في تعريفه للدين يقول محمد الطاهر بن عاشور: "الدين: العقيدة والملة وهو معلومات وعقائد يعتقدها المرء فتجري أعماله على مقتضاها، لذلك سمي دينا، لأن أصل معنى الدين المعاملة والجزاء".
غير أن كثيرا من النخبة لا تفصل بين الدين بما هو عقيدة وأحكام وشرائع، وبين تعبيرات الناس التدينية، وهي تعبيرات مرتبطة بمدى فهمهم لتلك العقيدة وبمدى عزمهم على التزام تلك الشرائع، وأيضا بمدى قدرتهم الذهنية على تأويل النص الديني بما يجعل معتنقيه قادرين على معالجة قضايا عصرهم وعلى صناعة مجدهم الحضاري؛ فيكونون منافسين لأمم أخرى متقدمة ولا يكونون في وضعية من التخلف والتبعية يهينون أنفسهم ويهينون معتقداتهم.
تلك النخبة، سواء كانت منتمية لحضارات أخرى أو كانت منتمية لحضارتنا الإسلامية، تطرح سؤالا حول إن كان الإسلام هو سبب تخلف المسلمين، وتشير مباشرة إلى أن الغرب الليبرالي أو العلماني بشرقه وغربه، قد استطاع تحقيق تفوقه الحضاري في مختلف المجالات دون أن يكون مرتبطا بكنائسه ومعابده، وهم بهذه الإشارة يُقدمون ضمنيا إجابة واضحة على السؤال أعلاه مفاده أن الإسلام يعاني أزمة حضارية أو هو سبب أزمة المسلمين الحضارية.
هذا السؤال ليس جديدا، بل إنه سؤال مُستعادٌ تستدعيه أزمات العالم الإسلامي وصدماته الحضارية.
حملة نابليون على مصر سنة 1798، أحدثت صدمت في الوعي العربي الإسلامي، وهي أول عملية غزو للشرق الأوسط منذ الحملات الصليبية الثماني التي امتدت من 1095 إلى سنة 1291، كانت الحملة لأسباب سياسية وعسكرية واقتصادية في سياق منافسة إنجلترا على الشرق الأوسط خاصة أمام ضعف الخلافة العثمانية، غير أن تلك الحملة لم تكن مجرد عملية عسكرية، بل كانت بالأساس استعراضا حضاريا على مستوى التقنية والعلوم والفنون والآداب، وحتى على مستوى صورة المرأة الإفرنجية في علاقتها بالرجل وفي دورها كذات واعية وفاعلة ومشاركة بكفاءة وجدارة.
الصدمة تلك، أنتجت سؤالا مباشرا يومها: لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون؟
وكان الجواب على ثلاث مدارس في فكر المصلحين: موقف لا يرى استئنافا حضاريا للمسلمين إلا بالعودة إلى سيرة الصالح نقتدي بهم ونقلدهم، وموقف مناقض لا يرى مواكبة للعصر إلا بتقليد الغرب وأتباعه في "حلوه ومُرّه"، وموقف ثالث حاول أن يكون توفيقيا بين هويتنا كعرب مسلمين وبين منتجات الحضارة الغربية في التنظيمات والصنائع والفنون.
بعد أكثر من قرنين وربع، ما زال العرب والمسلمون يقيمون في نفس الترتيب الحضاري، وما زالوا يتعرضون إلى حملات غزو حقيقي كما حصل في أفغانستان وفي العراق، وما زالت قضية فلسطين جرحا نازفا شاهدا على صمود أهله من ناحية، وشاهدا أيضا على هوان العرب والمسلمين وعلى عجزهم وتبعيتهم وفقرهم؛ رغم وفرة عددهم ورغم ما أنعم الله عليهم به من موقع جغرافي ومن ثروات طبيعية.
ورغم ما رسمته المقاومة في طوفان الأقصى من صورة مدهشة عن الإنسان العربي المسلم حين يعول على نفسه؛ فيبدع في مواجهة أعداء الحياة ويبدع في تقديم ترجمة أخلاقية لعقيدته ويبدع في مفاوضة العدو بشموخ ومبدئية واقتدار، فإن عموم المشهد في عالمنا الإسلامي والعربي خصوصا هو مشهد لا يسعفنا لنُصَنّف ضمن الشعوب المتحضرة سواء على المستوى الاقتصادي أو على المستوى العلمي أو على المستوى السياسي، فنحن ما زلنا في تبعية كاملة هي أشدّ إذلالا مما كنا عليه في مختلف مراحل تخلفنا، وخاصة منذ نشأة الدويلات القُطرية بعنوان "الدولة الوطنية".
نحن المسلمين نقدم محاضرات حول الأخوّة في الإسلام وحول العدل وحول الحرية وحول المساواة وحول العلم والقوة والعزة والرحمة، ولكننا نمارس الظلم والاستبداد والنهب، ونكشف عن منسوب عال من التعصب والغلظة والكراهية، ونرهن أوطاننا لقوى الاستعمار، ونعطي أموالنا لأعداء أمتنا، ونعين الصهاينة على إخوتنا المقاومين، وننقاد بوعي وبغير وعي لتنفيذ مخططات الأعداء؛ فإذا بنا نقتل بعضنا ونمارس التنكيل والتعذيب لنقدم حجة لأعدائنا حين يقولون بأن المسلمين هم أشد وحشية من الصهاينة، وبأنهم ليسوا جديرين لا بديمقراطية ولا بحرية، وبأنهم لا يمكن أن يكونوا شركاء في بناء حضارة إنسانية حتى وإن رددوا ما جاء في قرآنهم: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" (آل عمران: 110).
إن المسلمين اليوم إذ صنعوا أزمتهم الحضارية أساؤوا لأنفسهم، وأساؤوا إلى الإسلام حين جعلوا رأيا عالميا واسعا يتساءل حول مدى جدية القول بأن الإسلام هو المُنقذ للبشرية وأن رسوله إنما هو رحمة للعالمين.
إن المسؤولية الأخلاقية والتاريخية والشرعية كبيرة جدا على علماء المسلمين وعلى نخبهم وقادتهم، فإن كنا عجزنا عن المساهمة في الثورة العلمية، فلماذا نعجز عن الاستفادة من هذه الثورة لنساهم في ثورة معرفية إنسانية التزاما ببعض من خصائص "خير أمة" وهي "تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر".
فأنّى لنا ذلك، وقد حوّلنا جغرافيا أوطاننا، كما حولنا مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، إلى "بؤر توتر" حقيقية لا افتراضية؛ نخوض فيها معارك مهلكة ويتداول العالم مشاهد من ممارساتنا البدائية والوحشية ومشاهد من بؤسنا وفقرنا وخراب عمراننا.
x.com/bahriarfaoui1
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الدين التخلف المسلمين تقدم اسلام مسلمين الدين تقدم تخلف مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة من هنا وهناك صحافة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
في ذكرى الشهيد الصدر
وأنا أتابع الضجة الكبيرة التي أحدثتها قرارات الرئيس الأمريكي “ترامب” استغربت كثيراً ممن يسمون أنفسهم محللين سياسيين واقتصاديين، فقد اعتبروها من أعمال ترامب نفسه أو زلاته الجنونية، غير مُدركين أن الأمر يخضع للسياسة الأمريكية الشاملة، عندها فقط تذكرت الشهيد العلامة محمد باقر الصدر “طيب الله ثراه” فلقد حذر من هذه الأعمال التي ستقدم عليها أمريكا قبل حوالي نصف قرن من الزمان، وقال إن أمريكا تسير في اتجاهين، الاتجاه الأول الزيادة في امتلاك القوة العسكرية، والثاني محاولة السيطرة على حركة النقد العالمية والهيمنة الكُلية على العملات من خلال فرض الدولار على كل العملات.
هكذا قال الشهيد الصدر الرجل الحجة الذي استطاع أن يقتحم عقبة كأدا، ظلت كذلك على مدى قرون من الزمن وكان العلماء المسلمون يعتبرون حتى مجرد الحديث عنها مروقاً عن الدين، ألا وهي الاقتصاد والفلسفة، فمن كان يقتحم أو يتحدث عن هاتين القضيتين كان يُتهم بالردة، إلى أن جاء الشهيد الصدر وكانت الظروف المحيطة صعبة، فالاتحاد السوفييتي في أوج عظمته، والشيوعية تحاول فرض منهجها الوجودي الإلحادي وتعتبره هو المنهج الصالح للحياة، وأمريكا ودول الغرب تحاول أن تجعل من الرأسمالية خياراً وحيداً لا بديل عنه، واتهام الإسلام بالجهل وعدم الإلمام بهذه القضايا، فتصدى للأمر بقوة ودراية ومعرفة كاملة بأحكام الدين، قال عنها في ذلك الوقت شيخ الأزهر علي جاد الحق بأنها أفضل رؤية أكسبت الإسلام القدرة على التحدي والصمود أمام المناهج الأخرى، فكتاب “فلسفتنا” مثلاً وضح الصورة الحقيقية لمعنى الفلسفة في الإسلام وارتباطها بسياسة الحكم وبناء الدولة، وكتاب “اقتصادنا” أيضاً قدم رؤية حقيقية عن الاقتصاد في الإسلام وأسقط تماماً الرؤيتين المقابلتين الممثلة في الشيوعية والرأسمالية، باعتبارهما رؤى بشرية غير قابلة للاستمرار، كما هو حال المنهج الإسلامي الصالح لكل زمان ومكان، وتحدث طويلاً في هذا الجانب عن الأشياء التي لا يزال المسلمون عالقين في فهم أبعادها واتباع طريقة التعامل معها، مثل الربا وما يرتبط به وحدد صيغة المعاملات التي يمكن أن تنافس ما يجري في الغرب والشرق برؤية إسلامية حقيقية بعيدة عن التزمت والتطرف أو التعصب لأفكار ضيقة، كما هو حال بعض علماء الإسلام للأسف الذين يتعاطون مع آيات القرآن الكريم بنقص في الفهم وعدم إدراك لما تحتويه النصوص من معانٍ ومفاهيم أزلية تؤكد الصلاحية الزمانية والمكانية، وكل ذلك لأن الشهيد الصدر كان على دراية كاملة بأحكام الشرع ولديه أسلوباً جيداً في استنباط الأحكام بعيداً عن التأويل أو الأفكار الضالة من منطلق رؤيته الحقيقية لما ذهب إليه المفسرون، فلقد جزم منذ بداية الأمر أن مشكلة الإسلام والمسلمين تكمن في كون التفاسير التي تولت تفسير الإسلام تمت برؤية الحُكام والدول، لا على ما تشتمل عليه النصوص والمنهج الرسالي.
وهنا اتضحت المشكلة الأساسية لأن الحُكام كانوا يحاولون توظيف النصوص لخدمة بقائهم واستمرارهم في الحكم كيفما كان الأمر ومهما كانت النتائج مخلة ومجحفة بالعقيدة والمنهج، ومن هذا المنطلق عالج أهم مشكلتين، كما قُلنا، الفلسفة التي كان يحرم مجرد الحديث عنها في نظر العُلماء المنغلقون على ذاتهم غير القادرين على فهم شمولية الدين وقوة أحكامه وقدرتها على معالجة شؤون البشر حتى قيام الساعة .
وهكذا الأمر بالنسبة للاقتصاد فقد حدد ما هو الربا وكيف يمكن التعاطي معه برؤية حديثة تعكس حضارة الإسلام واتساع نطاق فهمه لجوانب الحياة المختلفة، وكما قال في إحدى محاضراته فإن من المسلمين من أساء إلى الدين وإلى العقيدة من خلال ضيق أفقه ومحدودية فهمه للنصوص .
أخيراً وهو الأهم، حذر الصدر من استمرار الانصياع للإرادة الأمريكية والغربية معاً، وقال إن الغرب المخدوع سيصبح ضحية الرؤية الأمريكية الشمولية التي تحاول من خلال الهيمنة المادية أن تُسيطر على العالم وعلى عملاته وتجارته ويصبح كل شيء بيدها، وهُنا أطلب ممن تعاملوا بسذاجة وفهم قاصر مع قرارات ترامب أن يعودوا إلى ما كتبه الشهيد الصدر وسيعرفون أن الأمر ليس ابن اللحظة وإنما تمت دراسته ووضعه في رفوف خاصة إلى اللحظة المناسبة التي تمكنهم من إخراجه إلى الوجود .
الموضوع يطول ولكن نقول رحم الله الشهيد الصدر، وكم أتمنى لو أن أطروحاته تلك أخذت حقها من الاهتمام، وتحولت إلى مناهج تُدرس في الجامعات الإسلامية بشكل عام، وإن شاء الله لنا عودة إلى الموضوع لتوضيح رؤية هذا العالم الجليل، نسأل الله له الرحمة والمغفرة، والله من وراء القصد ..