حيث من شأن التقنيات المستخدمة في هذا المجال المساهمة في الحد من الازدحام المروري، وما يترتب عليه من تأخير بنسبة 60%، كما يتماشى تبني الأنظمة ذاتية القيادة مع أهداف التنمية المستدامة لدولة الإمارات المتمثلة في خفض الانبعاثات الكربونية وتعزيز الكفاءة الحضرية.
وتؤدي الأُطر التنظيمية التجريبية التي تتبناها الإمارات دوراً محورياً في تحقيق هذه التطورات، إذ توفر بيئة تعاون مثمرة تجمع بين المبتكرين من القطاع الخاص مع الجهات الحكومية لتجربة هذه التقنيات الجديدة.