مع حلول شهر رمضان المبارك، تتزين الأجواء بنفحات روحانية خاصة، وتصبح الأصوات التي تعود عليها المسلمون جزءاً لا يتجزأ من ذكريات الشهر الفضيل. وبين تلك الأصوات، يبقى صوت الشيخ محمد رفعت حاضراً في وجدان الملايين، فهو الصوت الذي ارتبط بقدوم رمضان لعقود طويلة، وما زالت تلاوته تملأ البيوت والمساجد، حتى بعد أكثر من سبعين عاماً على رحيله.

البدايات والنشأة

في حي المغربلين بالعاصمة المصرية القاهرة، وتحديداً عام 1882، وُلد الشيخ محمد رفعت، ذلك الصوت الذي شقّ طريقه إلى القلوب قبل الآذان، فأبهر المستمعين بتلاوته العذبة التي امتزجت بالخشوع والجمال. إذ لم يكن مجرد قارئ للقرآن، بل كان حالة روحانية فريدة، تجاوزت أصداء صوته الحدود واللغات، حتى أصبح صوته رمزاً خالداً في سماء التلاوة.

في صغره، وُصف بأنه طفل جميل ذو عيون جذابة، لكن قيل إن سوء الحظ طاله بعد أن أصيب بعين الحسد، مما أدى إلى إصابته بداء في عينيه. وبعد محاولات علاجية لم تُجدِ نفعاً، خضع لعملية جراحية فقد على إثرها بصره تماماً وهو في الخامسة من عمره.
وكما كانت العادة في ذلك الوقت، وجّه والده وجهته نحو حفظ القرآن الكريم، فألحقه بكُتَّاب مسجد مصطفى فاضل باشا في السيدة زينب، وأظهر محمد رفعت موهبة استثنائية في التلاوة، إذ حفظ القرآن كاملًا وهو في العاشرة من عمره، قبل أن يُبحر في علوم التجويد والتفسير والمقامات الصوتية، التي أصبحت فيما بعد علامة مميزة لتلاوته.
ولم يكن فقدانه للبصر هو المحنة الوحيدة في حياته، إذ فقد والده وهو في التاسعة من عمره، ليجد نفسه فجأة مسؤولًا عن إعالة أسرته المكونة من والدته، وخالته، وأشقائه. وبإرادة صلبة، بدأ في إحياء الليالي القرآنية في المآتم، ليكسب قوت يومه ويؤمّن احتياجات عائلته.

صوت من السماء

لم يكن صوت الشيخ رفعت مجرد تلاوة عادية، بل كان يتغلغل في النفوس ويأسر القلوب، حتى بدأ الناس يطلبونه في مختلف أنحاء القاهرة، وأصبح اسمه يتردد في الأقاليم. وعندما بلغ الخامسة عشرة، تم تعيينه قارئاً ليوم الجمعة في مسجد فاضل باشا، حيث ازداد الإقبال على سماعه، لدرجة أن المصلين كانوا يتزاحمون في المسجد لسماع تلاوته.
وكانت أول مكافأة حصل عليها في حياته 25 قرشاً، بعدما قرأ في إحدى المناسبات، وكان هذا المبلغ يمثل له الكثير آنذاك، لكن مع مرور السنوات، ازداد الطلب عليه من قِبل الأثرياء والمحبين، ورغم ذلك، كان زاهداً في المال؛ ففي إحدى المرات، عندما قرأ في منزل أحد الأثرياء، أخطأ المضيف وأعطاه مليماً بدلًا من الجنيه الذهبي، لكنه لم يهتم بذلك، وحين جاء الرجل ليعتذر منه، أجابه بكل رضا: "هذا رزق ربي، والحمد لله على ما رزقني".

ثقافة موسيقية واسعة

لم يكن الشيخ رفعت مجرد قارئ للقرآن، بل كان مثقفاً واسع الاطلاع، إذ درس علوم التجويد والتفسير، إلى جانب دراسته الموسيقى والمقامات الصوتية، حيث تأثر بموسيقى بيتهوفن، موتزارت، وفاجنر. وكان يمتلك مكتبة تضم أشهر السيمفونيات العالمية.
كما كان يعقد صالونات ثقافية يحضرها كبار المثقفين والفنانين، مثل أحمد رامي، كامل الشناوي، صالح عبد الحي، زكريا أحمد، ومحمد عبد الوهاب، وحتى الفنانة ليلى مراد قبل إسلامها.

المحطة الفاصلة في حياته

في عام 1934، حقق الشيخ محمد رفعت نقلة نوعية عندما أصبح أول صوت يُفتتح به بث الإذاعة المصرية، حيث اختير لتلاوة سورة الفتح في افتتاح البث الرسمي، فكان مطلعها: "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا".
ورغم شهرته الكبيرة، كان الشيخ في البداية متردداً في تلاوة القرآن عبر الإذاعة، خوفاً من عرضها للأغاني والموسيقى التي قد يراها البعض غير لائقة، لكنه استفتى شيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري، الذي طمأنه بأن ذلك لا يتعارض مع قدسية القرآن، مما دفعه إلى قبول العرض، ليصبح صوته مرافقاً للشهر الفضيل وأذان الفجر في الإذاعة المصرية، وهو الصوت الذي لا يزال يُسمع حتى اليوم في رمضان.

سنوات المرض والاعتزال القسري

بعد مسيرة عامرة بالإنجازات، أصيب الشيخ رفعت بعدة أمراض أضعفت صوته، لكنه كان يعود للقراءة بين الحين والآخر حتى اشتد عليه المرض. وفي السنوات الثماني الأخيرة من حياته، أصيب بورم في الأحبال الصوتية، مما منعه من تلاوة القرآن نهائياً.
ورغم ظروفه الصعبة، رفض الشيخ رفعت أي مساعدة مالية، حتى عندما جمع محبوه مبلغ 50 ألف جنيه لعلاجه، رفض قائلاً: "الدنيا عرض زائل.. وقارئ القرآن لا يُهان ولا يُدان.. أراد الله أن يمنعني، ولا راد لقضائه.. فالحمد لله".
وفي نفس يوم ميلاده، الموافق عام 1950، رحل الشيخ محمد رفعت عن عمر ناهز 68 عاماً، تاركاً خلفه إرثاً خالداً من التلاوات العذبة، التي لا تزال تسكن قلوب المستمعين حتى اليوم. 

وعندما نعته الإذاعة المصرية، خاطبت المستمعين قائلة: "أيها المسلمون، فقدنا اليوم علماً من أعلام الإسلام"، كما نعتته إذاعة دمشق بقولها: "لقد مات المقرئ الذي وهب صوته للإسلام"... وحتى الآن لا يزال صوته رمزاً خالداً للتلاوة القرآنية، ويظل اسمه مرتبطاً بشهر رمضان في وجدان المسلمين حول العالم.



المصدر: موقع 24

كلمات دلالية: وقف الأب رمضان 2025 عام المجتمع اتفاق غزة إيران وإسرائيل صناع الأمل غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية شهر رمضان الشیخ محمد رفعت الصوت الذی الشیخ رفعت لم یکن

إقرأ أيضاً:

محمد أبو هاشم: الإمام أبو حنيفة وضع أساس الاجتهاد الفقهي الذي يسر على المسلمين

قال الدكتور محمد أبو هاشم، عضو المجلس الأعلى للطرق الصوفية، إن الإمام أبو حنيفة النعمان كان من أبرز الأئمة الذين أسسوا الاجتهاد الفقهي وساهموا في تيسير الفقه الإسلامي بما يتناسب مع واقع الناس وحياتهم اليومية.  


وأوضح أبو هاشم، خلال تصريحات له، أن الإمام أبو حنيفة، ولد في الكوفة عام 80 هـ، ونشأ في بيئة علمية، حيث تتلمذ على يد كبار العلماء مثل عامر الشعبي ونافع مولى ابن عمر، حتى أصبح من أبرز فقهاء عصره، معتمدًا على الرأي والحجة في اجتهاداته.  

أحمد عمر هاشم: شق صدر النبي حدث 4 مراتكادت تشعل نزاعا.. أحمد عمر هاشم يروي كيف عالج الرسول أشد الأزمات بحكمتهعمر هاشم: أخلاق النبي ليست مستمدة من الشريعة قبل البعثة بل فطريةأحمد عمر هاشم: للبيت النبوي مكانة عظيمة عبر التاريخ وحفظه الله من كل دنس

ولفت إلى أن المذاهب الفقهية الأربعة لم تخلق دينًا جديدًا، بل اجتهد أصحابها في فهم النصوص الشرعية، مما يسر على المسلمين تطبيق الشريعة في حياتهم اليومية، مستشهدًا بحديث النبي ﷺ: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه."  

واشار إلى بعض اجتهادات الإمام أبي حنيفة التي أثرت في حياتنا اليوم، مثل جواز الوضوء من الصنبور، وهو ما كان موضع خلاف عند ظهوره، حتى أقره الإمام أبو حنيفة، ومن هنا جاء اسم "الحنفية" المستخدم حتى اليوم.  

وأكد أن المحاكم الشرعية في مصر تعتمد على مذهب الإمام أبي حنيفة في قضايا الزواج والطلاق، حيث اشترط أن يكون الشاهد مسلمًا فقط دون الدخول في تفصيلات العدالة التي قد تُعسر الأمر على الناس.  

وبين أن الإمام أبو حنيفة توفي عام 150 هـ ودُفن في حي الأعظمية ببغداد، حيث ظل مذهبه من المذاهب المعتمدة لدى أهل السنة والجماعة، داعيًا الله أن يوفق المسلمين لما يحبه ويرضاه.
 

الإمام أبو حنيفة

حفظ الإمام أبي حنيفة، القرآن الكريم في صغره، وحجّ البيت الحرام وهو ابن ستّ عشرة سنة مع أبيه، ويروى أنّ والده ثابت قد عاصر عليًّا بن أبي طالب -كرّم الله وجهه- فدعا له بالخير ولذريّته كذلك، وقد أخذ العلم عن شيوخ بلغوا أربعة آلاف شيخ، منهم سبعة من الصحابة، وثلاثة وتسعون من التابعين، ومن بقي منهم من تابعي التابعين، وقد أخذ الفقه عن حمّاد بن أبي سلمة.


ومن شيوخه أيضًا عطاء بن أبي رباح والشعبي وعمرو بن دينار ومحمّد الباقر -والد الإمام جعفر الصادق- وابن شهاب الزُّهري، وأخذ عنه العلم خلق كُثُر منهم القاضي أبو يوسف ووكيع -شيخ الإمام الشافعي- وعبد الرزاق بن همام شيخ الإمام أحمد بن حنبل.


محنة الإمام أبي حنيفة

 تعرّض الإمام أبو حنيفة النعمان لمحنة في عهد الدولة الأموية وأخرى في عهد دولة بني العباس، وقد عاصر الإمام الدولتين وكانت معظم حياته أيّام الأمويّين، ففي أيّام الأمويين طلب ابن هُبيرة -وكان والي الكوفة وقتها- من الإمام أبي حنيفة أن يتولى قضاء الكوفة، فرفض الإمام أبو حنيفة النعمان ذلك، فجلده ابن هبيرة مائةسوط ورفض الإمام ولم يلِن، فعندما رآه ابن هبيرة كذلك خلّى سبيله، ثمّ لمّا ولِيَ أبو جعفر المنصور خلافة العباسيين طلب من الإمام أبي حنيفة أن يكون قاضي القضاة، وهذا منصب له أوزار كثيرة كما يرى الإمام أبو حنيفة النعمان، فرفض ذلك، فأقسم المنصور أن يكون أبو حنيفة القاضي، وأقسم أبو حنيفة النعمان ألّا يستلم ذلك المنصب، فحبسه المنصور وأذاقه من الويلات في سجنه ما لا يحتمله من هو في ريعان الشباب بل أن يحتمله ابن السبعين عامًا، فتوفّي -رحمه الله- في سجنه، وكان ذلك سنة 150هـ بعد أن قضى حياته عابدًا صائمًا ساجدًا راكعًا وقد حجّ خمسًا وخمسين مرّةً، وكان يختم القرآن في كلّ يوم مرّة، وعندما مات صلّى عليه النّاس ستّ مرّات لشدّة ازدحامهم عليه.

مقالات مشابهة

  • نجله الشيخ المنشاوي: تسليم إذاعة القرآن الكريم حفلات لم يتم إذاعتها
  • سر فيديو حلمي طولان الذي أصبح تريندا بسبب حسام حسن
  • أسرة الشيخ الطبلاوي تهدي إذاعة القرآن الكريم ختمة مرتلة وتلاوات نادرة
  • الإفطار في حضرة الشيخ الخليلي
  • محمد أبو هاشم: الإمام أبو حنيفة وضع أساس الاجتهاد الفقهي الذي يسر على المسلمين
  • النقشبندي.. أيقونة الإنشاد الصوفي وصوت رمضان الخالد
  • الشيخ حماد القباج في ذمة الله
  • تكريم 85 طفل من حفظة القرآن الكريم بمسجد عمر بن الخطاب بأسوان
  • امتداد للمدرسة المنشاوية..الشيخ عبدالصمد المنشاوىسيرة عطرة تتجدد في رمضان