لجريدة عمان:
2025-03-12@05:00:08 GMT

توبة الإمام راشد بن علي

تاريخ النشر: 11th, March 2025 GMT

التراث العماني في موضوع السياسة الشرعية حافل بالآثار من سِيَر ومؤلفات وجوابات، ولعل الكثير مما كُتِب في باب العلاقة بين الحاكم والمحكوم مبثوث في أبواب أخرى من الفقه، أي في غير المؤلفات المستقلة بموضوع السياسة الشرعية. وتطالعنا مجاميع السِّيَر العمانية بنص يثير جملة من التساؤلات وهو ما عُرِف بـ«توبة الإمام راشد بن علي» أحد أئمة القرن الخامس الهجري في آخره، وصيغة التوبة هذه فيما يُفهَم من السياق قد صاغها الفقيه أبو علي الحسن بن أحمد بن نصر الهجاري (ت:503هـ).

وإلى جانب مجاميع السِّيَر العمانية فقد نُقِلت هذه السيرة أيضًا في الجزء الخامس من كتاب (بيان الشرع) في أبواب التوبة، مع إشارة إلى أنها من الزيادة المضافة إلى الكتاب.

والنص كما نقلناه بالجمع بين مجموع مخطوط في السِّير العمانية ونسخة من جزء (بيان الشرع): «أنا أستغفر الله وتائب إليه من جميع ذنوبي كلّها، قليلها وكثيرها، صغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها، ما علمتُ منها وما لم أعلم منها، كان ذلك منّي، على العلم أو الجهل، أو الخطأ أو النسيان، أو التديّن أو الاستحلال أو التحريم، كنت متأوّلًا فيه، أو دائنًا به، وممّا ارتكبتُه وأمرت به، ممّا عملته جوارحي، أو تكلّمته بلساني، أو اعتقدته بقلبي، وتائب إلى الله تعالى من السيرة التي سرتها بغير العدل، مخالفة للحق، ومن كلّ خطأ منّي، في إلزام أهل النواحي الخروج منها، ومن تركي النكير على نجاد بن موسى بعد علمي بالسيرة التي سارها مخالفة للحق والعدل، ومن ولايتي له على ذلك، وتوليتي إيّاه بعد علمي بأحداثه وفعله، ومن الجبايات التي أمرت بها وجبيت بغير حق، وأنفقت في غير أهلها ومستحقها، ومن العقوبات التي عاقبت بها بغير الحق أو تعدّيت فيها بغير الواجب، وأمرت بذلك من فعله، ومن إخلافي لكل وعد وعدته ولم أُوفِ به ورجعت عنه، ومن تقصيري عن القيام بما يلزمني من الحق والعدل.

ودائنٌ لله تعالى بما لزمني في الأحداث التي أُحدِثَتْ في القرى على أهل القبلة من الخراب والحرق، وأخذ الأموال وعقر الدواب، والأحداث في تخريبها، وما جرى من العساكر التي أخرجتها، ومن كلّ حرب حاربتها، وسُفِكَتْ الدماء فيها بأمري، وملزم نفسي ذلك ما لزمني من حق وضمان، ودِيَة وأرش وغير ذلك، فأنا دائن لله بالخروج منه والخلاص إلى أهله ومستحقّيه، وقابل قول المسلمين، وراجع إلى قولهم، وقابل نصيحتهم، ونادم على ما سلف منّي في تخويفي أحدًا من المسلمين، أو عقوبته بغير ما يلزمه، ومعتقد أنّي لا أرجع إلى ذنب أبدًا، وإن علمت بذنب بعد هذه التوبة ولم أتب منه فهو داخل في هذه التوبة، وهذه لازمة لي إلى الممات، ومن كلّ تولية والٍ وليتُه ولم يكن لي أن أولّيه.

شهد الله وكفى بالله شهيدًا، ومن حضر من المسلمين. وكانت هذه التوبة من الإمام راشد بن علي بحضرة القاضي أبي عبد الله محمّد بن عيسى، والقاضي أبي علي الحسن بن أحمد بن نصر الهجاري، والشّيخ أبي بكر أحمد بن عمر بن أبي جابر، وأخيه أبي جابر محمد بن عمر بن أبي جابر، وعلي بن داوود، وعبد الله بن إسحاق المنقالي، وغيرهم من المسلمين، وكانت هذه الشهادة يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة».

والتاريخ في آخر النص يتردد في النُّسخ المخطوطة بين 472 و492هـ، ويظهر أن تاريخ انقضاء حكم هذا الإمام غير معلوم على وجه الدقة، غير أن وفاة القاضي أبي علي الحسن بن أحمد بن نصر الهجاري مثبتة سنة 503هـ، ونرى في آخر النص أن جملة من العلماء قد حضروا إقرار هذه التوبة، منهم القاضي أبو عبدالله محمد بن عيسى السرّي (ت:501هـ)، وهو الذي وجَّه إليه الإمام راشد بن علي يسأله عن هذه التوبة فأجابه بجواب طويل جاء في ديباجته: «سألت عن التوبة التي دعاك الجماعة إليها، والكتاب الذي كتبتُه فيها، فاعلم أني نظرتُ في ذلك على قدر ضعفي، وقلة بصيرتي، فرأيت الكتاب يشتمل على معانٍ كثيرة يطول شرحها، غير أني أذكر لك من ذلك ما يسر الله...»،

وبإمعان النظر في نص التوبة وفي جواب القاضي أبي عبدالله محمد بن عيسى السرّي قد يدور في الذهن سؤال عريض: كيف أبقى العلماء الذين هم أهل الحَلّ والعقد على الإمام في منصبه وصاروا إلى استتابته في مقابل كل ما ورد في التوبة؟ وهو عين ما حدسه القاضي السرّي نفسه في آخر جوابه حين قال: «ولو أن الجماعة عند استتابتهم لك سلكوا بك مسلكًا غير هذا المسلك الذي حملوك وحملوا أنفسهم عليه، ربما كان أسلم لك ولهم أخف وأسهل عليك وعليهم، فلولا مخافتي أن لا يسعني السكوت ولا التغافل عن جوابك فيما سألتني عما يلزمك في تلك التوبة فاستصعبتُ الإمساك عن رد جوابك».

ونختم أن نقرأ في هذه التوبة كذلك قوة تأثير أهل الحل والعقد ونفوذهم، ففي نص التوبة التصريح بكثير من الأحداث التي أخذوها على الحاكم، وفي جواب القاضي محمد بن عيسى السرّي كذلك كثير من الملامة والعتب والشك في صحة التوبة، وهو ما يدفع إلى السؤال أيضًا: كيف نجمع بين حضوره إقرار هذه التوبة وبين ما ورد في جوابه؟ بل يُفهَم من قوله: «سألت عن التوبة التي دعاك الجماعة إليها، والكتاب الذي كتبتُه فيها» أنه هو كاتب التوبة، ويقول المؤرخ سيف بن حمود البطاشي: «ولعل القاضي أبا الحسن هو الذي أملاها على كاتبها، وهو الفقيه محمد بن عيسى».

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: محمد بن عیسى هذه التوبة أحمد بن السر ی

إقرأ أيضاً:

شيخ الأزهر يوضح الدلالات اللغوية والشرعية لاسم الله «المقيت»

أكد فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، رئيس مجلس حكماء المسلمين، خلال حديثه اليوم، الأحد، بالحلقة التاسعة من برنامج «الإمام الطيب»، أن اسم "المقيت" هو أحد أسماء الله الحسنى الثابتة بالقرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع الأمة، مشددًا على أهمية فهم الدلالات اللغوية العميقة لهذا الاسم لتعميق الإيمان وإدراك عظمة الخالق.

وبيّن شيخ الأزهر، أن اسم الله "المقيت"، ورد في القرآن الكريم في سورة النساء: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مَقِيتًا﴾، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي يعدد أسماء الله الحسنى، موضحا أن أصل المقيت مشتق من "القوت" الذي يُقيم حياة الإنسان، موضحًا أن الفعل "قاتَ يَقُوت" يرتبط بتوفير الطعام والشراب كضرورة لبقاء الأحياء، وهو ما ينطبق على الله تعالى كمُمدِّد الأرزاق لكل المخلوقات، مستشهدًا بقوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾.  

دعاء للأبناء بعد صلاة الفجر .. ردّده ليشرح الله صدورهم ويهديهممتى يُستجاب الدعاء.. وأفضل وقت له ؟

كما تطرق فضيلته إلى الخلاف اللغوي حول معنى "المقيت"، حيث ذهب بعض العلماء إلى أن الاسم يحمل معنى "الشاهد" أو "القادر"، مستندين إلى تفسير ابن عباس رضي الله عنهما الذي فسَّر "مقيتًا" بـ"قادرًا"، وإلى استشهادات من الشعر الجاهلي الذي استخدم اللفظ بمعنى القدرة على الفعل، مثل قول الشاعر: «كُنتُ عَلَى مَسَاءَتِهِ مَقِيتًا» (أي قادرًا على رد الإساءة).  

وأشار فضيلته إلى أن اللغة العربية تُعد أداةً أساسية لفهم القرآن الكريم، لافتًا إلى أن بعض اشتقاقات الأسماء – مثل "المقيت" – قد تخرج عن القياس النحوي المألوف، لكنها تثبت بالسماع (كاستخدامها في القرآن والشعر العربي)، حيث أعطانا معنى شاهد بحروف مختلفة عن المصدر، مؤكدًا أن «السماع حجة لا تُعلَّل، بينما القياس يُعلَّل».  

وختم الإمام الأكبر حديثه بالتأكيد على أن تعلم اللغة العربية عبادة، لأنها تُعين على فهم كتاب الله تعالى، الذي نزل بلسان عربي مبين، مشيرًا إلى أن إعجاز القرآن لا ينفد، وأن من إعجاز القرآن أنك تجد المفسر مثلا حجة في البلاغة، أو فقيه يملأ تفسيره من هذا الفقه، كما أن كل عصر يكتشف فيه جوانب جديدة من حكمته.

مقالات مشابهة

  • وزير الأوقاف يستقبل وفد مؤسسة مساجد لتعزيز التعاون
  • شيخ الأزهر: العلماء اتفقوا على أنه لا ترادف في أسماء الله الحسنى
  • كتاب الإمام راشد بن سعيد في اجتماع كلمة أهل عُمان
  • محمد أبو هاشم: الإمام أبو حنيفة وضع أساس الاجتهاد الفقهي الذي يسر على المسلمين
  • بطريرك الروم الأرثوذكس بسوريا: في الصوم الكبير يناجي كلٌّ منا الله
  • تكبيرات عيد الفطر 2025 وعدد ركعات الصلاة
  • شيخ الأزهر يوضح الدلالات اللغوية والشرعية لـ اسم الله «المقيت»
  • شيخ الأزهر يوضح الدلالات اللغوية والشرعية لاسم الله «المقيت»
  • شيخ الأزهر: تعلم اللغة العربية عبادة لأنها تُعين على فهم كتاب الله تعالى