التطاوس الدرامي: أو معاوية بين الوفاق والشقاق
تاريخ النشر: 11th, March 2025 GMT
لقد كنتُ دومًا ألحُّ في تدريسي لطلبتي على الفارق البائن بين عالم الواقع وعالم التخييل، بين الواقع في حدوثه والعمل الفنيّ الذي يتمثَّله ويعيد إنتاجه بأدوات تختلف جذرًا وأصْلا عن أدوات الواقع، لكن تركّز في ذهني مؤخَّرًا أنّ الواقع المتخيَّل يُمكن أن ينغرس في الأنفس والأذهان من حيث هو واقعٌ عينيٌّ مرجعيّ، يصعب أن تُعدِّله أو أن تضبِطَه حقائق التاريخ -إن وُجدت في التاريخ حقائق مُطلَقة- أو أن تؤسِّس لتصوّر جديد، أقول هذا الحديث، وأستحضرُ في ذهني فيلمًا لمصطفى العقَّاد أثَّر في أجيالٍ ومن ضمنهم جيلي، وهو فيلم "الرسالة"، فلا يُمكن أن أتقبَّل هند بنت عتبة في غير صورة منى واصف الغاضبة الحاقدة أو "إيرين باباس" (في النسخة الإنجليزية) ذات النظرة الحاملة لكلّ المعاني المكوِّنة للشخصيّة، ولا يُمكن أن أُدرك صورة حمزة بن عبد المطّلب على غير الشكل والعمق الذي بان عليه عبد اللّه غيث، أو "أنطوني كوين" (في نسخته الإنجليزيّة) وهو يؤدّي الدّور، هي شخصيّات تمثّلت الشخصيّات التي تؤدّيها وأفرطت في التعبير عنها، وتركت في أنفس مشاهديها أثرًا وصورة لشخصيّات التاريخ التي أدّتها، حتّى رسمت لدى المشاهد يقينًا وقناعةً أنّها هي الشخصيَّة، ولذلك فقد ترسّخت في الأذهان وعطَّلت كلّ تصوُّر مختلف للشخصيّات التي أدّتها، ولا غرابةَ في ذلك إزاء نصّ عمل عليه نُخبة من خيرة العقول العربيّة المبدعة سردًا وتاريخًا، هاري كرايغ، الكاتب الإيرلندي الشهير الذي كتب لورنس العرب، وكتب أيضا عمر المختار، إضافة إلى توفيق الحكيم، وعبد الحميد جودة السحّار، وعبد الرحمن الشرقاوي، ومحمد علي ماهر، تحت رقابة مرجعيّات دينيّة مختلفة ومتباينة.
علاقتنا بالتاريخ معقَّدة ولم تتوضّح بعد، وكلّ عملٍ دراميّ حول التّاريخ هو حمَّال جدل، باعث خلاف بالضرورة، في ظلّ تعميَةٍ علميَّة وعامّة عن شؤون التاريخ وشخصيّاته، وفي ظلّ انعدام قراءة جليَّة واضحة علميّة للتاريخ العربيّ الذي ما زال مليئا بالتصوّرات والاعتقادات والأفكار المسبقة. لم نكن -نحن العرب- يومًا في تصالحٍ مع تاريخنا، ولم تُقَدّم دراسات جادّة وجديَّة عن تاريخ العرب، بعيدًا عن التفاعل الإيديولوجي أو المذهبي أو العقدي.
تاريخ العرب لا يختلف عن تاريخ الأمم، ففيه من السُّوء ما فيه الحُسْن، وفيه من الشخصيَّات ما يُعَدُّ مثالاً يُقْتَدى به ويُهْتَدَى، وما يُعَدُّ مثالاً يُنفَر منه ويُبتَعَد عن نهجه ومساره. حياةُ التاريخ هي حياتنا، لا قداسَةَ فيها ولا صفاءَ، وإنّما هو التَّاريخُ بصفائه وكَدَره، بمكائده ومحاسنه، بأفضاله وفضْلاته، لا ينبغي التعامل معه بانتماءٍ مُنزِّهٍ، ولا بانتماءٍ مُنَفِّرٍ.
عندما أريد قراءة تاريخنا العربي لا نظفر بموسوعات تحدّد المصادر الضروريّة لمرحلةٍ في التاريخ أو لشخصيَّة من شخصيّاته، وباستثناء الجهد الكبير الخارق للمجهود البشري الذي قام به المؤرِّخ جواد علي في كتابه الموسوعي الهامّ "المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، الصّادر في عشرة أجزاء، والذي لم يتمكّن من إكماله بملحقه الذي صدر منه جزء فقط، وهو "تاريخ العرب في الإسلام"، فإنّنا نكاد لا نظفر بأعمالٍ جادّة وجديَّة وموسوعيّة تضبط تاريخ العرب وشخصيّاته ومواقعه وملابسه ومآكله، فللملبس تاريخ وللمأكل تاريخ، وللجدران تواريخ، وإن لم تتوفّر هذه الأرضيّة الموسوعيّة فإنّ إنجاز عمل دراميّ تاريخيّ يصير مصدر إشكال، ومنبت خلاف.
وعلَّة هذا الحديث ما راج من هرجٍ ومرجٍ في الساحات الثقافيّة والمنصّات الافتراضيّة حول العمل الدرامي الذي أنجزته قناة "أم بي سي" حول شخصيَّة تاريخيَّة هي شخصيّة معاوية بن أبي سفيان، وشخصيّة معاويَّة من الشخصيّات التاريخيّة غير المتَّفق حول صورتها وأثرها، حول شرّها المطلق أو خيرها المطلق، وهي شخصيَّة داخلة (في التصوّر العامّ، بشكل أو بآخر) في أصْل الخلاف المذهبيّ في الإسلاميّ، وفي منبت تفرُّق الأمّة ودخولها في الغمَّة، لكن كلّ ذلك لا يعنيني بشكل أصليّ، فأغلب شخصيَّات التّاريخ في كلّ العالم هي شخصيّات مختلف في أمرها، قد تُرَدُّ إلى حُسن أو إلى سوء، ما يعنيني أساسا أنّ النّاس دخلوا في تلاسن ودعوا إلى إيقاف المسلسل، وحملوا عليه حملا ثقيلاً، وهجموا على أصوله وفروعه، وكعادة الحياة الثقافيّة عند العرب، فإنَّ الظاهرة إذا لُفِظت ورُفِضَت حَلَتْ وعَلَت.
رأيي الأوّلي في هذا العمل الدرامي أنّنا صمنا وأفطرنا على جرادة، يعني أنّنا انتظرنا طويلا أن تُعْرَض أعمال تاريخيّة فارقة، تصنع صورة عن حوادث التاريخ وشخصيّاته، أعمالٌ تُواصل ما شرع فيه مصطفى العقّاد، بنفس الجديّة والحلم، ولكن عندما جاء هذا العمل بوهنه الفنيّ وضعف حبكته الدراميّة، وددت لو سكتنا وبقينا على صومنا.
مسلسل "معاوية" الذي يُعرَض بمناسبة شهر رمضان الكريم هو فُرصةٌ لنقف متأمِّلين حول جهلنا بالتّاريخ، ومع الأسف فإنّ النصّ الذي عمل عليه مُخرجان، أحدهما انسحب والثاني أكمل العمل برؤيته، هو نصّ جدّ ضعيف، وكاتبه الصحفي خالد صالح لم يُحسن ضبط الشخصيّة وصدر عن فكرٍ وفاقيّ جامعٍ لا رؤية فيه، فالحلقات الأولى قدّمت مُلخَّصًا ضعيفًا لبيئة معاوية، وإجمالاً سريعًا لغزوات الرسول عليه الصلاة والسّلام لم تكن ذات فائدة في إحداث أرضيَّة دراميّة فيها تتحرّك الشخصيّة، أخطاءٌ عديدة في كتابة النصّ تاريخيّا، لذلك قلنا إن التعامل مع التاريخ صعب ولا يتيسّر لكلّ عابر كتابة، فالتاريخ حتّى يُكتب نصّا دراميًّا يحتاج تمثُّلا ووعيًا وإدراكًا ثم يكون التخييل من بعد ذلك، ومع الأسف فإنّ نصّ معاوية لم يكن بالتاريخي ولا بالتخييلي، وإنّما هو تبسيط وتسطيح وعمل على إرضاء الجميع.
أضف إلى الوهن النصّي، الضعف الإخراجيّ الذي استثمر أموالا طائلةً دون أن يُبدي روعةً في الإخراج قد تجبّ السقطات في كتابة النصّ، فاختيار الممثّلين أظهرهم في صورة المؤدّين مسلوبي الهويّة، لا ذوات لهم، صُورٌ بلا ملامح، وأداءٌ ضعيفٌ، ولا نريد الدخول في تفاصيل الملابس ولا الديكور ولا الزوايا التي يتخيّرها لاختيار المشاهد، ولا اللهجة الغالبة على المؤدّين، التي تجعل اللّغة العربيّة التي يستعملونها في حاجة إلى مزيد ضبط وتصحيح.
إنّ لي في شخصيّة معاوية قولاً مديدًا ورأيًا سديدًا لا يتَّسع له هذا المقال الوجيز، ولذلك خرجت من كُتبي وأردت أن أرى ما فعل الصّالحون في تمثيل هذه الشخصيّة الإشكاليّة في التاريخ الإسلامي، وما هي الإضافة الفنيّة أو -كما قال كاتب العمل ومخرجه- الرؤية التصحيحيّة التي تُخرج معاوية من دائرة الشّقاق إلى دائرة الوفاق، فلم أجد إلاّ فخامةً في الملابس وأموالاً بُذرت دون وجهةٍ أو رأيٍ أو رؤيةٍ. لم يكن العمل بدعة فنيّة إخراجًا وتصوّرا، ولم يكن أثرًا باقيًا نصّا وكتابةً، فكان فخامة زبَدٍ، وشكلاً متطاوسًا دون معنى.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: تاریخ العرب شخصی ة
إقرأ أيضاً:
بعد دعوات المقاطعة والهجوم.. مؤلف "معاوية" يتحدى المشاهدين
رد الكاتب المصري خالد صلاح مؤلف مسلسل "معاوية" الذي يُعرض في رمضان 2025، على الانتقادات المتواصلة للعمل والتي وصلت إلى حد المقاطعة، كما أعرب عن استنكاره من قرار بعض المؤسسات بوقف العرض، موضحاً أن هذا القرار هدفه الحد من التفكير.
سعيد بالنقد وفي مقابلة تلفزيونية أوضح مؤلف "معاوية" أنه يتابع النقد الذي يتعرض له المسلسل، مشيراً إلى أنه سعيد به، لأن هدفه الأساسي من العمل هو دفع المشاهد للبحث والتفكير، حتى لو اختلف معه في وجهات النظر.وأضاف أن مسلسل "معاوية" عمل يُحفز على التفكير والاختلاف، مشدداً على أن البحث واجب على كل الناس باختلاف العصور.
وعن المراجع التي لجأ إليها للكتابة، أوضح خالد صلاح أن كُتب التاريخ جميعها كُتبت بروايات متضاربة، لافتاً إلى أن سنة ميلاد "معاوية" نفسها أُدرجت بأكثر من تاريخ مختلف، ولكن الفيصل لديه كان المؤرخون التاريخيون الذين سجلوا سنة الوفاة. يتحدى المشاهدين
وتحدى خالد صلاح المشاهدين، الذين أثاروا الجدل حول الجُمل المنطوقة على لسان الصحابة في العمل، موضحاً أن كل هذه الجُمل مذكورة في الكتب، وليست من تأليفه.
وقال: "أتحدى أي شخص يقول إن ما في العمل ليس من الكتب، سيدنا علي بن أبي طالب بالذات كنا حريصين على اختيار منطوق كلامه من كتب التاريخ".
وشدد خالد صلاح على أن الجهة المنتجة كانت حريصة على اتباع النص التاريخي خاصة فيما يتعلق بالأحداث الكبرى، فيما دون ذلك كان التحرك متاحاً بحرية أكبر.
وأكد مؤلف العمل الأكثر جدلاً في رمضان 2025، أنه التزم بالنصوص والأحداث التاريخية، ولكنه أضاف بعض الخطوط الدرامية من خياله منها قصص الجواسيس التي لم يذكر التاريخ سوى القليل عنها.
A post shared by ET بالعربي (@etbilarabi)
الجدير بالذكر أن مسلسل "معاوية" هو دراما تاريخية تُعرض خلال شهر رمضان 2025، وهو من تأليف خالد صلاح وإخراج طارق العريان، ويضم في بطولته كل من لجين إسماعيل في دور معاوية بن أبي سفيان، إياد نصار في دور الإمام علي بن أبي طالب، أيمن زيدان في دور عثمان بن عفان، سامر المصري في دور عمر بن الخطاب.
خاص| طارق الشناوي يدافع عن "معاوية": النقد معتاد.. وحاتم علي ترك فراغاً - موقع 24منذ الإعلان عن مسلسل "معاوية"، وهو يواجه موجة واسعة من الجدل، ازدادت حدتها مع بدء عرضه خلال الموسم الرمضاني الحالي، حيث انقسمت الآراء بين من يراه عملاً جريئاً يتناول مرحلة مفصلية في التاريخ الإسلامي، وبين من يوجه له انتقادات حادة تتعلق بالطرح الدرامي والمعالجة الفنية.
ويُعرض المسلسل على قناة MBC ومنصة شاهد، وتم تصوير مشاهده في تونس، ورغم الإنتاج الضخم، أثار المسلسل جدلاً واسعاً في بعض الدول، حيث أعلنت هيئة الإعلام والاتصالات العراقية منع بثه، مشيرة إلى أن "بث أعمال ذات طابع تاريخي جدلي قد يؤدي إلى إثارة السجالات الطائفية، مما يهدد السلم المجتمعي".