الأمن الأوروبي مهدد بسبب فوضى ترامب
تاريخ النشر: 10th, March 2025 GMT
سرايا - تمتلك الولايات المتحدة ما يكفي من قوة للصمود، حتى بعد التخلي عن حلفائها القدامى. ولكن في حال نفذ الرئيس الأميركي تهديداته وقطع المساعدات عن أوكرانيا، فستدفع القارة برمتها ثمناً باهظاً.
إن تخلي الولايات المتحدة، تحت إدارة ترامب، عن أوكرانيا يهدد الأمن الأوروبي، ويكشف هشاشة اعتماد الاتحاد الأوروبي على واشنطن، ويستدعي تحركاً أوروبياً عاجلاً لإعادة التسلح وضمان الاستقلال الاستراتيجي قبل أن تؤدي الفوضى العالمية الجديدة إلى تداعيات كارثية.
***
ذات مرة، علق وزير الخارجية الأميركي السابق، هنري كيسنجر، بقوله: "ربما تكون معاداة الولايات المتحدة أمراً خطيراً، لكن صداقتها قد تكون مميتة".
في الواقع، كان هنري كيسنجر، مهندس السياسة الخارجية في عهد ريتشارد نيكسون، يقر بهذا التصريح بأن البنتاغون مستعد لإلحاق أذى كبير بأي دولة غير نووية تحاول تحدي إرادة واشنطن. أما الدول الأضعف التي تراهن على القوة الأميركية لتعزيز قدراتها الدفاعية، فقد تجد نفسها في مهب الريح، بل وربما تواجه خطر الزوال بمجرد أن يسحب البيت الأبيض يده منها. في الحقيقة، يبدو أن شبح الانهيار الشائن في جنوب فيتنام في العام 1975 لم يفارق كيسنجر يوماً.
شكلت المواجهة التلفزيونية الصاخبة ليلة الجمعة الماضي في المكتب البيضاوي بين دونالد ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي جرس إنذار للأجيال في الغرب بشكل خاص، وإشارة إلى العالم، بما في ذلك الخصوم المحتملون، بأن المصالح الأميركية الأساسية لا تضع مصالح حلفائها في الحسبان.
بدت النخب السياسية الأوروبية مذهولة أمام المشادة التي شهدها المكتب البيضاوي؛ فكثيراً ما اعتبر قادة الاتحاد الأوروبي أن ثروات بلادهم ستمنحهم القدرة على شراء النفوذ لكتلتهم واستغلاله لمصلحتهم على المستوى العالمي، من دون أن يضطروا إلى الانغماس في دهاليز السياسة القذرة للقوة. ومع ذلك، كانت ستة أسابيع من عهد دونالد ترامب الثاني كافية لتبديد هذه الأوهام.
ولا تُقتصر المسألة على أن التزامهم تجاه أوكرانيا سيصبح أجوف في حال قرر ترامب قطع المساعدات الأميركية، بل إن الاعتماد الأمني للاتحاد الأوروبي على الولايات المتحدة أصبح هو أيضاً على المحك.
سوف يكون على الأميركيين اتخاذ قرار حاسم بشأن ما إذا كان التخلي عن أوكرانيا وتجاهل الأوروبيين سيسمح لهم بـ"جعل أميركا عظيمة مرة أخرى" -لكن الوقت يداهم الأوروبيين، وليس بإمكانهم التريث للتفكير في ما ينبغي عليهم فعله.
يقف الأوروبيون اليوم أمام واقع مرير، حيث يرون أنفسهم عاجزين عن تنفيذ استراتيجية دفاعية بديلة بين ليلة وضحاها -حتى لو توصلوا غداً إلى اتفاق حول تفاصيلها. وهكذا، فإن أفضل ما يمكن للمرء أن يأمله في المستقبل المنظور هو ألا يكتفي كير ستارمر بصياغة اتفاق لتغطية نقاط ضعفهم، بل أن يتوصل إلى خطة استراتيجية فعلية ومتفق عليها، تتضمن التزامات ملموسة وقابلة للتنفيذ.
في هذا السياق، يجدر التذكير بأن باراك أوباما؛ الرئيس الأميركي الذي يختلف بشكل جذري عن ترامب، كان يشعر بالإحباط من حلفائه الأوروبيين الذين ظلوا يكررون التزامهم بزيادة إنفاقهم على الدفاع، فقط ليعودوا ويتراجعوا لاحقاً عن هذا الالتزام.
على الرغم من تصريحات قادة الاتحاد الأوروبي بأنهم سيواصلون تقديم المساعدات لأوكرانيا بغض النظر عما يفعله ترامب، أظهرت أرقام حديثة أن الأوروبيين أنفقوا على مشتريات الطاقة من روسيا 3 مليارات دولار أكثر من المبلغ الذي خصصوه للمساعدات المقدمة لزيلينسكي.
أما الأهم من ذلك، فهو أن جزءاً كبيراً من المساعدات العسكرية المرسلة من الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة إلى أوكرانيا يتألف في الواقع من أسلحة وذخائر وآليات أميركية الصنع -مع أن ثمنها يتم تسديده من جيوب دافعي الضرائب الأوروبيين، بغض النظر عن مزاعم ترامب. ومع ذلك، فإن قدرة أوروبا على مواصلة جهود الحرب الأوكرانية في غياب مشاركة الولايات المتحدة، وعلى تحديد مسار الأحداث المستقبلية في القارة، ستتطلب تقديم تضحيات كبيرة هنا في الغرب.
لا شك في أن قيام كير ستارمر بخفض موازنة المساعدات الخارجية سيظل أمراً بسيطاً بالمقارنة مع الزيادات الضريبية المتوقعة، ومع المبالغ الإضافية التي سيتعين اقتراضها لإعادة تسليح أنفسنا على جناح السرعة، مع العمل في موازاة ذلك على زيادة حجم المساعدات المقدمة لأوكرانيا.
في الأفق الأوكراني، تلوح أعراض انقسامات سياسية مثيرة للقلق. فمن جهة، قدم رئيس بلدية كييف، فيتالي كليتشكو، دعمه المتحفظ لزيلينسكي عقب المشادة التي وقعت في البيت الأبيض. ومن جهة أخرى، أدرك أصحاب المواقف العسكرية المتشددة في أوكرانيا، ومن بينهم نائب أوديسا، أولكسي غونتشارينكو، أن تصريحات الاتحاد الأوروبي ليست كفيلة بتدمير دبابات روسيا، وأن زيلينسكي أخطأ في تقدير الأثر الذي ستحدثه تعليقاته في البيت الأبيض.
إن المأساة التي تواجه زيلينسكي هي أن انتصار روسيا قد يحدد مصيره. ولكن، حتى من دون خسارته أمام بوتين، فإن الرئيس الأوكراني قد يتعرض للطعن في الظهر، حرفياً.
في بداية عهد زيلينسكي في العام 2019، هدد المتشددون العسكريون بالانقلاب عليه في حال أبرم اتفاقاً مع بوتين لتهدئة الحرب غير المعلنة في جنوب شرقي أوكرانيا. ومع ذلك، فإنهم قد يحاولون اليوم الإطاحة به بسبب معارضته ترامب ورفضه التعامل مع بوتين وفق الشروط الأميركية. وهكذا، فإن هذا المزيج من التطرف والانتهازية قد يتسبب في نشوب حرب أهلية داخلية، على غرار تلك التي أدت إلى انهيار الجمهورية الإسبانية في العام 1939 وسط تقاتل مختلف الفصائل في ما بينها بدلاً من التصدي لفرانكو.
لقد رفض زيلينسكي الخروج من كييف عندما أطلق بوتين غزوه منذ ثلاثة أعوام. ولكن، لا بد من أن تتحسب بريطانيا والدول الأوروبية الحليفة لأسوأ السيناريوهات، وأن تضع خطة طوارئ لإنقاذه من انقلاب داخلي أو من سيطرة روسية محتملة.
ختاماً، لا بد من الإشارة إلى أن الولايات المتحدة قوية بما فيه الكفاية للإبقاء على صدقيتها حتى لو تخلت عن حلفائها، وهو ما حصل في الماضي. أما بريطانيا وحلفاؤها الأوروبيون، فسيكون عليهم دفع الثمن اللازم لضمان صدقيتهم وسط الفوضى العالمية الجديدة. ولذلك، فإن وقوفنا إلى جانب حلفائنا القادة، حتى لو تعذر علينا إنقاذ بلدانهم -كما فعل ونستون تشرشل مع الحكومات الأوروبية في المنفى بعد العام 1940- يعد خطوة تمهيدية لحصولنا على فرصة، في المستقبل البعيد، لخلق عالم يساندنا ويخدم مصالحنا، إذا ما بذلنا الجهد اللازم لوقف الفساد والانهيار.
1 - | ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه. | 10-03-2025 11:03 PM سرايا |
لا يوجد تعليقات |
الاسم : * | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : * | |
رمز التحقق : | أكتب الرمز : |
اضافة |
الآراء والتعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها فقط
جميع حقوق النشر محفوظة لدى موقع وكالة سرايا الإخبارية © 2025
سياسة الخصوصية
المصدر: وكالة أنباء سرايا الإخبارية
كلمات دلالية: الولایات المتحدة الاتحاد الأوروبی حتى لو
إقرأ أيضاً:
هل تخلت إسرائيل عن ضرب منشآت إيران النووية بسبب ترامب؟
في ظل المحادثات الجارية بين الولايات المتحدة وإيران حول الاتفاق النووي، يبدو أن إسرائيل غيرت موقفها من شن هجوم عسكري على المنشآت النووية الإيرانية، بعد دخول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فثمة تحول في الاستراتيجية الإسرائيلية، حيث تفضل الآن الطريق الدبلوماسي على الخيار العسكري.
هكذا يعتقد المحلل السياسي لصحيفة "يديعوت أحرنوت" الإسرائيلية، إيتمار آيخنر، ففي تقرير له يذكّر بأن إسرائيل عارضت لسنوات طويلة أي اتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي، معتبرة أن طهران تسعى إلى تطوير أسلحة نووية تحت غطاء برنامجها النووي السلمي.
وقد قدمت إسرائيل أدلة ووثائق، مثل ما أسماه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو "الأرشيف النووي"، لتأكيد انتهاكات إيران للاتفاق النووي الموقع في 2015، والذي انسحبت منه الولايات المتحدة في 2018 تحت إدارة ترامب الأولى.
دبلوماسية بديلا للتهديدويقول آيخنر إن إسرائيل كانت دائما تفضل خيار الضربات العسكرية كوسيلة لمنع إيران من امتلاك أسلحة نووية. ومع ذلك، يبدو أن التهديدات المتكررة بشن هجوم مشترك مع الولايات المتحدة قد تراجعت في ظل التطورات الأخيرة، خاصة بعد أن بدأت إدارة ترامب محادثات مع طهران.
إعلانفمع عودة ترامب إلى السلطة، بدأت الولايات المتحدة في إجراء محادثات مع إيران عبر وسيط سويسري، مما أدى إلى تغيير في حسابات إسرائيل.
ووفقا للتقرير، فإن إسرائيل، التي كانت تعارض أي اتفاق مع إيران، أصبحت الآن أكثر انفتاحا على الخيار الدبلوماسي، شريطة أن يمنع الاتفاق إيران من الحصول على أسلحة نووية.
وقد أعلن ترامب مؤخرا أنه أرسل رسالة إلى المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي يدعوه فيها إلى التفاوض على اتفاق نووي جديد. وقال ترامب في مقابلة مع قناة فوكس نيوز "آمل أن تجري مفاوضات، لأنها ستكون أفضل بكثير لإيران". هذه الخطوة جاءت بعد أن اتصلت إيران بالولايات المتحدة عبر سويسرا لاستكشاف إمكانية إجراء محادثات.
كما واصل ترامب تهديداته ضد إيران، حيث قال في تصريحات صحفية "نحن في المراحل النهائية مع إيران، سيكون الأمر مثيرا للاهتمام، نحن في اللحظات الأخيرة.. على أي حال، ستكون مشكلة كبيرة. إنه وقت مثير للاهتمام في تاريخ العالم، ولكن هناك وضع مع إيران أن شيئا ما سيحدث قريبا، قريبا جدا".
خيارات إسرائيلووفقا للمحلل السياسي، فإن إسرائيل تدرس في الوقت الحالي عدة خيارات للتعامل مع الملف النووي الإيراني، بما في ذلك فرض عقوبات أكثر صرامة، والحفاظ على خيار عسكري ذي مصداقية، ودعم المحادثات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وإيران.
ويضيف "وعلى الرغم من أن إسرائيل لا تثق تماما في إيران، إلا أنها لا تستبعد إمكانية التوصل إلى اتفاق جديد إذا كان ذلك سيحقق الهدف الأساسي المتمثل في منع طهران من امتلاك أسلحة نووية".
ويلفت في هذا السياق إلى تصريح مسؤول إسرائيلي لصحيفة واشنطن بوست بأن إسرائيل كانت قد صاغت خططا لهجوم مشترك مع الولايات المتحدة ضد المنشآت النووية الإيرانية بعد هجوم أكتوبر الأخير. ومع ذلك، فإن التطورات الأخيرة تشير إلى أن إسرائيل تفضل الآن المسار الدبلوماسي، خاصة في ظل التنسيق الكبير بين واشنطن وتل أبيب فيما يتعلق بالتعامل مع إيران.
إعلانويقول المحلل السياسي إنه على الرغم من التحول نحو الدبلوماسية، فإن إسرائيل لا تزال تحتفظ بخيار الضربة العسكرية كاحتمال قائم، مشيرا في هذا السياق إلى أن إسرائيل أجرت مؤخرا مناورات عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة، حيث شاركت طائرات مقاتلة إسرائيلية مع قاذفات أميركية.
ويؤكد أن "هذه المناورات، التي تحدث في ظل إدارة ترامب، تهدف إلى إرسال رسالة واضحة إلى إيران مفادها أن الدولتين منسقتان وتريدان تحقيق نفس الهدف، بغض النظر عن الطريق الذي سيتم اختياره".
ويسلط آيخنر الضوء على التصريحات الإيرانية المضادة، ومنها تصريح وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي لوكالة الأنباء الفرنسية، حينما قال إن برنامج إيران النووي لا يمكن تدميره بعمل عسكري، مشيرا إلى أن إيران لن تتردد في الرد بشكل حاسم إذا تعرضت منشآتها النووية للهجوم، وأن أي هجوم إسرائيلي على إيران سيؤدي إلى اندلاع حريق واسع في الشرق الأوسط.
ويلفت إلى رغبة إيران الحقيقية في التوصل لاتفاق نووي مع الغرب، لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى رفع العقوبات وتحسين الوضع الاقتصادي في البلاد.
ولكن آيخنر الذي يرى أن "الثقة بين الطرفين لا تزال في أدنى مستوياتها، مما يجعل أي تقدم نحو اتفاق نووي جديد تحديا كبيرا"، يؤكد أن الخيارات مفتوحة، سواء كانت دبلوماسية أو عسكرية بالتنسيق مع الولايات المتحدة.
ويختم المحلل السياسي تقريره، قائلا "مع استمرار المحادثات والتهديدات يبقى مستقبل العلاقات بين هذه الأطراف غير مؤكد، لكن التطورات الأخيرة تشير إلى أن الدبلوماسية قد تكون الطريق الأفضل لتحقيق الاستقرار في المنطقة".