جريدة الرؤية العمانية:
2025-04-02@22:56:36 GMT

احتلال اللغة!

تاريخ النشر: 23rd, August 2023 GMT

احتلال اللغة!

 

د. صالح الفهدي

 

يُقال إنَّ "احتلالُ الأَرضِ يبدأ باحتلالِ العقل، واحتلالِ العقلِ يبدأ باحتلالِ اللغة"، وقد رأينا هذا المبدأ ماثلًا في الدول الأفريقية التي احتلتها فرنسا، وهي ما يُطلق عليها مصطلح "الدول الفراكفونية" أي المُتحدثة باللغة الفرنسية، ما يعني استمراراً لاحتلال العقل باحتلالِ اللغة!، ومؤخرًا بدأت دولة مالي التحرر من هذا الاحتلال العقلي اللغوي فجعلت الأولوية للغة العربية باعتبارها دولةً مُسلمة بنحو 90% من سكَّانها، في حين تحدَّرت باللغة الفرنسية من لغةٍ رسميَّةٍ إلى لغة عمل حتى (ترتيب الأُمور)، والمقصود بذلك حتى أجلٍ معيَّن يتوسَّع فيه استخدام اللغة العربية في مفاصل الدولة ومعاملاتها.

يتحرَّر الشعبُ المالي الذي يدينُ بالإِسلام منذ القرن التاسع الميلادي أَي أكثر من ألف عام، من قيود الاستعمار الذي انسحبت آليته العسكرية وأبقى الأداة الأَقوى وهو احتلال العقلِ عبر اللغة الفرنسية في (29) دولة، حتى جاء الجيلُ الجديدُ مناهضًا للوجود الفرنسي في القارة السمراء، ويستعيد الهُوية القومية، وإِرث الأجداد.

لندع احتلال الأرض من المبدأ أعلاه فلم يعد احتلالُ الأرضِ مُهمًّا اليوم كالسَّابق للدول المستعمِرة، لأنَّ الأدوات المُتاحة لهذه الدول العظمى أصبحت ذات نفوذ غير مُكلِف ماديًّا وعسكريًا، وبهذا أصبح المبدأ اليوم "احتلالُ العقل يبدأ باحتلال اللغة"، وهو نراهُ واضحًا الآن في واقعنا، بيدَ أَننا للأَسف إِما ينطبقُ علينا كلامُ ابن خلدون في الفصل الثالث والعشرين من مقدمته بأَنَّ المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعارهِ وزِيِّهِ ونِحْلتهِ وسائرِ أحوالهِ وعوائده، أو أننا لا نعي أَننا نُلقي بأَنفسنا في فخاخِ "احتلالِ العقل باحتلال اللغةِ" بإِصرارنا على التحدث بلغةٍ ليست لغتنا، ولا هي من إِرثِ آبائنا وأجدادنا!.

إِننا بذلك ننسلخُ من الهُوية التي ولدنا عليها، وسندفعُ ثمنًا باهظًا مقابلَ هذا الانسلاخ الطوعي اللَّاواعي بالعواقب، وهي عواقب نراها ماثلة في الشعوب الفرانكفونية (المتحدثة بالفرنسية) والتي بعد أن نُهب إِرثها اللغوي نُهبت ثرواتها وهي تتفاخر بتعاملها مع (المستعمِر المتحضِّر)..!

حين أَمرُّ في الشوارع التجارية أرى أغلب لافتات المحلَّات باللغة الإنجليزية أو بمُسميَّات لا يعرف معناها حتى أصحاب المحلَّات أَنفسهم، وهذا إِضرارٌ كبيرٌ بالهوية الوطنية التي تحرصُ الحكومة على صيانتها وحفظها. في هذا الوقت تقوم تركيا- في الولايات التركية التي تديرها المعارضة التركية خاصَّةً- بإزالة لافتات تجارية مكتوبة باللغة العربية على المحلات التجارية، لأنها ترى فيها تهديدًا على هويَّتها القومية.

أما المصطلحات الإِنجليزية فليس الجيلُ الحالي هو الذي يفضِّل استخدام المصطلحات الإنجليزية وحسب وإنما هناك فئات أكبرُ عُمرًا في المجتمع تكاد الإنجليزية أن تكون لغة تواصلها الرَّسمي وغير الرسمي!!

"احتلال العقل باحتلال اللغة" مبدأٌ برهن على فاعليته دون استنزاف لموازنات باهظة، إذ إنَّ اللغة الإنجليزية التي يحسبها البعض مظهرًا من مظاهر الرُّقي والتقدم ما هي إلا أداة خطيرةً من أدوات الاحتلال، فالذي يجعلها لغته الغالبة فإِنها تستدرجهُ- إن لم يكن على قدرٍ من الوعي- إلى الاهتمام بمظاهر الثقافة الإنجليزية، وتبنِّي أفكارها، والشغفِ بأزيائها، وعادات شعوبها، والتزيِّ بملبوسها، الأمر الذي يجعلهُ مجرَّد "مواطن" مقيَّدٍ في وثائقَ رسميَّة، لكنَّه لا ينتمي لوطنه، وثقافته، وهُويَّته!، لقد أَكَّدَ على ذلك البروفيسور البريطاني روبرت فيليبسون في كتابه الإمبريالية اللغوية (LinguisticImperialism) أَنَّ "تعليم الإنجليزية هو في الحقيقة فعل استعماري بأدواتٍ لغوية" ومع ذلك فإِننا لا نعي حتى الآن ما نحن إزاءه من تمظهرات اللغة الإنجليزية وممارساتها وخطر ذلك على الهوية.

إنني أَدعو إلى مراجعة تعليم اللغة العربية في المدارس بحيث يُبعدُ تعقيد النحو عن المناهج، وهو نحوٌ لا حاجة للمتعلمين به، إنَّما يقوَّم اللسان بالسليقة وطريقُ ذلك بالقراءة المكثَّفة فلا تلحنُ اللِّسان ولا تنفرطُ جملها حين تتمكَّن من اللغة بفضل القراءة، فما هي نتائجُ تدريس النحو في المدارس؟ ضعفٌ في إنشاءِ التعبير نطقًا وكتابة، حتى لا يكاد الطالب الذي درس النحو لسنوات عديدة في المدارس أن ينتفع به لكتابة رسالة، أو إنشاء جملة، وهذا المآل مخالف للمقصدِ في أهدافه من تمكين العربي من لغته نطقًا وكتابة، ولو أن القراءة المكثفة قد حلَّت محلَّ النحو لتحسَّن النطق والكتابة لدى الدارس.

كما أدعو إلى إمعان الجهات المختصة في الحكومة في التراخيص التي تمنحها لمزاولة التجارة والمسميات والمعاملات التي لا تستوجب التحدث بالإنجليزية، وأن تُدرك أن كل ذلك من شأنه إضعاف الهوية الوطنية، والإضرار بها على المدى البعيد. 

لننتبه إلى ما نحو فيه من واقع تتغيَّرُ فيه الهويات، ويعادُ توجيه الانتماءات، ولنضع المقصل على المفصل قبل أن يتثلَّم المقصل فلا يستطيع قطعَ ورقة!!

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

باحث ألماني: تعلّمت العربية لأنني أردت الهروب من ضيق الأفق في أوروبا

استعرض فايدنر الذي حل ضيفا على برنامج "المقابلة" رحلته الاستثنائية التي قادته من مقاعد الدراسة الثانوية في ألمانيا إلى جامعة دمشق، ومن ثم إلى رحاب الأدب العربي الحديث، ليصبح لاحقا أحد أبرز المستشرقين الألمان الجدد، المهتمين بقضايا الحوار بين الثقافات ونقد الإسلاموفوبيا.

يقول فايدنر إن اختياره للعربية جاء في سياق بحثه عن لغات عالمية مهمة، بعد أن أتقن الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والروسية، مضيفا "عندما أردت أن أسافر، كانت العربية ستكون مفيدة جدا"، وبدأ تعلّم العربية في سن السادسة عشرة في مدرسة مسائية، ليجدها صعبة وممتعة في آن، لكنه لم يكتفِ بذلك.

اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4لغة الكتاب العربي.. مناقشات أكاديمية حول اللسان والفلسفة والمنطقlist 2 of 4المفكر التونسي الطاهر لبيب: سيقول العرب يوما أُكلنا يوم أُكلت غزّةlist 3 of 4اللغة وتقبّل المجتمع أبرز التحديات التي تواجهها المرأة العربية بألمانياlist 4 of 4أنت في محنة عندما تحيا فلسطينيا في ألمانيا!end of list

بعد سنتين من الدراسة الأولية، قرر فايدنر الانتقال إلى مستوى أعمق في دراسة اللغة والثقافة، فاختار الفلسفة والأدب المقارن، لكنه أدرك أن دراسة العربية ستمنحه تميزا، فانكب على ترجمة الشعر العربي الحديث، لشعراء مثل أدونيس ومحمود درويش ونزار قباني وبدر شاكر السياب.

لم يتردد فايدنر في الذهاب إلى المنطقة "الأصعب"، كما وصفها، مؤكدا أن "التحديات" كانت جزءا من جاذبية هذا المشروع، وبعد ذلك، توجه إلى سوريا لدراسة العربية في معهد تعليم اللغة للأجانب بدمشق، والمعهد الفرنسي للدراسات الشرقية، ليغوص في أعماق اللغة وثقافتها.

إعلان

يصف فايدنر اللغة العربية بأنها "مفيدة جدا وجميلة جدا، لكن لها صعوبات خاصة"، مشيرا إلى الأحرف غير المألوفة، وانتشار اللهجات المحلية، لكنه اختار الفصحى لأنها "تشمل كل شيء ويفهمها كل العرب"، مع إلمامه ببعض اللهجات الشامية والمصرية.

ويلفت فايدنر إلى أن الاهتمام بالعربية في ألمانيا ازداد بشكل ملحوظ، فبعد أن كان عدد الطلاب في صفوف العربية الجامعية قليلا في التسعينيات، أصبح اليوم يصل إلى 50 طالبا أو أكثر، لأسباب سياسية وثقافية.

التحوّل إلى السياسة

تحول اهتمام فايدنر من الأدب إلى السياسة جاء على خلفية التوترات المتصاعدة بين الغرب والعالم الإسلامي، ليصدر كتبا ومؤلفات تناقش جدلية الشرق والغرب، ونقد مفهوم الغرب، والتحذير من الإسلاموفوبيا، وقضايا الهجرة.

في كتابه "ثورة العقل"، يرصد فايدنر التحولات العميقة في العالم الإسلامي بعد أحداث 11 سبتمبر، وصولا إلى الربيع العربي عام 2011، محللا التحديات والفرص التي تواجه العالم الإسلامي في هذا العصر المضطرب.

يتطرق فايدنر إلى مفهوم الاستشراق، معترفا بالحمولة السلبية التي ارتبطت به تاريخيا، من استغلال المعرفة للسيطرة على الشعوب، لكنه يؤكد على الجانب الإيجابي المتمثل في "الاهتمام بالآخر والثقافات الأخرى"، مع التركيز على أهمية المعرفة الخالية من أغراض السيطرة والتجسس.

ويؤكد فايدنر أن الاستشراق الألماني تميز عن نظيره في الدول الاستعمارية، حيث لم يحظَ بدعم حكومي مباشر، ولم يكن المستشرقون الألمان موظفين استعماريين، بل كانوا باحثين وأكاديميين يسعون إلى فهم الآخر بعُمق وموضوعية.

ويتذكر فايدنر رحلته إلى المغرب عام 1985، والتي يعتبرها "بداية عشقه للعربية واهتمامه بالثقافة العربية"، حيث اكتشف تاريخ المغرب الأندلسي، والبعد الروحي الصوفي، وجماليات اللغة العربية، وتأثيرها العميق على ثقافات أخرى.

إعلان

في المغرب، اكتشف فايدنر أيضا ابن عربي، الذي أصبح محور اهتمامه وترجماته، معتبرا إياه "قامة فلسفية عميقة وجميلة وخيالية"، وقد ترجم ديوان "ترجمان الأشواق" لابن عربي إلى الألمانية، في مسعى لنقل "المشاعر" و"القوة العاطفية" و"الطاقة الشعرية" في الترجمة.

الترجمة الحقيقية

يؤكد فايدنر أن الترجمة الحقيقية هي "فن وإبداع"، وليست مجرد ترجمة حرفية آلية، مشيرا إلى أن الاستشراق في ألمانيا بدأ بالاهتمام بالتوراة والإنجيل، ثم تطور إلى اكتشاف قيمة اللغة العربية والثقافة العربية بشكل مستقل.

ويشير إلى أن شعراء ألمان كبار، مثل غوته، اهتموا بالأدب العربي وقدموه للجمهور الألماني، وديوان "الديوان الشرقي الغربي" لغوته يشهد على هذا الاهتمام، لكنه يرى أن الأدب العربي لا يزال لا يحظى بالمكانة التي يستحقها في الغرب بشكل كامل.

ويوضح فايدنر أن بداياته في الترجمة كانت مدفوعة باكتشافه قلة الترجمات العربية إلى الألمانية، خاصة في مجال الشعر، معتبرا أن حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، مع وجود كتاب واحد فقط مترجم له بالألمانية، كان "عيبا" في حق الثقافة الألمانية.

عمل فايدنر على تغيير هذا الوضع، فنشر ترجمات في مجلات صغيرة، وتعاون مع شعراء عرب في المنفى، وأسس مجلة "فكر وفن" التي نشرت باللغات العربية والألمانية والفارسية والإنجليزية، لتكون جسرا بين الثقافات.

وفي مقارنة بين الثقافة العربية والفارسية في ألمانيا، يرى فايدنر أن الأدب الفارسي كان أكثر شهرة سابقا، لكن الوضع تغير، معتبرا أن تفضيل الأدب الفارسي أحيانا كان نابعا من "أحكام مسبقة" ونوع من "العنصرية" تجاه الثقافات السامية.

يتطرق فايدنر إلى "العقدة الصهيونية" وتأثيرها على علاقة ألمانيا بالعالم العربي، مشيرا إلى "ظاهرة غريبة" تتمثل في معاداة السامية التي تقترب من الإسلاموفوبيا، معتبرا أن جذور الرفض التاريخي لليهود والعرب في أوروبا متشابهة.

إعلان عنصرية الأوروبيين

ويرى فايدنر أن الحضارة الأوروبية، رغم انفتاحها المعلن، لا تزال تعاني من "كراهية الآخر" و"الانغلاق والتخوف"، وهو ما يظهر في رفض بعض الأوروبيين للاندماج الحقيقي مع المهاجرين العرب والمسلمين.

ينتقد فايدنر الرؤية التي تطلب "الاندماج الكامل" للمهاجرين بمعنى التخلي عن هويتهم السابقة، معتبرا إياها "فكرة عنصرية" مبنية على "فهم خاطئ للإسلام والإنسان العربي"، مؤكدا أن القِيم الأساسية للإنسان العربي والمسلم قريبة جدا من القيم الأوروبية.

ويشدد فايدنر على أن "المشكلة في فهم الإسلام"، وارتباطه في أذهان الكثيرين بـ"الإرهاب"، وهو ما يغذيه الإعلام و"عدم المعرفة"، داعيا إلى تجاوز هذه الأحكام المسبقة من خلال الترجمة والاحتكاك الثقافي والسفر إلى العالم العربي.

ويرى فايدنر أن النموذج الفرنسي والنمساوي ربما يسيطر حاليا على نظرة أوروبا للآخر، لكنه يؤكد أن أوروبا منقسمة، وأن الرؤية "النيوليبرالية" هي المهيمنة، مع ضعف الديمقراطية وتأثير "الأحكام المسبقة" على خيارات الناخبين.

وفي نصيحة للأوروبيين، يدعو فايدنر إلى "دراسة التاريخ الإسلامي" ومقارنته بالتاريخ الأوروبي، لاكتشاف "العلاقات الكثيرة" والتقارب بين الثقافتين، وللعرب والمسلمين في أوروبا، وينصح بـ"محاولة جعل الأوروبيين يفهمون العرب" واكتشاف ثقافتهم وتاريخهم بأنفسهم.

ويرفض فايدنر مقولة "المسلم الطيب هو الذي يترك إسلامه"، معتبرا إياها "مركزية في العقلية والنظرة الأوروبية"، وينتقد تصريح ماكرون بأن "الإسلام في أزمة"، مؤكدا أن "الأزمة الأوروبية ربما أكبر من الأزمة الإسلامية".

وعن الربيع العربي، يرى فايدنر أن "التطور مؤسف جدا"، لكنه يحمل "بذرة لمستقبل أحسن ومختلف"، فتشرد العرب أدى إلى "نشاط" كبير للفنانين والأدباء والصحفيين العرب في أوروبا والعالم، مع شعور متزايد بالمسؤولية تجاه العالم العربي والإسلامي.

إعلان 31/3/2025

مقالات مشابهة

  • الرئاسة الفلسطينية: فصل رفح يؤكد النوايا الإسرائيلية لاستدامة احتلال غزة
  • فلسطين: إعلان نتنياهو عزمه فصل رفح عن خان يونس مؤشر على نواياه لاستدامة احتلال غزة
  • غاز العدو احتلال: السُّلطة إذ تُحوّل المُعارضة إلى ظاهرةٍ صوتيّة بلا قيمة سياسيّة
  • إنييستا يداعب الأوراق بكتاب عن العقل
  • جدول امتحانات الثانوية العامة 2025 الشعبة الأدبية للنظامين القديم والحديث
  • رابط التقديم الإلكتروني فى وظائف المدارس الألمانية.. المؤهلات المطلوبة
  • شيخ العقل تلقى اتصالات وبرقيات مهنئة بعيد الفطر وشارك في مناسبات دينية واجتماعية
  • باحث ألماني: تعلّمت العربية لأنني أردت الهروب من ضيق الأفق في أوروبا
  • شيخ العقل: لتجاوز التجاذبات المذهبية والعائلية والحزبية في الانتخابات البلدية
  • الحب في ألفاظ العربية