يحمل شهر رمضان المبارك في لبنان طابعا خاصا، إذ تتجلى فيه معاني التآلف الاجتماعي والروحانية التي تميز هذا الشهر الفضيل.

ومع حلوله تتزين المدن اللبنانية من بيروت وطرابلس وصيدا إلى بقية المناطق بزينة رمضانية تشمل الفوانيس والأهلة المضيئة، في حين تمتلئ الأسواق بالزوار استعدادا للصيام والاحتفاء بالشهر الكريم.

وفي لبنان، يتجلى رمضان كحدث يجمع العائلات والمجتمع، فيسود جو من الألفة والفرح، ويحرص المسلمون على أداء الصلوات في المساجد، ولا سيما صلاتي العشاء والتراويح، وسط أجواء روحانية مميزة.

كما تقام الاحتفالات الدينية في الجوامع مع انطلاق مدفع الإفطار الذي يعلن حلول موعد المغرب، في حين يجوب "المسحراتي" الشوارع ليلا ليوقظ الصائمين على نغمات طبلته وأهازيجه التراثية.

مدفع رمضان يعد من أبرز الرموز الرمضانية في لبنان، إذ يتم إطلاقه مساء 29 شعبان إيذانا ببدء الصيام، ثم يستمر طوال الشهر معلنا أوقات الإفطار والإمساك (الفرنسية) مدفع رمضان والمسحراتي

يحتفظ اللبنانيون بعادات رمضانية متوارثة، أبرزها "سيبانة رمضان" التي تعد من التقاليد القديمة في بيروت، إذ تخرج العائلات في نزهات جماعية إلى الشواطئ في اليوم الأخير من شهر شعبان لتناول المأكولات والحلويات احتفالا بقدوم رمضان.

إعلان

وفي مدينتي طرابلس وصيدا تنطلق الفرق الصوفية في الشوارع قبيل رؤية الهلال مرددة الأناشيد والقصائد الدينية تعبيرا عن الفرح بحلول الشهر المبارك.

ويعد مدفع رمضان من أبرز الرموز الرمضانية في لبنان، إذ يتم إطلاقه مساء 29 شعبان إيذانا ببدء الصيام، ثم يستمر طوال الشهر معلنا أوقات الإفطار والإمساك.

ويعود هذا التقليد إلى العهد العثماني حينما كان المدفع يوضع في ثكنة الرابية المطلة على بيروت ويُجر بواسطة البغال إلى ثكنة مار إلياس.

وخلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) توقفت هذه العادة، لكنها عادت لاحقا لتصبح جزءا من الموروث الشعبي اللبناني.

ورغم تراجعها في العصر الحديث فإن بعض المدن والقرى اللبنانية لا تزال تحافظ على عادة "المسحراتي" الذي يجوب الشوارع ليلا وهو يقرع طبلته مرددا عبارات مثل "اصحَ يا نايم وحد الدايم.. رمضان كريم".

وكانت هذه العادة جزءا أساسيا من طقوس رمضان لعقود طويلة، إذ استيقظت أجيال عديدة على نغمات طبلة المسحراتي، لكنها باتت اليوم تقتصر على عدد محدود من المناطق، في ظل التحولات العصرية التي طرأت على المجتمع.

وعلى اختلاف المدن والمناطق يبقى رمضان مناسبة توحد اللبنانيين، إذ يجتمع الأهل والأصدقاء حول موائد الإفطار والسحور، وتقام الفعاليات الدينية والثقافية التي تعكس عمق التقاليد والتراث.

شهر رمضان يعد موسما ذهبيا للأسواق اللبنانية، إذ تشهد المدن الكبرى مثل بيروت وطرابلس حركة تجارية نشطة (الأناضول) أمسيات قرآنية وأسواق عامرة

تحرص الجمعيات والمؤسسات الدينية والثقافية في لبنان على تنظيم مسابقات في تلاوة وحفظ القرآن الكريم، إذ تتم دعوة مشاهير القراء من مختلف الدول العربية والإسلامية لإحياء أمسيات قرآنية في المساجد تتخللها مسابقات لحفظ القرآن وتجويده.

وتستقطب هذه الفعاليات حضورا واسعا، إذ يجد فيها اللبنانيون فرصة لتعزيز الروحانية والتقرب إلى الله ضمن أجواء إيمانية مميزة.

إعلان

ويعد شهر رمضان موسما ذهبيا للأسواق اللبنانية، إذ تشهد المدن الكبرى مثل بيروت وطرابلس حركة تجارية نشطة.

وفي هذا السياق، قال رئيس جمعية تجار لبنان الشمالي أسعد الحريري في تصريحات لوكالة الأنباء القطرية (قنا) إن اللبنانيين يستقبلون رمضان هذا العام بأجواء من الفرح بعد سنوات من الأزمات المتلاحقة.

وأضاف الحريري أن الجمعية تحرص على تنظيم فعاليات تسويقية خلال الشهر الفضيل، منها "شهر تسوق"، فتبقى الأسواق مفتوحة لساعات طويلة لاستقبال الزوار والمتسوقين.

وأشار إلى أن مدينة طرابلس تحرص على فتح أسواقها في فترتين، قبل الإفطار وبعده، كما تبقى المقاهي والمطاعم عامرة بروادها حتى السحور، وسط أجواء رمضانية تعبق بروح الألفة والاحتفاء بالشهر الفضيل.

وتشتهر طرابلس المعروفة بـ"عاصمة الشمال" بزينة رمضان الفريدة التي تجعلها مقصدا للزوار من مختلف أنحاء لبنان، وأيضا من العرب المقيمين والسياح.

شوارع بيروت أضيئت بالمصابيح والفوانيس، وتقام مسيرات كشفية ومواكب رمضانية احتفالا بقدوم الشهر الفضيل (الأناضول) حلة رمضان في بيروت

أما في بيروت فتستقبل العاصمة اللبنانية رمضان بحلة زاهية، إذ تضاء شوارعها بالمصابيح والفوانيس، وتقام مسيرات كشفية ومواكب رمضانية لاستقبال الشهر الفضيل.

وكانت الاحتفالات الكشفية التقليدية جزءا من المشهد الرمضاني قديما، لكنها تراجعت لتحل محلها مواكب رمضانية مزينة بمجسمات تراثية تجوب الشوارع وسط ترديد الأناشيد والأهازيج الخاصة بالشهر المبارك.

ويتميز المجتمع اللبناني بتقاليده الراسخة في التكافل خلال رمضان، إذ تنتشر "موائد الرحمن" في مختلف المناطق لإفطار الفقراء والمحتاجين، في حين توزع جمعيات خيرية وجبات "إفطار صائم" على المارة في الشوارع قبيل أذان المغرب، في مشهد يعكس قيم التكافل الاجتماعي والرحمة التي يتميز بها هذا الشهر الفضيل.

يتصدر الكلاج والقطايف وزنود الست والكنافة بالجبن وحلاوة الجبن والشعيبيات والأرز باللبن قائمة الأطباق الرمضانية التي تزدان بها الموائد اللبنانية (شترستوك) نكهات متوارثة

لا يكتمل رمضان في لبنان دون أطباقه الشهية التي تتوارثها الأجيال، وتتصدر سلطة الفتوش الموائد، تليها أطباق رئيسية مثل الملوخية والكبة المحشوة وورق العنب والمحاشي والتبولة.

كما يبرز الحضور القوي للمشروبات الرمضانية، مثل الجلاب والتمر الهندي والخروب وقمر الدين.

أما الحلويات اللبنانية فتحتل مكانة مميزة، إذ يتصدر الكلاج والقطايف وزنود الست والكنافة بالجبن وحلاوة الجبن والشعيبيات والأرز باللبن قائمة الأطباق الرمضانية التي تزدان بها الموائد اللبنانية.

إعلان

ويظل شهر رمضان في لبنان مناسبة خاصة تتجلى فيها الروحانية والتقاليد العريقة، إذ يتشارك اللبنانيون لحظات الفرح والعبادة والتكافل، في مشهد يعكس غنى التراث اللبناني وأصالته ويجعل من رمضان تجربة متفردة تمتزج فيها العادات بالموروث الثقافي والديني ضمن أجواء تعبق بالمحبة والإيمان.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات رمضان الشهر الفضیل شهر رمضان رمضان فی فی لبنان

إقرأ أيضاً:

هنا والآن .. في بيروت: القلق!

في بيروت، أصدقُ أنني عائد يتذكر. ولستُ ضيفًا على أحد. غير أن ذاكرة المدينة التي أحملها خَلدي وأحلم بها من الكتب والأفلام لا تعفيني هنا من صفة الغريب، خاصة حين يستفرد بي ليل بيروت البارد في أواخر فبراير، ليلها الذي لا يشبه ليل مسقط قط، إلا بانكشافه على واجهة بحر ناعس. وعلى الغريب في بيروت أن يتدبر أمره، أن يمشي لاعبَ سيركٍ بين الأضداد، فأي انعطافة غير محسوبة يمكن أن تكون تهمةً في هذا التوقيت التاريخي من عمر المدينة.

التوتر سمةٌ يومية تشم في هواء بيروت المزكوم بعوادم المحركات ورائحة السجائر المطفأة تحت أحذية المشاة على الرصيف. يمكنني أن أصرف انتباهي عن المشهد المألوف لمدمني النيكوتين القدامى، لكن عطش التدخين الذي يجتاح الشباب والصبايا في مقتبل العشرينيات مشهد يستدعي الملاحظة. صورة أخرى للقلق، قد تعكس التمرد واليأس ربما، لكنها في الوقت ذاته تشي برغبة جامحة في تهدئة جريان الدورة الدموية وسط ساعة الوقت العالقة في زحام المستديرة المتفرعة إلى جهات أربع مسدودة بالحركة العشوائية للسيارات والدراجات النارية.

أما الشتيمة فهي دارجة ومألوفة، وتثير أقل ما يمكن من حساسية الذوق العام المعتاد على تحطيم كل قواعد اللباقة التقليدية في الكلام. من الشتيمة تُصنع النُكات البذيئة التي يتبادلها الرجال والنساء على مائدة واحدة دون تحفظ، ودون أي اعتبار يُذكر للفارق النسبي في الحياء بين الذكر والأنثى. وبالشتيمة يحسم روَّاد المقهى جدالاتهم السياسية العقيمة ويفضّون السيرة. المهم في الأمر أن الشتيمة لدى اللبنانيين رياضة مفضَّلة لتحرير المكبوت من القلق والضغينة. وهي أسلوب لغوي خلَّاق لترويض غريزة العنف بدلًا من اللجوء إلى الأيدي أو سحب الأسلحة في الحالات القصوى.

«قلق في بيروت» كان عنوانًا للفيلم التسجيلي الذي أنجزه المخرج اللبناني الشاب زكريا جابر خلال حصار كورونا. أستحضر أجواءه هنا من أحاديث صدفةٍ متفرقة مع الشباب البيروتيين. تسرد كاميرا زكريا جابر، مطعمةً بالسخرية السوداء، هاجس الهجرة اللحوح لدى جيل التسعينيات من اللبنانيين واللبنانيات المحبطين من انسداد الأفق الذي أعقب فشل ثورات الربيع العربي، ولاسيما الثورة السورية في الجوار، إضافةً لما تفاقم من أزمات داخلية أعلنت انهيار الدولة، بدءًا من أزمة النفايات عام 2015، التي أسست لحراك مدني تحت شعار «طلعت ريحتكن»، وفاقمتها أزمة انقطاع الكهرباء، وصولاً إلى احتجاجات تشرين عام 2019، التي أعلنت في رأيي أهم شعار سياسي طوره اللبنانيون على مدى السنوات الأخيرة: «كلن يعني كلن»! سيعلن هذا الشعار مرحلة اليأس النهائي في صرخة مُطلقة باسم جميع اللبنانيين، حتى الحزبيين منهم، ممن لم ينخرطوا في الحراك بصورة مباشرة. لكنه ليس يأسًا من السياسيين فقط، زعماء الطوائف وتجَّار الحرب السابقين، فالمسألة هذه المرة لا تتعلق بالأسماء والتشكيلات الوزارية المطروحة أو بالفراغ الرئاسي فحسب، بل هو يأس الجيل الجديد من السياسة برمتها كحلٍ مسعفٍ لمجتمع يتحلل في العنف والفساد.

عبارة «بدي فلّ» زفرة شائعة بين شباب التسعينيات في بيروت. يومًا ما، قبل ثلاثين سنة، اُعتبر جيل التسعينيات جيلًا ناجيًا من دوامة العنف التي شهدها لبنان منذ عام 1975 على الأقل، حتى الإعلان الشهير عن اتفاق الطائف في الثلاثين من سبتمبر عام 1989، الاتفاق الذي وضع حدًا لانقسام بيروت على نفسها إلى شرقية وغربية طيلة خسمة عشرَ عامًا، تلك الحقبة التي تُعرف اليوم باسم الحرب الأهلية اللبنانية، رغم أن توصيفها التاريخي على هذا النحو العام يخفي حقيقة أساسية؛ وهي الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 الذي بلغ حد احتلال العاصمة اللبنانية، فكان منعطفًا خطيرًا أعطى للعنف زخمًا جديدًا، كما سعَّر أكثر من حدة الاستقطاب الطائفي.

رغم التفاؤل الكبير بجيل التسعينيات، الناجي من الحرب الأهلية كما يوصف، والذي تفتح وعيه على مرحلة انحسار الوصاية السورية عن لبنان وشروع الدولة في إعادة إعمار الخراب وما تلاها من عودة بيروت إلى مدينة لاقتصاد الخدمات والسياحة والنشاط المصرفي، إلا أن فترة التفاؤل لم تدم طويلا، إذ سرعان ما اكتشف هذا الجيل نفسه وريثًا مشوهًا للماضي، قادمًا من نسيج اجتماعي متمزق، وذلك قبل أن ينخرط في السياسة من بوابة الانقسام السياسي الجديد عقب الاغتيال المدوي للرئيس رفيق الحريري، ما بين تياريّ الثامن من مارس، يقابله تيار الرابع عشر من مارس. وسوريا مجددًا، بين مواليها ومعارضيها، ستكون مرةً أخرى، حتى بعد خروج جيشها من لبنان، هي مفرق الانقسام الجديد بين اللبنانيين، الذي سيكون ضحيته الأولى والمباشرة الكاتب والصحفي اللبناني سمير قصير، أبرز وجوه الرابع عشر من مارس، وأحد عشاق بيروت الأقدمين: «نسألُ القاتل: أما كان في وسعك أن تكتب مقالةً في جريدة تثبت فيها أن سمير قصير على خطأ، ولا يستحق الحياة في لبنان، ولا في بلد آخر؟» هكذا كتب محمود درويش في رثائه.

في رحلتي اللبنانية الصغيرة، كان سمير قصير مرشدي الثقافي وسط شوارع بيروت وأحيائها. كتابه «تاريخ بيروت» كان مرافقي قبل إقلاع الطائرة من مسقط حتى النظرة الأخيرة من نافذة الطائرة، نظرة معلقة على بيروت التي تختفي خلف السحاب وتصبح أبعد فأبعد من صورتها في القصيدة إلى لقاء آخر يا بيروت!

سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني

مقالات مشابهة

  • البعض يُفسد على نفسه الشهر الفضيل باللهو ومتابعة المواد التلفزيونية الهابطة
  • نوال الزغبي تحتفل بعيد الفطر في بيروت.. “لبنان ما بيلبقلو إلا الفرح”
  • العيون تتزين لشهر رمضان الأبرك بأجواء روحانية وبنية تحتية متكاملة
  • مظاهر الاحتفال بشهر رمضان في السيدة زينب.. أجواء روحانية وزينة مضيئة
  • هنا والآن .. في بيروت: القلق!
  • الإقلاع عن التدخين بمناسبة الشهر الفضيل
  • هذا ما يشهدهُ وسط بيروت
  • هناء قنديل تكتب.. معارك فاصلة غيرت مجرى التاريخ فى الشهر الفضيل
  • الدكتور عبد اللطيف الحارثي يستقبل المهنئين بالشهر الفضيل