تركنا المقبرة السلطانية واتجهنا صوب «الحصن القديم»، المعروف أيضًا بأسماء أخرى من ضمنها «حصن العرب»، وهو أحد المعالم الرئيسية في «المدينة الحجرية» ولا يبعد كثيرًا عن بيت العجائب، ويُعَدُّ أقدم مبنى في زنجبار وموقعًا سياحيًّا رئيسيًّا لجذب السياح في «المدينة الحجرية»، أخبرَنا دليلنا محمد أنّ البرتغاليين هم الذين بنوه قبل وصول العُمانيين وأنّ العُمانيين رفعوا جداره بعد طردهم للبرتغاليين؛ لذا فلا حرج أن يُسمَّى «قلعة البرتغاليين» أو «قلعة العرب» لأنّ كليهما اشترك في بنائه؛ غير أنّ هناك رأيًا آخر يقول إنّ العُمانيين هم الذين بنوه في أواخر القرن السابع عشر، بعد أن طردوا البرتغاليين من زنجبار.
هذا ما استطعتُ تذكُّرَه من شرح دليلنا عن تاريخ الحصن، لأنني ساعتها كنتُ مشغولًا الفكر بشخصية نادرة في التاريخ العُماني، هي شخصية السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي الذي غادرْنا ضريحه قبل دخولنا الحصن بدقائق؛ وأخالني لا أقول شيئًا جديدًا إذا قلتُ إنّ السيد سعيد كان واحدًا من أعظم سلاطين الدولة البوسعيدية والحكام العرب في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ومن قرأ تاريخ ذلك العصر يعرف أنه أقام علاقات تجارية مميزة مع بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، كما اهتم بتعزيز الأسطول البحري وتوسيع التجارة الدولية مع العديد من الدول، فضلًا عن خصاله الحميدة التي تميّز بها واستطاع عبرها أن يقود دفة الحكم بحكمة وحنكة واقتدار طوال نصف قرن من الزمان، جعل خلالها زنجبار مركزًا عالميًّا لتجارة القرنفل والعاج والتوابل، الأمر الذي أدى لازدهار التجارة في عهده، رغم أنها فترة تاريخية صعبة شهد العالم فيها بروز بريطانيا وفرنسا كقوتين عُظميين تتنافسان على فرض النفوذ والسيطرة على المزيد من الدول الأفريقية، وفي إطار تنافس محموم لا تزال آثاره السلبية واضحة للعيان في عموم القارة الأفريقية. استطاع الرجل أن يشق طريقه بكلِّ اقتدار وسط الكثير من العقبات التي اعترضت طريقه كصاحب رؤية وهدف. وفي ظني أنّ شخصيةً كشخصية السيد سعيد بن سلطان لم تنل حظها بعد من الدراسة والاهتمام والتركيز عند الأجيال العربية المتعاقبة؛ فكلّ المراجع الغربية تؤكد أنّ العصر الذهبي للتأثير الحضاري العُماني في شرق أفريقيا كان في عهده، حيث كان لقوة شخصيته ودبلوماسيته ورؤيته الشاملة وبُعد نظره، أكبر الأثر في ترسيخ ملامح الحضارة العُمانية في شرق أفريقيا، والتي شكلت في مجملها ركائز حضارية كانت بمثابة إشعاع ثقافي وحضاري. وكان من أسباب نجاح السيد سعيد تطبيقه لمبدأ «التسامح وقبول الآخر» مهما كانت خلفيتُه العرقية أو الدينية أو المذهبية، وهي ميزة تميّز بها العُمانيون عمومًا، ولا يزالون يحتفظون بهذه الخصال الحميدة حتى اليوم بفضل الله وتوفيقه. وكان حكامُهم القدوة في ذلك منذ تلك الحقب وحتى عصرنا الحديث الذي تموج فيه الدول بالفتن والتناحر والتذابح بسبب الخلفيات التاريخية والمذهبية والعرقية؛ لذا نجد أنّ حادثة مثل «حادثة الوادي الكبير»- التي حدثت في مسقط في 15 من يوليو 2024 - استنكرها العُمانيون بكافة مذاهبهم، لأنّ ما حدث لا يمت لنا بصلة لا من بعيد ولا من قريب، وعلموا يقينًا أنّ تلك الحادثة وذلك الفكر غريبان عن المجتمع العُماني ولا ينتميان إلى الأخلاق العُمانية الفاضلة.
خص السيد سعيد مواطنيه بمعاملة كريمة، وساوى بين كافة السكان بصرف النظر عن أصولهم العرقية. ومما ذكره الراحل الشيخ علي بن محسن البرواني في كتابه «الصراعات والوئام في زنجبار» أنّ زنجبار عَرفت في التقويم الرسمي مناسبتين تخصّان الأقلية الشيعية توصد المصالح الحكومية أبوابها فيهما، وهما يوما الحادي والعشرين من رمضان ذكرى استشهاد الإمام علي، ويوم عاشوراء ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما. ويذكر في مكان آخر من الكتاب أنّ السيد سعيد أصدر مرسومًا منع فيه المواطنين من ذبح الأبقار والأضاحي في الأحياء التي يقطنها الهنود احترامًا لمعتقداتهم، وكان من نتيجة هذه السياسة أن ساد جوٌّ من الألفة والتجانس بين كافة مكونات سكان الجزيرة، وتوثقت العلاقات الاجتماعية بينهم، وانعكس ذلك بشكل لافت على فقهاء المذاهب المختلفة، لدرجة أنّ القضاة الشرعيين في عهد السيد سعيد كانوا من الإباضية والسُنّة، وكان لقضاة السُنّة مطلق الحرية في عقد محاكمهم في منازلهم أو في المساجد العامة وفي أيّ وقت شاءوا، إلّا أنّ القضايا الكبيرة ذات الطابع العام كان يتم الفصل فيها في «بيت الساحل»؛ المقر الرسمي للحكومة.
عن تسامح السيد سعيد يقول الباحث المصري الدكتور محمد صابر عرب في فصل «عصر من التسامح» من كتابه «قضايا لها تاريخ»: «اللافت أنّ السيد سعيد لم يفرض عقيدةً بذاتها ولا مذهبًا بعينه على الأفارقة، ولم يستهدف طمس ثقافتهم، ولم يعمل على تفضيل عرق على آخر؛ وإنما راح يزرع الحب والخير في نفوسٍ أرهقها الفقر والشقاء، وهو ما يفسّر دخول الأفارقة في الإسلام زرافات ووحدانًا، ودعْمَ مشروعه الحضاري الكبير، وهي ظاهرة استلفتت نظر الرحالة الأجانب»، ويرى صابر عرب أنّ الرجل «كان سابقًا عصره؛ بسيطًا في فهمه للإسلام، بقدر عُمق الإسلام وبساطته؛ فهو لا يقنع بأن يُكره الناس على اعتناق الإسلام، وإنما بفطرته السليمة كان على ثقة بأنّ الإسلام يدعو لنفسه من خلال سلوك المسلمين الذين يُترجمون الإسلام عملًا وبناءً وحضارة».
إذن؛ فقد أقام السيد سعيد بن سلطان دولة سياستها التسامح، فلا فرق بين مذهب وآخر أو عقيدة وأخرى؛ فالناس جميعًا متساوون عربًا وأفارقة، هنودًا وأوروبيين. ومن يزر زنجبار الآن يدرك يقينًا أنّ سياسة التسامح تلك التي طبّقها السيد سعيد بن سلطان لا تزال تنفّذ بحذافيرها؛ ففقهاء المذاهب الإسلامية في شرق أفريقيا نحُّوا الخلافات المذهبية جانبًا، وقدّموا الإسلام عقيدةً وشريعةً خاليًا من التعقيدات الفلسفية ولم يتورطوا في فتنة، وظلت العلاقة بين الإنسان وربه علاقة مباشرة وخالية من التعقيدات، حتى بدأت بعض الظواهر السلبية عندما تحوّلت أو تسللت مشكلات الجزيرة العربية إليهم، لكنها - ولله الحمد - لم تدم، وفي فترة وجودنا القصير في زنجبار صلينا في أكثر من مسجد؛ فهناك مساجد بناها الإباضيون ويؤمّها الشوافع، وهناك مساجد يؤمّها الإباضيون ويصلي فيها الشوافع، وكلهم في انسجام تام، وهناك مساجد وحسينيات للشيعة، وهكذا أصبحت زنجبار واحة للتعايش والانسجام.
وبينما أنا سارحٌ في فكري مع السيد سعيد بن سلطان - النائم على بُعد خطوات مني في هذه اللحظات - تذكرتُ ما كتبه الشيخ سعيد بن علي المغيري من أنّ عمارة مدينة زنجبار من قصورها ومساجدها ومدارسها، إنما هي عمارة العرب العُمانيين، حيث زاد هذا العمران منذ أمر السيد سعيد بزرع القرنفل. ومن ذلك الوقت بدأت هجرة العُمانيين والحضارم والهنود تفد إلى الجزيرة ومن جميع الاتجاهات بإفريقيا.
حكى لنا مرافقنا أنّ السيد سعيد عندما عزم على زراعة القرنفل عارضه «أهل العزم» الأوروبيون الموجودون في زنجبار ذلك الوقت، مثل همرتن القنصل الإنجليزي بزنجبار وبعض الأمريكيين، مشيرين إليه بزراعة قصب السكر، لكنه لم يعر هذه الأقوال اهتمامًا ولم يتحول عن عزمه، وصمّم على زراعة القرنفل وجلب البذور من جزيرة موريشيوس. وفي هذا الشأن يذكر صاحب «جهينة الأخبار» أنّ السيد ألزم الناس بزراعة ثلاث أشجار قرنفل مقابل شجرة جوز هند واحدة.
كانت الرطوبة عالية لدرجة أن يتمنى الواحد منا العودة إلى الفندق بسرعة، لكن محمدًا سألنا: هل تعرفون هذين المبنيين؟! ولمّا أجبنا بالنفي قال: «هذا هو بيت السيدة سالمة بنت سعيد، والبيتُ المقابل هو بيت الرجل الألماني الذي هربت معه وتزوجته فيما بعد».
وإذن؛ فقد حان الوقت للحديث عن السيدة سالمة، وهو ما سأفعله في المقال القادم إن شاء الله.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الع مانیین فی زنجبار الع مانی
إقرأ أيضاً:
شخصيات إسلامية.. أبو سعيد الخدري سعد بن مالك الأنصاري
الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري سعد بن مالك، مفتي المدينة، هو سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر بن عوف بن الحارث بن الخزرج، واسم الأبجر: خدرة. وقيل: بل خدرة هي أم الأبجر، وأخو أبي سعيد لأمه هو: قتادة بن النعمان الظفري، أحد البدريين. استشهد أبوه مالك يوم أحد، وشهد أبو سعيد الخندق، وبيعة الرضوان.
وحدث عن النبي، ﷺ، فأكثر، وأطاب، وعن: أبي بكر، وعمر، وطائفة، وكان أحد الفقهاء المجتهدين. حدّث عنه: ابن عمر، وجابر، وأنس، وجماعة من أقرانه، وعامر بن سعد، وعمرو بن سليم، وأبو سلمة بن عبدالرحمن، ونافع العمري، وبسر بن سعيد، وبشر بن حرب الندبي، وأبو الصديق الناجي، وأبو الوداك، وأبو المتوكل الناجي، وأبو نضرة العبدي، وأبو صالح السمان، وسعيد بن المسيب، وعبدالله بن خباب، وعبدالرحمن بن أبي سعيد الخدري، وعبدالرحمن بن أبي نعم، وعبيد الله بن عبدالله بن عتبة، وعطاء بن يزيد الليثي، وعطاء بن يسار، وعطية العوفي، وأبو هارون العبدي، وعياض بن عبدالله، وقزعة بن يحيى، ومحمد بن علي الباقر، وأبو الهيثم سليمان بن عمرو العتواري، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وخلق كثير. وعن عبدالرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، قال: عرضت يوم أحد على النبي، ﷺ، وأنا ابن ثلاث عشرة، فجعل أبي يأخذ بيدي، ويقول: يا رسول الله! إنه عبل العظام. وجعل نبي الله يصعد في النظر، ويصوبه، ثم قال: «رده»، فردني. وروى حنظلة بن أبي سفيان، عن أشياخه: أنه لم يكن أحد من أحداث أصحاب رسول الله، ﷺ، أعلم من أبي سعيد الخدري، وقال أبو عقيل الدورقي: سمعت أبا نضرة يحدث، قال: دخل أبو سعيد يوم الحرة غاراً، فدخل عليه فيه رجل، ثم خرج، فقال لرجل من أهل الشام: أدلك على رجل تقتله؟ فلما انتهى الشامي إلى باب الغار، وفي عنق أبي سعيد السيف، قال لأبي سعيد: أخرج. قال: لا أخرج، وإن تدخل أقتلك. فدخل الشامي عليه، فوضع أبو سعيد السيف، وقال: بؤ بإثمي وإثمك، وكن من أصحاب النار. قال: أنت أبو سعيد الخدري؟ قال: نعم. قال: فاستغفر لي، غفر الله لك. وعن وهب بن كيسان، قال: رأيت أبا سعيد الخدري يلبس الخز. وعن عثمان بن عبيدالله بن أبي رافع، قال: رأيت أبا سعيد يحفي شاربه كأخي الحلق. وقد روى بقي بن مخلد في «مسنده الكبير» لأبي سعيد الخدري بالمكرر ألف حديث ومائة وسبعين حديثاً. قال الواقدي، وجماعة: مات سنة أربع وسبعين. وعن بي سعيد، قال: أتى علينا رسول الله، ﷺ، ونحن أناس من ضعفة المسلمين، ما أظن رسول الله يعرف أحداً منهم، وإن بعضهم ليتوارى من بعض من العري، فقال رسول الله بيده، فأدارها شبه الحلقة. قال: فاستدارت له الحلقة، فقال: «بما كنتم تراجعون؟». قالوا: هذا رجل يقرأ لنا القرآن، ويدعو لنا. قال: «فعودوا لما كنتم فيه»، ثم قال: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم». ثم قال: «ليبشر فقراء المؤمنين بالفوز يوم القيامة قبل الأغنياء بمقدار خمس مائة عام، هؤلاء في الجنة يتنعّمون، وهؤلاء يحاسبون» أخرجه أبو داود وحده.