قامت كثير من المجتمعات على إعلاء قيمة الحوار، فمنذ الحضارات القديمة كان الحوار ركيزة أساسية للتعايش في مجتمع واحد مختلف في ألوانه وأطيافه، على الرغم من أن المسيطر على التاريخ السياسي هو العنف والصراعات، إلا أنه لا يُمكن إنكار وجود الحوار في التاريخ الاجتماعي وإن كان بصورة خفيفة أحيانا، فكونفوشيوس كان يحاور المجتمع الصيني، وسقراط كان يحاور المجتمع الأثيني، وهكذا مرورا بالأنبياء والفلاسفة والحكماء، الجميع كان يحاول التغيير بعدة أدوات ومن ضمنها الحوار، ولذا نجد القرآن يذكر ذلك بصيغ مفرداتية مختلفة منها الجدال كما في قوله تعالى: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (النحل: 125)، أو في قوله: «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (العنكبوت: 46)، والحوار في ذاته ينبع من معرفة داخلية بأهميته في البناء والوصول إلى الحالة الوسطية بين الطرفين المختلفين، ومن هنا يأتي السؤال: هل ما زال الحوار مجديا في عالم ممزق؟
يفترض هذا المقال أن الحوار ما زال مجديّا في عالم مماثل، وينطلق لمجادلة ذلك من خلال ثلاثة جوانب رئيسة هي: الجانب السياسي، والجانب الاجتماعي، والجانب الفكري والثقافي.
في المستوى السياسي، يُمكن القول إن قيمة الحوار يُمكن تقسيمها لمستويين، هما المستوى الخارجي، والمستوى الداخلي. فالمستوى الخارجي يُمكن ملاحظة أن كثيرًا من النزاعات الدولية يكون الحوار هو نهايتها، فبجلوس الأطراف المتنازعة على طاولة الحوار والمفاوضات يُمكن الخروج بنتيجة معينة لحل النزاع الحاصل، على الرغم من أن هذا يكون في بعض الأحيان حوارًا غير متكافئٍ إذ إنه ينطلق في ثلاثة مستويات رئيسة، هي طرف غالب وطرف مغلوب، أو طرفين متساويين، أو طرفين متفاوتين في القوة لم يصل معهما الصراع العسكري إلى نتيجة، وهذا ينطبق على الصراعات متعددة الأطراف، ولكلّ تفصيلها وطريقة التفاوض فيها، وفي كثير من الأحيان تكون نتيجة المستوى الأول الوصول إلى مصلحة الطرف الغالب، وهذا ما حدث على سبيل المثال مع أمريكا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، ونتيجة المستوى الثاني مختلفة بحسب ظروف التفاوض لكنها في أحيان كثيرة تصل إلى اتفاقية لمصلحة الطرفين، وهذا ما حدث مثلا في المفاوضات بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب الباردة التي نتج عنها اتفاقية سالت ومعاهدة ستارت في الحد من سباق التسلح النووي. أما المستوى الثالث فإن الأمر فيه يعتمد على مصلحة الطرفين أيضا في حال استطاع الطرف الأضعف الوصول إلى حلفاء أكثر قوة واستخدم أدوات تفاوض جيدة يُمكنه من خلالها الوصول إلى حل في مصلحة الطرفين، وهذا ما تحاول الآن أوكرانيا الوصول إليه إذا وصل الصراع الحالي لطاولة المفاوضات، لذلك فإن إمكانية تخلي أمريكا عن أوكرانيا في فترة ترامب الحالية يشكل خطرًا كبيرًا بالنسبة للأهداف الدفاعية الأوكرانية في المفاوضات.
هذا الحوار بين الأطراف الدولية باعتبار الفاعل الدولي الأول (الدولة) يُمكن أن ينطبق أيضا على الأطراف الأخرى، مثل حركات المقاومة أو الميليشيات في تفاوضها مع الدول، فإن الأمر كثيرًا ما ينقاد في النهاية -إذا لم تستطع الدولة التغلب على الحركة- لطاولة حوار تحاول الدولة فيه تحقيق القدر الأكبر من المصلحة.
أما المستوى الثاني من الحوار في الجانب السياسي فيتعلق بالسياسة الداخلية، فكلما زاد الحوار الداخلي استطاعت الدولة أن تصل إلى رضا شعبي حول سياساتها، إذ إن الأمر في هذه الحالة يكون متعلقًا بزيادة الحركة النقدية داخل المجتمع، مما يُمكّن الحكومة من قياس مستوى الرضا عن سياساتها وتطوير الجوانب غير المرضي عنها، وكلما زاد الحوار بين الحكومة والمجتمع، زاد نجاح السياسات العامة للحكومة لأنها استطاعت معرفة ما يدور في المستوى الشعبي وما هي المتطلبات أو الاحتياجات، ولذلك تجد أن الدول الدكتاتورية في الغالب تغيّب مثل هذه الحوارات الداخلية، لأنها تدرك أن السياسات اتُّخذت من طرفٍ واحد دون استخدام أدوات علمية واضحة. هذا الحوار الداخلي يُمكن أن يتزايد من خلال عدة أدوات منها المشاركة المجتمعية الذي ينطلق من إشراك المجتمع في عملية صنع القرار وتقوية المجالس التشريعية والاستشارية من خلال منحها الأدوات اللازمة، وحرية الصحافة والإعلام ومنها مواقع التواصل الاجتماعي، والشفافية والمساءلة.
أما الجانب الاجتماعي، فإن الحوار يؤدي دورًا مهمًّا في تقليل التوترات الاجتماعية والطائفية، فإن فتح المجال للحوار والمعرفة قادرٌ على تعريف الأطراف المختلفة في البلد الواحد أو البلدان المختلفة ببعضها، ومعرفة الآخر أمرٌ لا بدَّ منه للوصول إلى حالة السلام معه، إذ إن الجهل يؤدي للتطرف، لأنه مبني على أفكار نمطية غالبًا ما تكون غير حقيقية أو مضخمة بطريقة لا يعتقد بها الآخر. هذه الخُلطة بالآخر قادرة على كسر أصنام الأفكار النمطية ومحاولة السماع منه لا عنه، هذه المعرفة من خلال التعارف والتحاور -دون أي أفكار مسبقة أو نمطية تشكّلت من خلال الجهل بالآخر- يُمكن أن تؤدي في النهاية إلى الاعتراف به، وهذا الاعتراف لا يعني ضرورة أخذ ما عنده من أفكار أو الاعتقاد بها، ولكنه يعني الاعتراف بأنه شريك في الوطن أو الدين أو الإنسانية فـ«الناس صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق» كما قال الإمام علي. كلّما انطلقت الأطراف المختلفة إلى الآخر من خلال الحوار لا القتل، كان ذلك أكثر استقرارًا للمجتمع وأقل ضررًا به، وعلى الرغم من أن السائد هو الصراع والتقاتل، إلا أن الحوار ليس مستحيلاً، والتعرف على الآخر ليس متأخرًا،
والنظر إلى الجمال الإلهي في الوجود باختلافه ليس كفرًا، لكن يجب أن يؤسس لهذا الحوار من يقودون هذه الأطراف أيًّا كانت، فكما أن الحوار السياسي يبدأ من الحاجة الاضطرارية للسياسيين، فإن الحوار الاجتماعي كذلك، مما يؤدي في النهاية إلى تطور الفكر الاجتماعي والوصول إلى حالة من الاعتراف بأن الصراع ليس حلّا، والتجربة البشرية التاريخية أثبتت أن الأمر ممكن الحصول، لكنه يحتاج إلى حراكٍ حقيقي وجاد، فالذي يتَّحد لرسالة فيها شعرة -كما حدث في اجتماع الفاطمي العاضد لدين الله ومحمود بن عماد الدين زنكي لمواجهة الحملة الصليبية لآمالريك الأول- يستطيع أن يتحد لما هو أكبر من ذلك، لثمانية وأربعين ألف شهيد وأضعافه من الجرحى والمدمرة بيوتهم.
أما الجانب الفكري، فإنه جزء من الحوار الاجتماعي، لكنه يتعلق بالأفكار والثقافة، فإن مثل هذا الحوار قادر على محاربة التطرف من خلال التعرف -مرة أخرى- على أفكار الآخرين وقناعاتهم، منهم لا عنهم، فمثل هذا الحوار قادر على أن يخلق تصاعدا للحالة النقدية في المجتمع، مما يؤدي بالضرورة إلى الحوار الاجتماعي ومن ثم الحوار السياسي. إن الحوار الفكري هو المؤسس الأول للعقلانية الاجتماعية التي تؤدي بالمجتمع إلى أن يصل للحوار الهادئ والنسبي دون إقصاء أو تهميش، مما يمكّنه من الوصول إلى حالة مراجعة للأفكار الإيجابية أو السلبية التي يؤمن بها ومن ثم إعادة المراجعة. هذه الحالة من المراجعات الفكرية والاجتماعية، تؤسس لنقد المجتمع لذاته، مما يمكّنه من التطور الذاتي والمعرفي، على أن هذه الحالة لا بد أن تصاحبها حريّة فردية يُمكن من خلالها النقد والمراجعة دون الاغتيالات الاجتماعية ممكنة الحدوث، لأن مثل هذا قادر على أن يعيد المجتمع إلى النقطة الصفرية التي انطلق منها في البداية.
يُمكن القول إن التجربة البشرية تتطور من خلال الحوار مع الآخر ومعرفته، والحوار مع الذات ومعرفتها، والحوار مع المعرفة ونقدها، ثم إيجاد أفكار جديدة أكثر صحة واستدامة، والخروج من تنميط الذات والآخر، على الرغم من أن هذا التنميط ليس شيئا سلبيا بالضرورة، فإن الكثير من النمطيات مكوّنة للهوية وحافظة لها من الضياع الهوياتي الذي كثيرًا ما يدعو له العالم اليوم، لكنها في الوقت ذاته مانعة من النقد الذاتي والنقد الخارجي، مما يجعل المجتمع حبيس ذاته ونمطياته في كثير من الأحيان، ولا يُمكن الخروج من ذلك إلا من خلال الخُلطة والتحاور، مع الأنا والآخر، فالشك أول المعرفة و«لم يكن يقين قط حتى كان قبله شك»، فأولى الناس بالشك في نمطياتهم عن ذواتهم وعن الآخر هم من يدّعون المعرفة ويدعون إليها، ومن خلال الحوار يُمكن أن يصلوا إلى تقبّل الآخر والاعتراف به وأفكاره دون الحاجة إلى إقصائه أو تهميشه.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: على الرغم من أن الوصول إلى هذا الحوار الحوار فی ی مکن أن من خلال کثیر من
إقرأ أيضاً:
موريتانيا تستعد لحوار سياسي تعهدت السلطات بألا يستثني أحدا
أعلن الرئيس الموريتاني، محمد ولد الغزواني، أن الحوار السياسي المرتقب سينطلق خلال الأسابيع المقبلة، مؤكدا أنه سيكون شاملا ولن يستثني أي طرف سياسي.
وجاء هذا الإعلان خلال مأدبة إفطار نظمها الرئيس أمس الأحد، بحضور ممثلين عن الأحزاب السياسية من الموالاة والمعارضة، إضافة إلى المرشحين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
وغاب عن هذا اللقاء المعارض البارز بيرام ولد الداه ولد اعبيد، الذي حلّ في المركز الثاني في انتخابات يونيو/حزيران الماضي.
وخلال كلمته، دعا الغزواني الأحزاب السياسية إلى تقديم مقترحاتها بشأن القضايا التي سيتم تناولها ومنهجية الحوار، مشددا على أهمية التوافق الوطني.
كما كشف عن تكليف السياسي موسى فال، وهو مسؤول حكومي سابق ومعارض سابق للرئيس الأسبق محمد ولد عبد العزيز، بمهمة تنسيق الحوار.
ويأتي هذا الحوار في سياق وعود الغزواني بتنظيم نقاش وطني شامل، سبق أن أشار إليه في خطابه بمناسبة ذكرى استقلال البلاد.
ومن المتوقع أن تتناول النقاشات ملفات الحكامة السياسية والاقتصادية ومكافحة الفساد وحقوق الإنسان، إضافة إلى قضايا الديمقراطية والحريات والنظام الانتخابي.