منذ بداية الشهر الفضيل، وأنا فـي سجال يومي مع مجموعة من الأصدقاء الذين ألتقيهم على موائد الإفطار، حيث تتنوع أحاديثنا بين شؤون الحياة وشجونها، لكن جدلنا هذه المرة تمحور حول العمل فـي رمضان، وتحديدًا حول تجربة «العمل عن بُعد» التي باتت خيارًا متاحًا للمؤسسات الحكومية والخاصة. وكما هي العادة، انقسمت الآراء بين فريق يرى فـيه حلًّا عصريًّا يحقق التوازن بين الحياة المهنية والشخصية، وآخر يراه بابًا مشرعًا للتراخي والتكاسل.
أما المؤيدون، فـيرون أن العمل عن بُعد لم يعد مجرد رفاهية مؤقتة، بل هو نموذج مستقبلي يجب تعزيزه والتأكيد عليه، خصوصًا إن كانت بيئة العمل تتيح الانفصال عن الجدران والمكاتب، كما فـي بعض الوظائف الإبداعية والإشرافـية. هكذا قال أحدهم وهو يعدد مزايا هذه التجربة، معتبرًا أن المرونة فـي الأداء وسهولة الوصول إلى المهام دون عناء التنقل تجعل الموظف أكثر تركيزًا وأعلى إنتاجية، مبررًا ذلك بأن الطرق باتت أقل ازدحامًا، والمواقف لم تعد ممتلئة عن آخرها، والمكاتب باتت أكثر هدوءًا واستقرارًا، وأن العمل عن بُعد أتاح الفرصة لإثبات الذات، حيث لم يعد بالإمكان الاعتماد على الظهور الجسدي فقط، بل أصبح الإنجاز هو المعيار الحقيقي للحكم على الأداء، وغيرها من الميزات التي تعود على الفرد والأسرة والمجتمع جراء العمل من المنزل.
لكن، كما لكل قصة وجهان، كان للمعارضين رأي مغاير. «لو كان العمل عن بُعد بهذه المثالية، لما رأينا كل هذه الشكاوى من تأخر المعاملات، وغياب بعض الموظفـين عن الرد، وتراجع الإنتاجية فـي بعض القطاعات!»، هكذا قال أحدهم وهو يعبر عن خيبته من التجربة. فبالنسبة لهم، الالتزام والانضباط لا يتحققان إلا فـي بيئة العمل التقليدية، حيث الرقابة المباشرة والتواصل الفعّال بين الفرق المختلفة.
فـي محاولة للخروج من نطاق المحلية إلى العالمية لسبر تجربة أشمل وأعمق عن هذه التجربة ومدى تفاعل كبرى الشركات مع مفهومي «عن قرب» و«عن بُعد»، خصوصًا بعد التجربة التي خاضها العالم أجمع فـي العمل من المنزل خلال جائحة كوفـيد، وجدتُ أن تحولًا كبيرًا قد طرأ على سياسات كثير من الشركات ومنظمات العمل العالمية، والتي لم تأتِ من فراغ، بل جاءت مدفوعة بتجارب واقعية أثبتت أن العمل من المكتب يظل الخيار الأكثر موثوقية لضمان الانضباط وتحقيق أقصى درجات الإنتاجية.
فشركة «جوجل»، على سبيل المثال، والتي لطالما كانت فـي طليعة الشركات الداعمة لنظام العمل عن بُعد خلال جائحة كورونا، سرعان ما أعادت النظر فـي موقفها، معلنة فـي يونيو 2023 عن سياسة جديدة تُلزم موظفـيها بالعودة إلى المكاتب لثلاثة أيام فـي الأسبوع، بل وذهبت إلى أبعد من ذلك حين قررت مراقبة الحضور وجعله عنصرًا مؤثرًا فـي تقييم الأداء. لم يكن هذا القرار استثناءً، بل جزءًا من توجه عالمي متزايد بين كبرى الشركات التي بدأت تدرك أن العمل من المكتب ليس مجرد مسألة وجود جسدي، بل هو عنصر جوهري فـي تعزيز روح الفريق، وتحفـيز الابتكار، وتسريع وتيرة الإنجاز. وهذا ما قامت به شركة «أمازون» بداية هذا العام، حيث أعلنت أن معظم موظفـيها سيعملون خمسة أيام فـي الأسبوع بدايةً من عام 2025.
وفـي تأكيد لهذا التحول، كشف استطلاع أجرته شركة «كي بي إم جي» فـي أكتوبر 2024 أن 79% من الرؤساء التنفـيذيين يعتقدون أن العمل عن بُعد سيتلاشى تدريجيًا خلال السنوات الثلاث القادمة، فـي حين رأى 86% منهم أن الموظفـين الذين يداومون من المكتب سيتمتعون بفرص أكبر للترقيات والتكليف بمهام مميزة.
ومع ذلك، ترغب العديد من الشركات فـي فرض العمل من المكتب لأسباب إدارية، حيث تسهل مراقبة الموظفـين الذين يعملون من المكتب، عكس أقرانهم الذين يعملون عن بُعد، وهو ما يدفعها لفرض العمل من المكتب من جهة، وتوفـير الحوافز اللازمة لتشجيع موظفـيها على ترك العمل عن بُعد والعودة للعمل من المكتب.
فـي نهاية المطاف، لم يعد جوهر النقاش حول مكان العمل، بل حول نهج العمل ذاته. فقد أزاحت التكنولوجيا الحواجز، وجعلت ما كان يومًا حكرًا على المكاتب ممكنًا من أي بقعة على وجه الأرض، سواء من المنزل، أو المقهى، أو حتى أثناء السفر. لكن التحدي الحقيقي لا يكمن فـي الأدوات، بل فـي الإنسان نفسه؛ فالموظف الذي لا يؤدي عمله إلا تحت عين الرقيب، سيظل أسير الجدران الأربعة، بينما من يحمل فـي داخله شعلة المسؤولية، ويؤمن بقيمة الإنجاز، سيبدع أينما وُجد. وهنا، لا يكون السؤال: من أين نعمل؟ بل: كيف نرتقي بثقافة العمل لنصنع فارقًا حقيقيًا؟
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العمل من المکتب أن العمل
إقرأ أيضاً:
المكتب السياسي لحركة حماس: مستعدون للمضي قدماً في تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق غزة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قال طاهر النونو، عضو المكتب السياسي لحركة حماس والمستشار الإعلامي لرئيس المكتب السياسي، إن وفداً من قيادة حماس برئاسة محمد درويش، وأعضاء من مجلس القيادة، عقد اجتماعاً مهماً في القاهرة مع وزير المخابرات المصري وطاقمه المتخصص، حيث تم التركيز على متابعة تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق الذي تم التوصل إليه بجهود مصرية وقطرية، إضافةً إلى بحث آليات تنفيذ المرحلة الثانية، التي تشمل ضمان تدفق المساعدات الإنسانية وإدخال المواد الأساسية إلى قطاع غزة.
وأضاف «النونو»، خلال مداخلة هاتفية على شاشة «إكسترا نيوز»، أن الاجتماع ناقش أيضاً نتائج القمة العربية الأخيرة في القاهرة، والتي أكدت على محورية القضية الفلسطينية، ورفض أي مخططات للتهجير القسري، إلى جانب تبني المبادرة المصرية لإعادة إعمار غزة، موضحا أن الحركة مستعدة للمضي قدماً في تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق غزة، مشدداً على ضرورة إلزام الاحتلال الإسرائيلي، وتحديداً رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بتنفيذ بنود الاتفاق.
وأوضح عضو المكتب السياسي لحركة حماس والمستشار الإعلامي لرئيس المكتب السياسي، أن اللقاءات التي عقدتها الحركة في الدوحة مع مسؤولين أمريكيين استمرت حتى نهاية المرحلة الأولى، ما يعكس التزام الأطراف الدولية بالوصول إلى تهدئة دائمة.