منذ مدة طويلة لما أغرق في رواية حد القشعريرة، رواية بها كل الأجواء التي تأخذ القارئ إلى البعيد، لكن الأقدار جمعتني مع الصفحات الأخيرة من رواية «الحرب» وأنا في سماء السفر، أغادر من مسقط ليلا على متن رحلة متجهة إلى الرواية، هنالك في السماء حيث تكون القوانين مختلفة، والمشاعر متدفقة بشكل مختلف، هنالك حيث يجد المرء الصور الكبرى للأشياء، ويبصر في المرايا الممتدة بين السماء والأرض كل الكلمات ومعانيها.
قبل الحديث عن الرواية لابد من الإشارة إلى المستويات الثلاثة التي أجد التاريخ يقرأ من خلالها، المستوى الأول هو الزاوية الأفقية العلوية الواسعة على شريط الزمان، حيث القرون تمتد منذ أقدم ما عرفته البشرية بشكل أفقي، وبشكل عمودي تتوزع الدول والأمم، الملوك والقادة، الشخصيات الخالدة والأحداث المفصيلة، وما يفعله كتبة التاريخ أنهم يوثقون كل التفاصيل عبر كتابة التاريخ، مع الإشارة هنا إلى أن هكذا تاريخ يكتبه المنتصر غالبا، وفي ذلك قصور كبير، وفقد كثير، ونظرة جافة جامدة.
المستوى الثاني الذي يكتب به التاريخ هو الفن والأدب، فالفنون والآداب تحكي عن الإنسان عبر تاريخه الممتد، وتعكس كيف عاش حياته، يومياته وتفاصيله الدقيقة والمهملة، الشخصيات المحورية والهامشية أيضا، الأدب تحديدا بشعره ونثره ينظر إلى التاريخ من داخله وليس من نظرة أفقية، فالشعر يتلمس قلب الإنسان ويحمل شعوره وأحاسيسه عبر القرون، فمن يقرأ قصيدة جاهلية سيشعر بما تحمله من إحساس ومشاعر، ومن يقرأ رواية متقنة سينتقل إلى زمن الرواية ومكانها، سيسكنها ثم ستسكنه هي.
المستوى الثالث لدراسة التاريخ يكون عبر التأريخ الشفهي، ذلك الذي يحمل بالصوت تفاصيل كثيرة تصل سريعا إلى المتلقي، ولكن لطول المدى وصعوبة تناقل التاريخ الشفهي لا يبقى منه كثيرا إلا ذاك الذي يصلنا عبر الأدب، ومؤخرا صار يوثق بطرق تقنية مختلفة، ومرة أخرى يحضر الأدب ودوره الصادق في توثيق التاريخ من وجهة نظر المنتصر والخاسر، المتمكن والمهمش، القوي والضعيف، ليقدم زوايا مختلفة تطل على التاريخ.
تتناول رواية الحرب للكاتب محمد اليحيائي أحداثا من التاريخ المتأخر، والتاريخ المتأخر هنا أقصد به المائة عام الأخيرة، أجد أن سرد التاريخ وأحداثه يكون دائما بحذر كلما كان الحدث قريبا، ولأسباب كثيرة، منها قدسية الشخصيات التاريخية، بل وحتى حضورها وسطوتها، والهالة التي تبقى من بعدها، وأحيانا الأنصار الذين ربما لن يرضيهم أن يذكر أبطالهم وقادتهم بكل حيادية تناسب ما بعد رحيلهم، لذا لا يخلو الأمر من ميل لجهة دون أخرى، أحيانا يكون الميل أكبر نحو التمجيد، وأحيانا يكون بشكل انتقامي يهدم كل الجوانب المشرقة في الشخصية.
أما على مستوى القضايا نفسها فإن الصراعات ذات البعد الطائفي والقبلي والجغرافي ستكون أيضا محاطة بالكثير من الحذر، لذا لن تُطرح بشكل واسع، بل ستؤطر وتحد، وستخرج للملأ بشكل مقنن.
لهذه الأسباب وأكثر ستجذبنا رواية تتحدث عن التاريخ المتأخر، لهذه الأسباب وأكثر نحب الروايات دون باقي الكتب التاريخية الأكاديمية؛ لأن الرواية ستحكي الموضوع بشكله الفني ومن الداخل، من رؤية الإنسان ومن زوايا شخصيات الرواية، ومن خلالها سيمرر الكاتب الكثير من الأفكار الصادمة وهو يرفع يديه ببراءة مدعيا أنها أفكار الشخصيات وزواياها التي تبصر منها الأحداث. في اللحظة التي أنهي فيها رواية الحرب أحرك رأسي ذات اليمين وذات الشمال لمرات عديدة وأنا أردد: يا ساتر يا ساتر، ذلك أن الروايات المصنوعة بإتقان تأخذ القارئ إلى عوالمها، فيعيش في زمانها ومكانها، وربما في أزمنتها وأمكنتها، وتحديد المكان أسهل، إذ مسميات الأماكن شبه واضحة، لكنها ليست تماما إذ الحدود بين المكان والآخر ليست خطا صغيرا، أما عن الزمان الذي هو أشد دقة ووضوح في ثوانيه والأجزاء من الثانية، فالزمان وإن كانت تفاصيل تاريخه واضحة إلا أن الأحداث المرتبطة به ليست بذات الوضوح والسطوع، الأحداث تتداخل أزمنتها بشكل مدهش، فليس يوم ميلادك إلا امتداد لتاريخ أبويك وأجدادك من قبلهم، وكذلك هي الأحداث رقم واحد في مصفوفة كبيرة، أما عن زمن الرواية فهذا هو المدهش، فالرواية القوية المتقنة الصنع لا تنتهي عند آخر صفحة، بل تمتد في مخيلة القارئ، وهي لا تبدأ عند أول صفحة، بل تمتد قبل ذلك في قراءاته السابقة. في رواية الحرب مثلا لابد للقارئ أن يحيل أحداث الحرب التي تسردها الرواية على لسان الشخصيات وبطرق سينمائية استرجاعية؛ لابد للقارئ أن يكون ملما بتلك الحقبة التاريخية ولو بشكل مبسط، وأن يسقط مجريات الرواية على كل معارفه السابقة المتعلقة بحرب الجبل الأخضر وثورة ظفار، بل والأمر أوسع من ذلك حين تترك الرواية للقارئ أن يرسم مساره الخاص معها، وهذا ما يحدث مع كل رواية، أو حتى مع كل كتاب ومعرفة، كل ما نطالعه يسقط في دائرة معارفنا السابقة وما يقع في مناطق الجذب فيها، والقراءات ليس إلا التقاطات لجمل وأفكار وأحاسيس نضعها في غرفها التي تناسبها في معرفتنا وعلمنا، لذا يقرأ كل واحد الكتاب بطريقة مختلفة، ويستنتج أفكارًا مختلفةً عن التي يستنتجها الآخر، وليست كل رواية تفعل ذلك، هنالك روايات أوسع من القارئ وروايات أخرى يأكلها القارئ لقمة واحدة فيكون هو أوسع منها.
كنت في بداية الرواية أبحث عن الحرب الذي هو عنوان الرواية، لكنني لم أجد الحرب ولا حتى الحب، حتى وإن قال محمد اليحيائي إن بينهما حرف راء يسقط فتصبح الحرب حبا، وإن بدا هذا التقارب بسيطا في شكله الكلمي فإنه ليس بهذا القرب أبدا، الحرب في الجانب الأبعد من الحب؛ إلا في رواية محمد اليحيائي، فهذا الكاتب يسحبك إلى أحداث ضبابية، وشخصيات كل منها يأتي من ناحية تختلف تماما عن الآخر، ليجمعهم في النهاية الحب أو الحرب، أو ربما كليهما، فيسرد هو من خلال تلك الأحداث تاريخ الحرب، ولكن ما هي الحرب؟ هذا السؤال الذي يجعلك محمد اليحيائي تجيب عنه بسهولة ولكنه في ذات اللحظة يجعلك تتوه بين الحروب كلها، لتقرأ واقع العالم وتحركاته ككل، فالحرب التي تدور في الجنوب ليست بمنأى عن حرب الشمال، وثورة الجنوب ليست بمعزل عن حركة الإمامة ومفاوضاتها، والحرب التي تبدأ لا تنتهي أبدا، تبقى موجاتها الارتدادية تعود، أما الشخصيات التي تأتي من جانب بعيد يجمعها اليحيائي في رواية الحرب ليس على مستوى شخصيات الرواية وارتباطاتها بحرب ما، بل حتى أنه يخبرك في قالب روائي على لسان الشخصيات عن علاقة الحروب ببعضها، وعن علاقتها بالثورات والحروب التي حدثت في ذات الحقبة الزمنية، هو ينظر للشأن الداخلي بنظرة سياسية شاملة لكل الموجات والأفكار المحيطة في المنطقة العربية والعالم، ومن جهة أخرى، يصور لك الحرب بنظرة مختلفة، فلا تملك إلا أن تتخذ المواقف كلها، وتنظر لما حدث من زاوية الحاضر؛ تلك التي تختزل كل ما حدث فيما نحن فيه اليوم.
إن التاريخ المتأخر لعمان وما حدث فيها خصوصا في الفترة ما بين حرب الجبل الأخضر وثورة ظفار، وما قبل ذلك وما بعده بسنوات لهو تاريخ مفصلي، والأحداث التي صاحبت ذلك عالميا، بالإضافة إلى النقلة النوعية السياسية لعمان عند عام ١٩٧٠، كل هذا مع قلة ما يكتب وما يطرح عن تلك الحقبة جعلها محاطة بالكثير من الضبابية إن لم يكن العتمة، لكن رواية الحرب تضع القارئ في صورة شاملة لفهم كل التغيرات التي حدثت، وليستمع لأصوات كثيرة عاشت تلك السنوات بتقلباتها، خصوصا أنه يتحدث عن الثورة التي نبتت في الداخل لكنها كانت مدعومة من الخارج، عن رغبة في بناء وطن ورغبة أخرى في تغيير نظام، وبين هذا كله تنجح رواية «الحرب» في أن تضعك في المشهد الواسع فتبصر كل التحولات، والأهم هو أن السرد الأدبي للتاريخ لا يكتفي برصد الأحداث بشكلها العام، بل يبحر في الجوانب النفسية لشخصيات الرواية التي بدورها تقرب القارئ من تلك الحياة، والقارئ المتمكن يستطيع أن يعيش في أزمنة وأماكن الرواية، وبالتالي يجرب حياة مختلفة.
الحرب رواية مدهشة، تتحدث عن الوطن بشخصيات تلتقي خارج الوطن، وتتحدث عن الحرب في تفاصيل من الحب، ترحل بالقارئ إلى أزمنة بعيدة بسيطة ومعقدة، تخلق جوا روائيا معقدا، وأصواتا كثيرة تنتقل بين ضمير المتكلم والراوي العليم، وبينهما رواة متعددون، يحكي أحدهم عن الآخر للآخر سردا عن أحداث هي في تركيبتها جزء من الرواية لكنها في واقعها سرد لتاريخ، هذا؛ دون أن يشعرك الكاتب أنه يخبرك عن التاريخ، بل يأخذك إلى تفاصيله في مشاهد ستظل عالقة في ذاكرتك.
رواية مدهشة، ذات قيمة أدبية وعلمية وتاريخية، رواية للكاتب يأخذ منها تقنيات السرد وترتيب الأحداث وأفق الانتظار، يتعلم منها تسلسل المشاهد وعناصر المفاجأة، لغة السرد الشاعرية وتقسيم الفصول بحسب الدهشة، المحتوى التاريخي وتوزيعه على النص بشكل هلامي، رواية مدهشة حقا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: محمد الیحیائی روایة الحرب فی روایة
إقرأ أيضاً:
السيد الرئيس أحمد الشرع في مقابلة مع وكالة رويترز: الأمن والازدهار الاقتصادي مرتبطان بشكل مباشر برفع العقوبات الأمريكية التي فرضت على نظام الأسد، فلا نستطيع أن نقوم بضبط الأمن في البلد والعقوبات قائمة علينا
2025-03-10SAMERسابق السيد الرئيس أحمد الشرع يؤكد في مقابلة مع وكالة رويترز أن موالين للأسد ودولة أجنبية متحالفة هم من أشعلوا فتيل الاشتباكات لإثارة الاضطرابات وخلق الفتنة الطائفية لكي يصلوا إلى حالة من زعزعة الاستقرار والأمان في داخل سوريا انظر ايضاًالسيد الرئيس أحمد الشرع يؤكد في مقابلة مع وكالة رويترز أن موالين للأسد ودولة أجنبية متحالفة هم من أشعلوا فتيل الاشتباكات لإثارة الاضطرابات وخلق الفتنة الطائفية لكي يصلوا إلى حالة من زعزعة الاستقرار والأمان في داخل سوريا
آخر الأخبار 2025-03-10السيد الرئيس أحمد الشرع في مقابلة مع وكالة رويترز: سوريا دولة قانون، والقانون سيأخذ مجراه على الجميع، ونحن بالأساس خرجنا في وجه هذا النظام وما وصلنا إلى دمشق إلا نصرة للناس المظلومين 2025-03-10ضمن حملة رمضان الخير.. أكثر من 56 ألف مساعدة غذائية للأسر المحتاجة بالمحافظات 2025-03-10الاتحاد الأوروبي يدين هجمات فلول النظام البائد في الساحل ويدعو لاحترام سيادة سوريا ووحدتها 2025-03-10تشييع 5 شهداء في حماة من عناصر وزارة الدفاع والأمن العام ارتقوا بكمائن غادرة لفلول النظام البائد 2025-03-10مدير العلاقات العامة في وزارة الإعلام لـ سانا: ننفي الشائعات التي تنشرها وسائل إعلام إيرانية حول هروب أبناء الطائفة العلوية في دمشق إلى السويداء، ونؤكد أن الخبر ضمن سياق الحرب الإعلامية التي تستهدف سوريا الجديدة ووحدتها 2025-03-10استمرار عمليات إيصال الدقيق التمويني إلى المخابز في اللاذقية وطرطوس 2025-03-10الحياة الطبيعية تعود إلى معظم أحياء مدينة اللاذقية 2025-03-10الهلال الأحمر السوري يؤكد استمرار تقديم خدماته في اللاذقية وطرطوس وحماة 2025-03-10مركز الاختبارات والأبحاث الصناعية: جهوزية عالية لضمان جودة المنتج الوطني 2025-03-10نائب الرئيس التركي: فلول النظام البائد لن تتمكن من عرقلة التحول التاريخي في سوريا
صور من سورية منوعات تيك توك تستأنف خدماتها في الولايات المتحدة بفضل ترامب 2025-01-20 الصين تطلق مجموعة جديدة من الأقمار الصناعية إلى الفضاء 2024-12-05فرص عمل وزارة التجارة الداخلية تنظم مسابقة لاختيار مشرفي مخابز في اللاذقية 2025-02-12 جامعة حلب تعلن عن حاجتها لمحاضرين من حملة الإجازات الجامعية بأنواعها كافة 2025-01-23
مواقع صديقة | أسعار العملات | رسائل سانا | هيئة التحرير | اتصل بنا | للإعلان على موقعنا |