الرد على الوليد آدم مادبو- بين أزمة الخطاب وامتحان العقل
تاريخ النشر: 10th, March 2025 GMT
في لحظات المفصل التاريخي، حين تتبدل المصائر ويُعاد تشكيل الوعي الجماعي، يكون للعقلاء والتاريخ كلمتهم، وهي كلمة قد تأتي متأخرة، لكنها تحمل قسوتها التي لا ترحم. غير أن هذه الكلمة ليست بالضرورة صرخةً في الميادين أو خطبةً على منابر الجدل، فقد تكون صمتًا مدويًا في وجه الخطاب الشعبوي، أو تأملًا باردًا في مسرح العواطف الملتهبة.
كتب الدكتور الوليد مادبو مقاله الأخير في نقد الأستاذ شوقي بدري، مستخدمًا لغةً مشحونةً بالتقريع، تتداخل فيها الذاتية مع الموضوعية، والنقد مع الاستعداء. غير أن الأزمة هنا ليست في حدّة اللغة فحسب، بل في الطبيعة الاستدلالية التي أسس عليها مقاله، والتي تستدعي وقفةً نقدية تتجاوز الشخصي إلى الكلي، من حيث طبيعة التفكير ومنهجية التحليل.
المغالطة المنهجية الخطاب بين الشخصي والتاريخي
ليس من الحكمة أن يُقرأ الواقع بمسطرة الذات، فتُختزل التناقضات المركّبة في ازدواجية "المهرّج والعالم"، أو "المؤدلج والمستقل". فالفكر في جوهره ليس مجرد تراكم أسماء أو انتماء أكاديمي، بل هو ميدانٌ مفتوحٌ للجدل الحر والتفاعل المعرفي. حين يجعل الكاتب من ذاته معيارًا للفرز بين "المتطفلين" و"الجادين"، فإنه يقع في مأزق فلسفي عميق: كيف يمكن للعقل أن يكون حكمًا وهو طرفٌ في الخصومة؟
يتخذ مادبو في طرحه موقفًا يتأرجح بين المدافع عن القيم والمحلل البارد، لكنه في جوهر خطابه يستخدم لغةً معياريةً أخلاقية تحاكم الآخر من منطلق ذاتي. وهنا يظهر التناقض: كيف يمكن استدعاء معايير الفكر النقدي، بينما يُمارس الإقصاء والتهكم في ذات اللحظة؟ إن النقد الفلسفي، كما صاغه فلاسفة مثل هابرماس أو ألتوسير، ليس خطابًا يعتمد على الشخصنة، بل هو تفكيكٌ لبنى التفكير وإعادة بناء المفاهيم وفق منطقٍ متماسك، لا وفق انفعالات اللحظة.
إشكالية السلطة المعرفية والاستعراض الخطابي
حين يلجأ الكاتب إلى تعداد الشخصيات التي تتلمذ على أيديها – من طه عبد الرحمن إلى الجابري – فإنه يسعى إلى تأسيس سلطةٍ معرفية قائمة على الانتماء أكثر من البرهان. لكن العلم، كما أشار إليه غاستون باشلار، لا يُكتسب بالانتساب إلى الأسماء، بل بالقدرة على مساءلة الأفكار دون تحصينها بهالةٍ من القداسة. فالسؤال الفلسفي الحقيقي ليس "مع من درست؟"، بل "كيف تفكر؟"، وهذا ما لم يقدمه المقال.
إن استدعاء المرجعيات الفكرية لا يصنع معرفة، بل قد يكون مجرد تمرينٍ خطابي لإضفاء الشرعية على موقفٍ مسبق. ولذلك، فإن الوعي الفلسفي يقتضي تفكيك المسلّمات بدلًا من إعادة إنتاجها في قوالبَ جديدةٍ لا تخرج عن النسق نفسه.
قراءة التاريخ: بين السردية الخطية والتعقيد البنيوي
يتحدث مادبو عن التهميش كمسارٍ امتد لقرنين من الزمان، مصورًا التاريخ بوصفه خطًّا مستقيمًا من القهر والاستعلاء العرقي. غير أن قراءة التاريخ من هذا المنظور تعكس اختزالًا شديدًا لجدلية السلطة والمجتمع، حيث تُختصر الصراعات السياسية والاقتصادية في ثنائية "مضطهِد ومضطهَد".
إن تحليل التاريخ لا يمكن أن يكون فعلًا انتقائيًا يستدعي فقط ما يخدم موقفًا آنيًا، بل هو عملٌ بنيوي يُعيد تشكيل الوعي وفق تعقيد العلاقات الاجتماعية والسياسية. وكما أشار ميشيل فوكو، فإن السلطة لا تعمل ككيانٍ أحادي، بل تتجلى في أنماطٍ متغيرةٍ من الهيمنة والتفاوض والمقاومة، مما يجعل من أي تفسيرٍ أحادي للتاريخ نوعًا من التبسيط الأيديولوجي الذي يفقده قيمته التحليلية.
ازدواجية الخطاب ومشكلة المعيارية الانتقائية
إن وصف الجيش السوداني بأنه "غير قومي وغير مهني" مع الدعوة لمقاومته، في الوقت الذي يُنتقد فيه الدعم السريع باعتباره فاقدًا للمشروعية، يكشف عن مشكلةٍ معيارية في الخطاب. فإذا كان الجيش يعاني من أزمةٍ بنيوية، فإن الدعم السريع لا يخرج عن كونه تجلّيًا أكثر فجاجةً لنفس الإشكاليات، مما يجعل من غير المنطقي انتقاد أحدهما باعتباره "إرثًا يجب مقاومته"، بينما يُعامل الآخر بوصفه "خطأً تكتيكيًا يجب تصحيحه".
هنا تبرز إشكاليةٌ فلسفية تتعلق بازدواجية المعايير في الخطاب السياسي: كيف يمكن رفض منظومةٍ كاملة، ثم التعامل مع أحد منتجاتها على أنه "حالة استثنائية" تستحق المراجعة بدلًا من الإدانة المطلقة؟ إن النقد المتماسك لا يكون بالانتقاء، بل بالقدرة على الاحتفاظ بثبات المعايير بغض النظر عن الظرف السياسي.
في البدء كان العقل حاجة السودان إلى خطابٍ متزن
إن الأزمة السودانية اليوم ليست أزمة أشخاص، بل أزمة وعي، حيث يُستبدل النقد العقلاني بالهجوم الشخصي، ويُستبدل التحليل العميق بالسرديات التبسيطية. فحين يتنادى البعض بالألقاب، متناسين جوهر القيم التي يدّعون الدفاع عنها، يكون التاريخ في موقف الحكم، حتى وإن تأخر في النطق بكلمته.
لكن السؤال الذي يظل معلقًا في الهواء- هل ننتظر أن يحكم التاريخ أم نحاول أن نحكم عقولنا قبل أن تصدر الأحكام؟ إن وعي اللحظة يقتضي الخروج من دائرة الشخصنة إلى فضاء النقد الفلسفي، حيث تُختبر الأفكار لا الأشخاص، وتُناقش الخطابات لا الذوات. فالتاريخ قد يكون قاسيًا، لكن العقل أحيانًا يكون أشد قسوة، حين يُطالبنا بأن نكون على مستوى ما ندّعيه من قيمٍ ومبادئ
zuhair.osman@aol.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
الخطاب الطائفي يتصاعد بعد المجازر بحق العلويين.. والعراق يراقب حدوده مع سوريا
8 مارس، 2025
بغداد/المسلة: تشهد مناطق الساحل السوري، وبالأخص محافظتي اللاذقية وطرطوس، موجة عنف غير مسبوقة منذ الخميس الماضي، حيث اندلعت مواجهات دامية بين قوات الأمن السورية التابعة للإدارة الجديدة ومسلحين موالين لنظام بشار الأسد السابق.
وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد بلغت حصيلة الضحايا حتى اليوم السبت 8 مارس 2025، 524 قتيلاً، منهم 311 مدنياً علوياً، إضافة إلى 213 من أفراد الأمن والمسلحين.
ورغم أن احتمال انتقال الصراع عبر الحدود مع العراق، يبدو ضعيفاً حالياً، فإن الوضع يثير قلقاً في العراق، خاصة مع تصاعد الخطاب الطائفي. فقد أثارت الهجمات على العلويين، ورفع شعارات تاريخية مثل “الدولة الأموية” في سوريا، موجة غضب بين الأوساط الشيعية في العراق، مما قد يشعل توترات سنية-شيعية إقليمية إذا لم يتم احتواؤها.
العلويون يواجهون الآن تهميشاً وانتقاماً محتملاً، مما يدفع بعضهم للجوء إلى السلاح. من جهة أخرى، فإن رد الحكومة السورية القاسي، بما في ذلك عمليات التمشيط والإعدامات الميدانية، سوف يؤدي إلى تعميق الشرخ الاجتماعي بدلاً من حل الأزمة.
بدأت الأحداث بكمين منظم في ريف اللاذقية، استهدف قوات الأمن، لتتوسع بعدها الاشتباكات إلى مدن مثل جبلة والقرداحة، مسقط رأس عائلة الأسد.
هذه التطورات تعكس هشاشة الوضع الأمني في سوريا بعد ثلاثة أشهر من الإطاحة بالأسد، حيث تواجه الحكومة الجديدة تحديات كبيرة في فرض سيطرتها على المناطق ذات الأغلبية العلوية.
الاشتباكات لم تهدأ في المناطق الريفية، حيث لا تزال جبلة والقرداحة تشهدان مواجهات متقطعة. وفرضت السلطات حظر تجوال في المناطق الساحلية وحمص.
هذا التصعيد يثير تساؤلات حول قدرة الحكومة على تهدئة التوترات الطائفية، خاصة مع تقارير عن إعدامات ميدانية استهدفت مدنيين علويين، مما قد يفاقم الانقسامات الداخلية.
تعزيزات عراقية على الحدود ومخاوف إقليمية
في ظل هذا الاضطراب، كثفت قوات حرس الحدود العراقية، يوم الجمعة 7 مارس 2025، انتشارها على الشريط الحدودي مع سوريا.
والهدف من هذه الخطوة هو منع أي تسلل أو اختراق أمني قد ينجم عن الفوضى المتصاعدة في سوريا.
ويبدو أن الاشتباكات في الساحل السوري ليست مجرد صراع عسكري، بل تعبير عن أزمة أعمق تتعلق بإعادة تشكيل الهوية السياسية والطائفية في سوريا بعد عقود من حكم الأسد.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post Author moh mohSee author's posts