مجازر الساحل السوري.. إبادة طائفية
تاريخ النشر: 10th, March 2025 GMT
د. هيثم مزاحم **
سقط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر 2024، وتسلّم أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) السلطة الانتقالية في سوريا منذ ثلاثة أشهر، وشكّل حكومة من نواة حكومته الجهادية في إدلب مع بعض التطعيمات من هيئة تحرير الشام والفصائل الجهادية، وجَمَعَ معظم قادة الفصائل العسكرية ليعينوه رئيسًا انتقاليًا للبلاد، مُصرِّحًا بأن الفترة الانتقالية ستدوم 4 سنوات، مُكرِّسًا حكمه خلال هذه الفترة من دون أي منافس ودون أي انتخابات أو استفتاء شعبي.
كما قام بحل مجلس الشعب والجيش وأجهزة الأمن وقام بتسريح مئات آلاف الضباط والجنود والعسكريين، وبدأ بتشكيل جيش جديد وأجهزة أمنية جديدة من أنصاره والفصائل المسلحة ومعظمها جهادية، بعدما طالب هذه الفصائل بالاندماج في الجيش، وهو ما رفضه عدد كبير منها وخاصة الجيش الوطني الموالي لتركيا، وقوات أحمد العودة في درعا، وقوات سوريا الديمقراطية الكردية في شمال شرق سوريا، والقوات الدرزية في السويداء.
وعلى الرغم من حلاوة لسان الشرع وكلامه عن التسامح والتنوع في سوريا وقيام دولة مؤسسات وقانون وتطبيق العدالة والمساواة وعدم الانتقام من أنصار النظام السابق وموظفي الدولة، ودعوته إلى مؤتمر حوار وطني، إلّا أن سلوك حكومته وقواته وأنصاره كانت تختلف جذريًا عن التصريحات الصحافية والخطب الرنانة الموجهة إلى الدول الغربية والعربية لنيل اعترافها بالنظام الجديد ورفع العقوبات عن سوريا.
فقد تم تسريح مئات آلاف من الموظفين معظمهم من العلويين والعلويات من دون تعويضات فأصبحوا بلا رواتب ولا وظائف، في ظل وضع اقتصادي سيء جدًا نتيجة تداعيات الحرب والعقوبات الأمريكية والغربية والأممية التي فُرضت على النظام البائد.
وتعرض الكثير من رجال ونساء العلويين خلال الأشهر الثلاثة الماضية لاعتداءات يومية من اعتقالات تعسفية وخطف وتصفيات وتعذيب وإهانات وإجبارهم على النباح وشتم ديانتهم، وطرد البعض من منازلهم وقراهم واحتلالها من قبل سكان موالين للسلطة فقط لأسباب طائفية. وكانت السلطة الجديدة تتنصل من مسؤوليتها وتقول إنها أحداث فردية من دون أن تقوم بوقفها ومحاسبة أحد من المسؤولين عنها.
وجاءت الدعوة لمؤتمر الحوار الوطني ولم يُمثَّل العلويون فيه، كما تم تجاهل تمثيل المكوّنات السورية في الحكومة أو التعيينات الحكومية، بحيث غلب تعيين أعضاء هيئة تحرير الشام وحلفائها في المناصب المهمة، وتوظيف القادمين من محافظة إدلب بشكل خاص والسنة الإسلاميين بشكل عام في أجهزة الأمن والشرطة والجيش.
اعترض الكثير من الفصائل المعارضة على التهميش في التعيينات الحكومية والإدارية، وشعرت الأقليات- كالأكراد والدروز وحتى ثوار درعا الذين كانوا أول من دخل دمشق بعد هروب الأسد- بخطورة هذا التوجّه الإقصائي؛ فرفضوا الاندماج في جيش الشرع وتسليم أسلحتهم ومناطقهم، فيما سلّم معظم العلويين أسلحتهم ومناطقهم منذ الأيام الأولى لسقوط النظام، في محاولة لتجنّب الصدام مع النظام الجديد واعترافًا به ورغبة بمصالحة وطنية تحفظ الوطن والشعب والطائفة.
وقد صبر العلويون على هذه الاعتداءات اليومية من عمليات الخطف والتصفيات والاعتقالات والإهانات والسرقات لرجالهم وشيوخهم ونسائهم لمدة ثلاثة أشهر، وكان مجلسهم الديني وشيوخهم ووجهاؤهم يوجهون رسائل ودعوات إلى الشرع والحكومة ومسؤولي الأمن العام والشرطة والمحافظين الجدد لوقف هذه الانتهاكات الجسيمة، من دون أية استجابة سوى بالكلام الإعلامي المعسول عن أن النظام الجديد لن ينتقم من العلويين وأنه سيفرض حكم القانون وسيحاسب فقط المجرمين من مسؤولي النظام السابق أمام القضاء. ولم يعد أحد يصدق مقولة أنها تجاوزات فردية وعمليات ثأر شخصية ومذهبية ينفذها ضحايا النظام السابق.
وهكذا خرجت مجموعة من الضباط والجنود العلوييين السابقين، الذين يطلق عليهم نظام الشرع وصف "فلول النظام"، وشكلوا ما أسموه "المجلس العسكري لتحرير سوريا"، بقيادة عميد سابق في الفرقة الرابعة التي كان يقودها ماهر الأسد شقيق الرئيس السابق. وبدأت هذه المجموعات بتنفيذ كمائن ضد قوات الأمن العام ووزارة الدفاع وهيئة تحرير الشام وسيطرت على عدد من المناطق والقرى في محافظات الساحل ذات الأغلبية العلوية، وأسفرت هذه الكمائن والاشتباكات عن مقتل نحو 200 من قوات الشرع.
سارعت حكومة الشرع والإعلام الموالي لها وبعض القنوات الداعمة له، مرة إلى اتهام إيران وحزب الله بتمويل هذه المجموعات وتحريضها على الانقلاب ضد حكم الشرع، ومرة باتهام الروس بالتآمر مع المتمردين العلويين واستقبال بعضهم بعد فرارهم في قاعدة حميميم الروسية قرب اللاذقية، ومرة ثالثة باتهام قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بتأمين إمداد لوجستي لهذا التمرد العسكري.
وإنْ كُنا لا نملك معطيات لتأكيد أو نفي هذه الاتهامات، لكن بعضها غير منطقي، خاصة أن روسيا قد تخلت عن نظام الأسد عندما كان يسيطر وجيشه على معظم سوريا، فلماذا ستدعم مجموعات لا يتجاوز عددها المئات في وقت تجري مفاوضات مع حكومة الشرع من أجل تواجدها العسكري في قاعدتي طرطوس وحميميم واستمرار التعاون الاقتصادي والعسكري الثنائي. أما إيران فهي خرجت وحزب الله وحلفاؤهما من سوريا من مناطق تحت سيطرتهم الكاملة دون قتال قبولًا بالتغيرات الجديدة، وبضمانات تركية وقطرية بحفظ المقامات الدينية الشيعية وعدم التعرض بالانتقام للأقليات الدينية. فإيران مشغولة بمواجهة الحملة الإسرائيلية الأميركية عليها وبالعقوبات الأميركية الجديدة لتصفير تصدير نفطها، بينما حزب الله غارق في ترميم بنيته التنظيمية والعسكرية وتأمين التمويل لإعادة الإعمار في لبنان وفك الحصار المالي عنه، والإعداد لسبل مواجهة استمرار الاحتلال الإسرائيلي واعتداءاته اليومية، فماذا سيفيده تمرد مئات العسكريين السابقين وسيطرتهم على بعض القرى والمدن لساعات أو أيام؟
إلّا أن هذا التمرد العسكري لضباط النظام السابق أو "فلوله" إذا صحّت التسمية لا يبرر المجازر الوحشية الواسعة التي طالت مدن وقرى الساحل من قبل قوات الأمن العام ووزارة الدفاع والفصائل الجهادية التكفيرية، وبينهم مقاتلون عرب من مصر والمغرب العربي وأجانب من شيشان وأوزبك وإيجور وغيرهم؛ حيث وصلت أعداد الضحايا إلى أكثر من 2000 قتيل معظمهم من المدنيين، رجالًا ونساء وأطفالًا وشيوخًا، ذنبهم الوحيد أنهم من العلويين.
ولا تزال المجازر مستمرة حتى يوم الاثنين، فيما هرب بعض أهالي البلدات والقرى في الساحل إلى الجبال والوديان في ظل البرد القارس ومن دون طعام ولا ماء ولا دواء، من الإبادة الدينية الجماعية، التي لا تختلف عن الإبادة الصهيونية للفلسطينيين في قطاع غزة، إلّا من حيث الأسلوب والعدد؛ فإسرائيل كانت تقتل المدنيين بصواريخ طائراتها وقذائف دباباتها ومدفعيتها بمعدل 150-250 يوميًا، بينما مدّعو الإسلام قتلوا خلال يومين نحو ألفي مدني سوري وبعضهم يزعم ويفتخر أن العدد وصل إلى 9 آلاف علوي، تم قتلهم بالرشاشات والذبح بالسكاكين. وتمت سرقة منازلهم وسياراتهم ومتاجرهم ثم أحرق الكثير من المباني والمتاجر والمنازل.
كما قتلوا بعض المسيحيين وأطلق بعض الجهاديين تهديدات لعموم المسيحيين يطالبونهم بدفع الجزية أو اعتناق الإسلام تحت طائلة القتل في حال رفضوا أحد الأمرين.
وقام الشرع وأنصاره وإعلامه بتبرير المجازر ضمنًا من خلال الحديث عن مطاردة فلول النظام وإفشال انقلابهم والوعد بتشكيل لجنة تحقيق في قتل المدنيين ومحاسبة المرتكبين، بينما استمرت المجازر التي بدأت يوم الخميس حتى اليوم الاثنين، ولم يوقفها انتشار قوات الأمن العام ووزارة الدفاع في مناطق الساحل، ولا إرسال التعزيزات العسكرية لمطاردة المتمردين في الجبال والوديان.
العميد أحمد العبد الله الضابط في الشرطة العسكرية التابعة لوزارة الدفاع السورية قال إن هناك تجاوزات فردية حدثت في اللاذقية وستتم محاسبة مرتكبيها ضمن مؤسسة القضاء ووفقًا للقانون. تجاوزات؟! يا أخي هذه ليست تجاوزت، هذه مجازر على غرار مجازر صبرا وشاتيلا ومجازر الصرب في البوسنة وكوسوفو، هذه إبادة جماعية لطائفة تعتبر جرائم حرب وتحاسب عليها المحكمة الجنائية الدولية، على غرار جرائم بشار الأسد خلال الحرب السورية (من إلقاء براميل متفجرة أو أسلحة كيميائية على المدنيين) وجرائم والده حافظ وعمه رفعت في أحداث حماة في أوائل ثمانينات القرن العشرين. وكان آل الأسد يبررون جرائمهم بقمع التمرد العسكري المعارض.
لقد فشل حكم الشرع في أقل من 100 يوم في تلميع صورته، وهو الآتي من تنظيمي القاعدة وداعش، برغم انفصاله عنهما تدريجيًا، طمعًا بالسلطة والاعتراف الدولي. لكن ارتداء البدلة ورابطة العنق والحديث المهذب والمنمق لوسائل الإعلام عن الحرية والعدالة والمساواة ودولة المؤسسات والقانون، لا يكفيان للحصول على الاعتراف الشامل ولا رفع العقوبات الدولية ورفع اسمه من لائحة الإرهاب الأممية.
وجاءت مجازر الساحل لتظهر حقيقة النظام الجديد، وهي حقيقة معروفة من تاريخ الرجل وهذه الجماعات التكفيرية، لكن كنا نأمل أن يكون هناك تغيير فعلي في الخطاب والسلوك ورؤية براغماتية وواقعية لمستقبل سوريا، تقوم على قبول الآخر والتنوع والمشاركة والحريات، وحكم القانون ودولة المؤسسات والديمقراطية. ويلاحظ أن الشرع لم يذكر كلمة الديمقراطية منذ تولّيه الحكم بالغلبة.
** رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية- لبنان
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الشرع: أحداث الساحل السوري "ضمن التحديات المتوقعة وتحت السيطرة"
أكد الرئيس السوري أحمد الشرع، الأحد، أن الأحداث الأمنية التي جرت في الساحل السوري هي "ضمن التحديات المتوقعة وتحت السيطرة".
كلام الشرع جاء لدى أدائه صلاة الفجر في أحد مساجد حي المزة بالعاصمة دمشق، وفق مقطع فيديو متداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي نقلته وسائل إعلام عربية ودولية.
وفي كلمته، أكد الشرع الأزمة الحالية "عدّت على خير".
وقال إن "ما يحصل في البلاد تحديات متوقعة.. يجب أن نحافظ على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي بين السوريين".
وأردف: "نحن قادرون على أن نعيش سوية في هذا البلد بالقدر المستطاع".
وخلال الأيام الأخيرة، شهدت محافظتا اللاذقية وطرطوس الساحليتان توترا أمنيا على وقع هجمات منسقة لفلول نظام الأسد، هي الأعنف منذ سقوطه، ضد دوريات وحواجز أمنية، ومستشفيات، ما أوقع قتلى وجرحى.
وإثر ذلك، استنفرت قوى الأمن والجيش ونفذت عمليات تمشيط ومطاردة للفلول، تخللتها اشتباكات عنيفة، وسط تأكيدات حكومية بأن الأوضاع تتجه نحو الاستقرار الكامل.
وبعد إسقاط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، أطلقت السلطات السورية الجديدة مبادرة لتسوية أوضاع عناصر النظام السابق، من الجيش والأجهزة الأمنية، شريطة تسليم أسلحتهم وعدم تلطخ أيديهم بالدم.
واستجاب الآلاف لهذه المبادرة، بينما رفضتها بعض المجموعات المسلحة من فلول النظام، لا سيما في الساحل السوري، حيث كان يتمركز كبار ضباط نظام الأسد.
ومع مرور الوقت، اختارت هذه المجموعات الفرار إلى المناطق الجبلية، وبدأت بإثارة التوترات وزعزعة الاستقرار وشن هجمات متفرقة ضد القوات الحكومية خلال الأسابيع الماضية.