المؤسسة النسوية في المخيلة الذكورية العربية: بين التشويه والاستيعاب القسري
تاريخ النشر: 11th, March 2025 GMT
في عمق البنية الثقافية العربية، حيث تتشابك أنساق السلطة مع ميراث طويل من الأبويّة، تتجلى المؤسسة النسوية كإشكالية معقدة، لا باعتبارها صيرورة تحررية فحسب، بل بوصفها موضعًا للصراع بين خطابين متنافرين: خطاب الهيمنة الذكورية، الذي يسعى إلى نفيها أو استيعابها المشروط، وخطاب التحرر النسوي، الذي يواجه وطأة الإقصاء والتشويه.
هذه الثنائية ليست مجرد تجلٍّ عابر لسلطة تستميت في الدفاع عن مركزيتها، بل هي جزء من منظومة أوسع من الاستلاب الثقافي، الذي يحوّل النسوية إلى سردية مضادة، لا بوصفها نقدًا لبُنى التسلط، بل كتهديد يتطلب التفكيك أو الاحتواء.
ما إن تطرح النسوية إشكالاتها داخل الفضاء العربي، حتى تُواجَه بآليات دفاعية تتراوح بين العداء العلني والاستيعاب المُفرغ من المضمون. هنا، تستدعي السلطة الذكورية أدواتها التقليدية: التشويه الأخلاقي، التنميط، والتأطير داخل سرديات جاهزة تُجرّد الخطاب النسوي من جذريته.
إنها عملية تقويض ممنهج، حيث لا يُسمح للخطاب النسوي أن يوجد إلا بوصفه خطابًا مشوّهًا أو مُحتوًى داخل الأطر المسموح بها. وهذا ما يجعل من النسوية، في المخيلة الذكورية العربية، كيانًا خاضعًا للرقابة الدائمة، حيث لا يُسمح لها بأن تتجاوز الحدود المرسومة لها مسبقًا.
في هذا السياق، يُعاد تعريف النسوية داخل النسق الأبوي، بحيث تصبح مقبولة فقط إذا لم تصطدم بالبنى التقليدية، بل عملت ضمن منظومة القيم نفسها، كإصلاحٍ داخلي، لا كتحرر جذري.
وهذه الاستراتيجية ليست مجرد فعلٍ واعٍ من السلطة، بل هي جزء من العنف الرمزي، الذي تحدث عنه بيير بورديو، حيث تُمارَس السيطرة ليس عبر القمع المباشر فقط، بل من خلال تطبيع أنماط التفكير التي تجعل من الهيمنة أمرًا بديهيًا وغير قابل للنقاش.
إن هذا العنف الرمزي هو الأخطر، لأنه يعمل بلا وعي مباشر، مما يسمح للسلطة الذكورية بإعادة إنتاج ذاتها بأشكال أكثر خفاءً، حتى في اللحظات التي يبدو فيها أن النسوية تحقق تقدمًا.
تعتمد المنظومة الذكورية، في تعاملها مع النسوية، على استراتيجيتين متوازيتين:
الأولى: الإقصاء والتشويه، حيث يتم تصوير النسويات بوصفهن كيانات متطرفة، مشوّهة، ومستوردة من “الآخر الغربي”، في تكرار لنمط الاستشراق، حيث يتم إسقاط صورة دخيلة تتناقض مع “أصالة” الثقافة المحلية.
أما الاستراتيجية الثانية، فهي الاستيعاب الناعم، حيث يُعاد تقديم النسوية عبر قوالب مقبولة: المرأة بوصفها جزءًا من “الأسرة”، أو النسوية بوصفها “حقوقًا” لا تمسّ عمق البنية السلطوية، بل تتعايش معها.
وبهذا الشكل، تتحول المطالب النسوية إلى مطالب شكلية، خاضعة لشروط النظام، الذي يفترض أنه يُحدث تغييرًا، بينما هو في الحقيقة يعيد إنتاج نفسه بشكل أكثر مرونة.
إن فداحة الصدام بين النسوية والمنظومة الذكورية لا تكمن فقط في رفض الاعتراف بحقوق النساء، بل في تحويل النسوية ذاتها إلى خطاب هش، مُراقب، مشروط.
فحتى حين يتم السماح بظهور أصوات نسوية، فإنها تُنتقى بعناية، بحيث تتناسب مع ثقل المؤسسة الذكورية، فلا تخلخل استقرارها.
إن ما يحدث هنا هو إنتاج “تعددية زائفة”، حيث يُسمح ببعض التنوع، لكن ضمن حدود لا يمكن تجاوزها. وهكذا، تبدو النسوية وكأنها تحظى بقبول تدريجي، لكنها في الواقع لا تزال خاضعة لمنطق السيطرة، الذي يفرض عليها أن تكون “مقبولة” حتى يُسمح لها بالوجود.
في هذا السياق، تتجلّى النسوية لا كحركة تحرر فحسب، بل كموقع للصراع الدائم، حيث يتم التعامل معها بوصفها كيانًا “زائدًا عن الحاجة”، أو، على الأقل، مشروعًا يمكن تأجيله حتى تحلّ “المشكلات الأكثر أهمية”.
هذا الخطاب الموارب يعكس آلية التأجيل المستمر، حيث يتم ترحيل أي تغيير حقيقي إلى ما لا نهاية، تحت ذرائع الاستقرار والخصوصية الثقافية.
وهكذا، تبقى النسوية أسيرة لحالة من التعليق المستمر: لا هي مُعترف بها بالكامل، ولا هي قادرة على تحقيق قطيعة فعلية مع البنية الأبوية.
إن الخروج من هذه الحلقة المُفرغة يتطلب تفكيكًا جذريًا للسرديات التي تكرّس السلطة الذكورية، لا عبر إعادة إنتاج مطالب إصلاحية داخل النظام، بل عبر زعزعة أسس النظام ذاته.
وكما أشار جاك دريدا، فإن النقد الجذري لا يكتفي بتحليل النص، بل يجب أن يذهب إلى البنية التي تنتجه، ويفكك المسلّمات التي تجعل من الهيمنة واقعًا غير مرئي.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن النسوية، في جوهرها، ليست مجرد مشروع لتحرير النساء، بل هي ممارسة فلسفية تهدف إلى تفكيك الأنظمة السلطوية بأكملها، باعتبار أن قمع النساء ليس منفصلًا عن قمع الفئات الأخرى.
في النهاية، تظل معركة النسوية داخل الفضاء العربي مشدودة بين خطابين:
خطاب الهيمنة، الذي يسعى إلى احتوائها، وخطاب التحرر، الذي يواجه الإقصاء والاستلاب.
إن المهمة اليوم ليست في المطالبة بمكان داخل النظام، بل في إعادة التفكير في إمكانية نظام مختلف، نظام لا يقوم على الامتيازات الذكورية، بل على عدالة جذرية تتجاوز الثنائية التقليدية للسلطة والخضوع.
وكما يقول ميشيل فوكو: “حيث توجد السلطة، يوجد من يقاومها”، والنسوية ليست سوى أحد أكثر أشكال هذه المقاومة إصرارًا، لأنها لا تسعى فقط إلى مواجهة التراتبية، بل إلى كشف زيفها من الأساس.
السؤال ليس: هل ستنتصر النسوية أم لا؟ بل: كيف يمكنها أن تواصل هدم السرديات التي تكرّس هشاشتها المصطنعة، لتصبح ليس مجرد خطاب مقاومة، بل مشروعًا لتحرير المجتمع بأسره من فداحة الهيمنة؟
zoolsaay@yahoo.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
صراع الحضارات وسيناريوهات الهيمنة في مفاوضات واشنطن وطهران
كانت سلطنة عُمان اليوم محط أنظار العالم؛ لا لأنها منطقة نزاع أو تدور حول سياستها الخارجية علامات استفهام وتعجب، ولكن لأنها المساحة الوحيدة التي تجد فـيها القوى المتصارعة فـي الشرق الأوسط متسعا للحوار واحتفاء به والقوة السياسية القادرة على إدارة اللحظات التاريخية الخطرة حينما يحتاج العالم إلى بوصلة أخلاقية وجيوسياسية فـي منطقة تتقاذفها أهواء القوة والتصعيد. ورغم أن لقاء واشنطن بطهران الذي انطلق اليوم فـي مسقط ليس الأول من نوعه، ولا يبدو أنه سيكون الأخير، إلا أنه يأتي هذه المرة فـي ظروف شديدة التعقيد سواء فـي توقيته أو فـي رمزية الشخصيات التي تمثل طرفـي التفاوض، وفـي طبيعة الرهانات التي تتجاوز مجرد ملف نووي تقني لتطال بنية التوازن الإقليمي والعالمي.
ولذلك لا يبدو لي، شخصيا، أن السؤال الأهم يتعلق، فقط، بإمكانية نجاح هذه المفاوضات أو فشلها، رغم البدايات المبشرة جدا، بل يتعلق بالسياق الذي دفع الطرفـين للجلوس ـ ولو بشكل غير مباشر ـ مرة أخرى على طاولة الوساطة/المفاوضات. ما الذي تغير؟ ومن يُراهن على الوقت؟ ومن يسعى لتثبيت معادلة جديدة قبل أن تنفلت الأمور نحو صدام قد لا يُمكن احتواؤه؟
إذا ما عدنا إلى جذور الأزمة، فإن «الملف النووي الإيراني» ما هو إلا واجهة مقبولة ويمكن التبرير بها، لحرب طويلة على الاستقلال السياسي، وربما، الكرامة الحضارية، ومحاولة الدول الخارجة عن نادي الهيمنة الغربية أن تضع موطأ قدم فـي نظام دولي بُني ليقصيها. ولذلك لا ينبع الخوف الأمريكي/ الغربي من إيران من برنامج نووي قد يعرف مجتمع المخابرات الأمريكي حدوده وإمكانياته، ولكن ينبع قبل كل شيء من أن إيران، ومنذ ثورتها عام 1979، قررت أن تتحرر من عباءة التبعية الغربية، وأن تقول لا، وهو أمر لا يُغتفر فـي العقل الإمبريالي. لكن هذا لا يعني، بالمطلق، أن علينا، جميعا، ألا نخشى من أي برنامج نووي إيراني أو إسرائيلي أو أي برنامج آخر فـي المنطقة، بل على العكس من ذلك فإن أي برنامج نووي كان موجودا أو فـي طريقه للوجود هو خطر جديد يضاف إلى الأخطار التي تهدد منطقتنا الملتهبة، وما أكثر تلك الأخطار التي تتراوح بين خطر القوميات والمذهبيات إلى خطر الشرارة النووية. ويسعدنا جميعا أن تكون المنطقة خالية من جميع أنواع الأسلحة النووية.
لم يُخفِ ترامب العائد بقوة إلى البيت الأبيض رغبته فـي عرض مهاراته التفاوضية، ولكن خلف هذه الرغبة يقف منطق أكثر عمقا، وأكثر بعدا فـي التشكل من السنوات التي عرف فـيها العالم هذا السياسي والمطور العقاري.. إنه منطق السيطرة على التوازنات الإقليمية ومنع إيران من امتلاك ورقة ردع، ولو كانت رمزية، فـي وجه تحالف واشنطن ـ تل أبيب. والأمر، كما كان واضحا طوال الوقت، لا يتصل فقط ببرنامج نووي، بل بمحور إقليمي يمتد من طهران إلى بيروت، ويهدد بإعادة تشكيل الجغرافـيا السياسية للشرق الأوسط خارج النسق الأمريكي المعتاد.
لكن تفاصيل التاريخ تخبرنا أن هناك لحظات تقارب بين الفرقاء والخصوم غير متوقعة، ويمكن أن تحدث فـي لحظات الالتباس الكبرى وكذلك لحظات التحولات العميقة التي تغير كل شيء، دون أن نعتقد أن ذلك يحدث صدفة؛ فالرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت له مقولة مهمة وتستحق التأمل دائما: «فـي السياسة، لا يحدث شيء بالصدفة. وإذا حدث، فبالتأكيد انه قد تم التخطيط له بهذه الطريقة». والكتابات التي تناولت العلاقات الأمريكية الإيرانية منذ خمسينيات القرن الماضي منذ الانقلاب على مصدق بدعم من الاستخبارات الأمريكية ووصولا إلى الاتفاق النووي فـي 2015 تشير إلى أن لحظات التقاطع كانت ممكنة حين تراجعت نزعة الهيمنة ولو مرحليا لصالح العقلانية الجيوسياسية.
ويمكن أن نقرأ فـي هذه الجولة من المفاوضات التي بدأت هذه المرة فـي العلن، خلافا لما كان عليه الحال فـي الجولات الأولى من المفاوضات التي أدارتها سلطنة عُمان بحكمة واقتدار وأفضت إلى اتفاق 2015، إرادتين متناقضتين: فواشنطن تبدو أنها تريد إنقاذ المظهر دون التخلي عن جوهر السيطرة، فـيما تريد طهران الحفاظ على الكرامة دون أن تخسر كل شيء؛ ولذلك جاء الجميع إلى مسقط بنوايا مشروطة وكذلك برؤية واضحة حول التحولات التي حدثت فـي المنطقة خلال العامين الماضيين. تطالب الإدارة الأمريكية بتوسيع إطار التفاوض ليشمل الصواريخ الباليستية والنفوذ الإقليمي الإيراني، وهو ما تعتبره طهران مسا بثوابت سيادتها. أما إيران، فتقدم إشارات ولو كانت محدودة، بشأن خفض تخصيب اليورانيوم مع وجود مراقبة دولية، ولكن يبدو أنها ترفض بشكل قاطع النقاش حول «تفكيك» المشروع النووي كما حدث في تجارب عالمية سابقة، كما لا يبدو أنها مستعدة، رغم كل التحولات، أن تنسحب من ساحات نفوذها فـي المنطقة.
هذا يقودنا لأن نطرح سؤالا يبدو مهما فـي هذه المرحلة: ما الذي يجعل أي تقارب ممكنا إذا؟
من المفـيد استحضار السياق الحضاري لمحاولة الإجابة على مثل هذا السؤال. فالعلاقة بين إيران وأمريكا ليست مجرد صراع جيوسياسي، بل هي احتكاك حضاري بين نموذجين: الأول يرى نفسه حاملا للقيم العالمية الليبرالية، والثاني يستند إلى تاريخ طويل من الهوية الحضارية والتمسك بالخصوصية ويعتبر الحضارة الفارسية أحد أعرق الحضارات فـي العالم دون منازع. ومعروف كيف توظف الدول موضوع الهوية فـي بناء سردية العداء. واستطاع الغرب أن يصور إيران منذ اندلاع الثورة الإيرانية باعتبارها تهديدا وجوديا للغرب ليس لأنها ترفض شروط التبعية، ولكن لأنها تمتلك سردية مضادة للهيمنة.
لا يمكن الآن، إذا، أن نفصل هذه المفاوضات التي يمكن أن يعتبرها البعض فنية حول تفاصيل ملف نووي يرفضه الغرب ويرفضه جيران إيران عن منطق «الصفقة» ومنطق «السيادة».
وتفهم سلطنة عُمان، المعنية جدا بإطفاء أي شرارة يمكن أن تشعل الحرب فـي هذه المنطقة المشتعلة بالكثير من الصراعات عبر التاريخ، كل هذه الأفكار وهذه التوازنات وهذه النزاعات وتحاول جاهدة دفع الطرفـين نحو مساحة وسط، حيث يمكن الحفاظ على ماء الوجه دون تفجير المنطقة ودون ترك اللحظة التاريخية تفلت من سياقها دون مكاسب.
لكن خطر عدم التوصل إلى هذه المساحة يبقى حاضرا وإنْ بدرجات متفاوتة. وتصريحات نتنياهو الأسبوع الماضي بأن «العمل العسكري هو الخيار الوحيد إن لم يتم تدمير المواقع النووية» لا يمكن تجاهلها. كما أن ترامب، الذي يظهر أنه لا يفضل خيار الحرب، يحشد قوة عسكرية هائلة على مقربة من إيران. ولذلك تضعف هذه التناقضات احتمالات نجاح طويل الأمد، ما لم يكن هناك عمل جماعي لكبح جماح منطق التصعيد والوصول إلى فهم مشترك مفاده أن السلام ليس تنازلا ولكنه يمكن أن يكون استراتيجية تبني عليها الدول لمستقبل أكثر استقرارا.
ولذلك أرى، شخصيا، أن هذه المفاوضات التي بدأت اليوم السبت هي أقرب إلى أن تكون اختبارا أخلاقيا أكثر من كونها اختبارا دبلوماسيا لترامب من جهة ولإيران من جهة أخرى. ولكنها فرصة استثنائية لتجنب حرب جديدة، ومناسبة لإعادة التفكير فـي أسس العلاقات الدولية، هل هي علاقات قائمة على الإكراه؟، أو يمكن أن تُبنى على الندية والاعتراف المتبادل؟ هل بإمكان دولة مثل أمريكا أن ترى فـي إيران شريكا لا مجرد خصم؟ وهل تستطيع إيران أن تُطمئن العالم وجيرانها دون أن تتخلى عن هويتها وسيادتها على قرارها؟
أما المفاوضات فقد لا تسفر جولتها الأولى عن نتيجة كبيرة كما قد يحلم البعض، ولكن مجرد انعقادها فـي هذا التوقيت وفـي عُمان بالذات يعني أن هناك أملا فـي أن العالم لم يفقد قدرته الكاملة على التفاهم قبل أن يذهب نحو الانفجار العظيم، ولم يفقد قدرته على فهم المساحة الأكثر قدرة فـي المنطقة على تبني الحوار ورعايته.
عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة «عمان»