د. صالح الفهدي
يُقال إنَّ "احتلالُ الأَرضِ يبدأ باحتلالِ العقل، واحتلالِ العقلِ يبدأ باحتلالِ اللغة"، وقد رأينا هذا المبدأ ماثلًا في الدول الأفريقية التي احتلتها فرنسا، وهي ما يُطلق عليها مصطلح "الدول الفراكفونية" أي المُتحدثة باللغة الفرنسية، ما يعني استمراراً لاحتلال العقل باحتلالِ اللغة!، ومؤخرًا بدأت دولة مالي التحرر من هذا الاحتلال العقلي اللغوي فجعلت الأولوية للغة العربية باعتبارها دولةً مُسلمة بنحو 90% من سكَّانها، في حين تحدَّرت باللغة الفرنسية من لغةٍ رسميَّةٍ إلى لغة عمل حتى (ترتيب الأُمور)، والمقصود بذلك حتى أجلٍ معيَّن يتوسَّع فيه استخدام اللغة العربية في مفاصل الدولة ومعاملاتها.
يتحرَّر الشعبُ المالي الذي يدينُ بالإِسلام منذ القرن التاسع الميلادي أَي أكثر من ألف عام، من قيود الاستعمار الذي انسحبت آليته العسكرية وأبقى الأداة الأَقوى وهو احتلال العقلِ عبر اللغة الفرنسية في (29) دولة، حتى جاء الجيلُ الجديدُ مناهضًا للوجود الفرنسي في القارة السمراء، ويستعيد الهُوية القومية، وإِرث الأجداد.
لندع احتلال الأرض من المبدأ أعلاه فلم يعد احتلالُ الأرضِ مُهمًّا اليوم كالسَّابق للدول المستعمِرة، لأنَّ الأدوات المُتاحة لهذه الدول العظمى أصبحت ذات نفوذ غير مُكلِف ماديًّا وعسكريًا، وبهذا أصبح المبدأ اليوم "احتلالُ العقل يبدأ باحتلال اللغة"، وهو نراهُ واضحًا الآن في واقعنا، بيدَ أَننا للأَسف إِما ينطبقُ علينا كلامُ ابن خلدون في الفصل الثالث والعشرين من مقدمته بأَنَّ المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعارهِ وزِيِّهِ ونِحْلتهِ وسائرِ أحوالهِ وعوائده، أو أننا لا نعي أَننا نُلقي بأَنفسنا في فخاخِ "احتلالِ العقل باحتلال اللغةِ" بإِصرارنا على التحدث بلغةٍ ليست لغتنا، ولا هي من إِرثِ آبائنا وأجدادنا!.
إِننا بذلك ننسلخُ من الهُوية التي ولدنا عليها، وسندفعُ ثمنًا باهظًا مقابلَ هذا الانسلاخ الطوعي اللَّاواعي بالعواقب، وهي عواقب نراها ماثلة في الشعوب الفرانكفونية (المتحدثة بالفرنسية) والتي بعد أن نُهب إِرثها اللغوي نُهبت ثرواتها وهي تتفاخر بتعاملها مع (المستعمِر المتحضِّر)..!
حين أَمرُّ في الشوارع التجارية أرى أغلب لافتات المحلَّات باللغة الإنجليزية أو بمُسميَّات لا يعرف معناها حتى أصحاب المحلَّات أَنفسهم، وهذا إِضرارٌ كبيرٌ بالهوية الوطنية التي تحرصُ الحكومة على صيانتها وحفظها. في هذا الوقت تقوم تركيا- في الولايات التركية التي تديرها المعارضة التركية خاصَّةً- بإزالة لافتات تجارية مكتوبة باللغة العربية على المحلات التجارية، لأنها ترى فيها تهديدًا على هويَّتها القومية.
أما المصطلحات الإِنجليزية فليس الجيلُ الحالي هو الذي يفضِّل استخدام المصطلحات الإنجليزية وحسب وإنما هناك فئات أكبرُ عُمرًا في المجتمع تكاد الإنجليزية أن تكون لغة تواصلها الرَّسمي وغير الرسمي!!
"احتلال العقل باحتلال اللغة" مبدأٌ برهن على فاعليته دون استنزاف لموازنات باهظة، إذ إنَّ اللغة الإنجليزية التي يحسبها البعض مظهرًا من مظاهر الرُّقي والتقدم ما هي إلا أداة خطيرةً من أدوات الاحتلال، فالذي يجعلها لغته الغالبة فإِنها تستدرجهُ- إن لم يكن على قدرٍ من الوعي- إلى الاهتمام بمظاهر الثقافة الإنجليزية، وتبنِّي أفكارها، والشغفِ بأزيائها، وعادات شعوبها، والتزيِّ بملبوسها، الأمر الذي يجعلهُ مجرَّد "مواطن" مقيَّدٍ في وثائقَ رسميَّة، لكنَّه لا ينتمي لوطنه، وثقافته، وهُويَّته!، لقد أَكَّدَ على ذلك البروفيسور البريطاني روبرت فيليبسون في كتابه الإمبريالية اللغوية (LinguisticImperialism) أَنَّ "تعليم الإنجليزية هو في الحقيقة فعل استعماري بأدواتٍ لغوية" ومع ذلك فإِننا لا نعي حتى الآن ما نحن إزاءه من تمظهرات اللغة الإنجليزية وممارساتها وخطر ذلك على الهوية.
إنني أَدعو إلى مراجعة تعليم اللغة العربية في المدارس بحيث يُبعدُ تعقيد النحو عن المناهج، وهو نحوٌ لا حاجة للمتعلمين به، إنَّما يقوَّم اللسان بالسليقة وطريقُ ذلك بالقراءة المكثَّفة فلا تلحنُ اللِّسان ولا تنفرطُ جملها حين تتمكَّن من اللغة بفضل القراءة، فما هي نتائجُ تدريس النحو في المدارس؟ ضعفٌ في إنشاءِ التعبير نطقًا وكتابة، حتى لا يكاد الطالب الذي درس النحو لسنوات عديدة في المدارس أن ينتفع به لكتابة رسالة، أو إنشاء جملة، وهذا المآل مخالف للمقصدِ في أهدافه من تمكين العربي من لغته نطقًا وكتابة، ولو أن القراءة المكثفة قد حلَّت محلَّ النحو لتحسَّن النطق والكتابة لدى الدارس.
كما أدعو إلى إمعان الجهات المختصة في الحكومة في التراخيص التي تمنحها لمزاولة التجارة والمسميات والمعاملات التي لا تستوجب التحدث بالإنجليزية، وأن تُدرك أن كل ذلك من شأنه إضعاف الهوية الوطنية، والإضرار بها على المدى البعيد.
لننتبه إلى ما نحو فيه من واقع تتغيَّرُ فيه الهويات، ويعادُ توجيه الانتماءات، ولنضع المقصل على المفصل قبل أن يتثلَّم المقصل فلا يستطيع قطعَ ورقة!!
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
خطيب الأوقاف: القرآن الكريم أمرنا بإعمال العقل
قال الشيخ محمد عوض، من علماء الأزهر الشريف، إنه ما أقبح أن يعطل الإنسان ويغيب عقله ويدخل نفسه في دوامة المرضى ويهدم بنيان الرب ويخرج نفسه عن دائرة الآدميين.
وأضاف عوض، في خطبة الجمعة من مسجد العباسي بمحافظة بورسعيد، متحدثا عن موضوع "المخدرات ضياع للإنسان"، أن القرآن الكريم ذكر آيات كريمة في ضرورة إعمال العقل.
وذكر أن من هذه الآيات ما يلي:
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)
(فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)
(كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)
(وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ)
(وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ)
(يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)
(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)
كما ذكرت السنة النبوية مجموعة من الأحاديث النبوية عن الحذر والتنفير من كل ما يعطل العقول، فقال رسول الله (لعن الله الخمر وشاربها وعاصرها والمعصورة له وحاملها والمحمولة إليها وبائعها ومبتاعها).
وأشار إلى أن كثيرا من العقلاء نفروا عن تناول المسكرات من قبل أن ينزل تحريمها منهم: قيس بن عاصم، وأبو بكر الصديق، كانوا يقولون (نصون عنها أعراضنا ونحفظ عنها مروءتنا ولا نتناول الجهل بأيدينا فنجعله في أجوافنا).