لجريدة عمان:
2025-04-09@19:22:36 GMT

الإيحاء الاستهلاكي وتقويض التقشف!

تاريخ النشر: 9th, March 2025 GMT

سطت معاييرُ السوق على أدق التفاصيل الصغيرة فـي شهر رمضان، فلم تعد صنوف الأطعمة ميدان التنافس الوحيد، فقد أصبغ التسليع سمّة التبضع غير المحدود على الشهر الذي ينأى بأيامه -فـي الأصل- ناحية التقشف والتفكر بمعاناة المحرومين. إذ تمظهر التسليع فـي أشكال لا حصر لها، ابتداء من الزينة التي تُعلق على الأبواب وإضاءة الفوانيس والأطباق والأباريق والمفارش والوسائد، وليس انتهاء إلى الثياب والجلابيب!

فـي هذا الشهر الذي يتوقف الناس فـيه عن تناول الطعام من طلوع الشمس حتى مغيبها، ينفقون أكثر مما يفعلون فـي الشهور العادية، وذلك لأنّ لغة السوق باتت تطول جميع أنواع الخبرة الإنسانية، لتصب فـي نهم الشراء والبيع.

وكما يتبدى فهو نهمٌ - فـي بعض صوره- يتعارض مع الفكرة الأسمى للصيام، إذ يقبعُ المستهلك اليوم أمام توحش العروض التي تمتص أوردة جيوبه شبه الخاوية!

فهيمنة السوق تنتجُ صلات جديدة بين الدين ونمط الاستهلاك، الأمر الذي يجعلنا مُثقلين برغبة الاقتناء، لا سيما وأنّ المروّج يستخدمُ كافة الوسائل لتحفـيز عواطفنا والتلاعب بها. فهنالك العديد من التكتيكات والأساليب التي لا ننتبه لها لكنها توقعنا فـي فخ شراء ما لا حاجة لنا به، ناهيك عما قد تصنعه عروض التخفـيضات من ضغوط مطردة، جوار ضغوط المقارنات التي تُحرضها سلطة المجتمعات، وتلك النزعة المتوهجة لملء مساحات وسائل التواصل الاجتماعي بما نتمتع به من رفاهية التفاصيل لنبدو مرئيين على نحو مُلفت.

إذ بقدر ما يُشيع توثيق اللحظات من قبل الأفراد والإعلانات بالصور والفـيديوهات، الدفء، فهو يُشعلُ هوس الاقتناء والتقليد أيضا. فعندما تُنقل قصّة الفطور والسحور والمائدة والشموع، يتجلى الطُعم الخفـي، الذي يجعلنا نُصدق أنّ لمّة العائلة لا يمكن أن تثير الابتهاج إلا بهذا القدر من توحش الشراء. وهكذا ينجحُ المعلن عبر رتم هادئ وبالغ اللطف فـي غرس الفكرة «التبضع» فـيما هو «حميمي»، كتلك المائدة الفخمة التي تتحلقُ حولها العائلة من الأجداد وحتى الأطفال، والتي سرعان ما ستقذف بنا إلى حضن التسوق الملتهب!

ها هي أيضا مناسبة «قرنقشوه» تدخل حيز المنافسة، فبينما يشتبكُ الناس فـي قصّة تحليلها وتحريمها كل عام، فإنّ السوق يقذفُ بحمولته من المنتجات هائلة التنوع، إذ تغادرُ هذه المناسبة -ككل شيء- المعنى المتواضع الذي تكونت فـيه، لتغدو لحظة تفجر تجاري تطال الثياب والأكياس والحلوى وديكورات المنازل وزينتها، ضمن تحولات متسارعة تُغذيها حُمى السوق. وبقدر ما تغدو هذه الأشياء مُبهجة وجميلة -لنا جميعا- بقدر ما تنزع المعنى الأعمق من سياقه وطقوسه!

نحنُ عُرضة فـي كل لحظة للإيحاء الاستهلاكي المستمر من خلال تكرار الأفكار أو الوسائل التي تجعلنا نضعف، فالمروّجون لا يجلسون فـي السوق وحسب، إنّهم يقفزون من التلفاز ومن الهاتف، يخلقون طوال الوقت بيئة عاطفـية جذابة. يخترقون جوهر اهتماماتنا عبر التلصص على صفحاتنا والطريقة التي «نغوغول» بها المعلومات، يُشهرون أدواتهم الحادة لاقتناص نقاط ضعفنا وملذاتنا السرية. هكذا نتحول لأهداف صيد سهلة من قبل المترصدين!

لكن السؤال الأهم: كيف نتحكم بأذرع الأخطبوط المتطاولة؟ كيف ننفصلُ عن الضغط الرأسمالي الذي يقوض ويسحق أي فرصة للتقشف، فـي سبيل خلق ثراء روحي متين لا سيما مع مناسباتنا الدينية؟ ومتى سنتمكن من تحديد رغباتنا بمعزل عن عدوى المحرضات الخارجية؟

لغة السوق بالتأكيد ليست اعتباطية، إنّها تدرس الفرد وتراقبه ولا تكتفـي بتلبية احتياجاته، إنّها تخلقُ له هذه الاحتياجات من العدم، وهنالك من يُكرسُ حياته لدراسة إمكانية إحداث هذا التأثير فـي الأفراد والمجتمعات، وكأنّهم يستمدون فلسفتهم من جملة بينيامين فرانكلين: «إذا أردت الإقناع عليك أن تخاطب الاهتمام وليس العقل».

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التی ت

إقرأ أيضاً:

وفاة والد الطفلة الذي ضهر في فيديو وهو يعذب ابنته إثر تعذيبه من المساجين

وفاة والد الطفلة الذي ضهر في فيديو وهو يعذب ابنته إثر تعذيبه من المساجين

مقالات مشابهة

  • بوجلبان يعلن تشكيل المصري البورسعيدي لمواجهة سيما في ربع نهائي الكونفيدرالية
  • غداً آخر موعد لتقديم بيانات آذار الضريبية لمكلفي رسم الإنفاق الاستهلاكي
  • الماتشا: المشروب الأخضر الذي يجتاح العالم ... ما السر وراء شعبيته؟
  • مناقشة خطة تحوّل النمط الاستهلاكي من الدقيق الأبيض إلى قمح طحين ومخبوزات الحبوب المحلية
  • اجتماع برئاسة وزير الاقتصاد يناقش خطة عمل تحول النمط الاستهلاكي من الدقيق الأبيض الى طحين الحبوب المحلية
  • مناقشة خطة برنامج التحول في النمط الاستهلاكي من الدقيق الأبيض إلى طحين الحبوب المحلية
  • وزير الاقتصاد يناقش خطة تحول النمط الاستهلاكي من الدقيق الأبيض إلى القمح
  • كاريكاتير.. حقيقة الدور الذي تلعبه قناة “الجزيرة” في غزة
  • وفاة والد الطفلة الذي ضهر في فيديو وهو يعذب ابنته إثر تعذيبه من المساجين
  • البشير وبكری، السجين والطليق !!