غزةـ تجلس أم الشهيد المنشد حمزة أبو قينص "الملقب بحدّاء الشهداء" وعلى حجرها وجنبيها أولاد حمزة الثلاثة، تحتضنهم كأنهم قطع من روح ولدها الشهيد تناثرت في 3 أجساد صغيرة، "هؤلاء أرواحي، وبرّهم من رد الجميل الذي قام حمزة بتقديمه لي في عمره الذي قضاه في الدنيا".

يبدو غريبا أن تعد أم بر ابنها جميلا يحتاج للرد، لكن حمزة لم يكن معها ولدا عاديا كما تقول أمه للجزيرة نت: "لقد كان أخا لي، كل سرّي معه، وحين كان يهاتفني خلال نزوحي للجنوب ورغم وجوده في غزة يعرف ما بي وما الذي ينقصني، لم يكن يتوقف عطاؤه، كما أنه كان مواساتي بفقد أخويه من قبل".

ليس حمزة فقيد أمه الوحيد فقد ارتقى قبله بلال وعبد الله، لتصبح أمّا لـ3 شهداء وزوجةً لمفقود لم تعرف مصيره حتى اللحظة، فَقدٌ نزع من رمضان بهجته، فمائدته التي كانت العام الماضي عامرة برجالها الصائمين تبدو اليوم بائسة فارغة.

الشهيد حمزة برفقة أخيه الشهيد عبد الله اللذين ارتقيا خلال الحرب على القطاع (الجزيرة) أنشودة الوداع

تستذكر الأم حين زوّجت ابنها قبيل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وتقول: "في زفاف عبد الله، أمسك حمزة وعبد الله بكلتا يديّ، وصعدوا بي على المنصة وغنوا لي، كانت نظراتهم تحفني وشعرت حينها بأنني أسعد إنسانة على وجه الأرض، لم أكن أعلم أنها أنشودة الوداع وأنهما عريسان سيزفان بعد شهور إلى الجنة.

وتبكي أم حمزة وتبوح لمراسلة الجزيرة نت: "ترينني قوية ومتماسكة لكنني مهشمة من الداخل"، تكمل بعد محاولتها إيقاف نزف دمعها: "في كثير من الأحيان وبعد محاولة استيعاب حجم الفقد الذي تجرعته في مدّة قصيرة أظل أردد: يا مثبت العقل ثبتني".

تستنكر أم حمزة على الذين ينزعون من المرأة الفلسطينية مشاعرها، ويفهمون صبرها بشكل مغاير، وتقول: "المرأة الفلسطينية وإن ظهرت بثباتها كالجبل فهي ضعيفة وكتلة من المشاعر، لكن يد الله في كل انهيار تطبطب عليها ويتنزل عليها الصبر فتقوى على الحياة وتكمل".

أسرة بالكامل استشهدت في قصف للاحتلال وبقيت الأم وحيدة (الجزيرة) قلوب مقصوفة

يبدو من الصعب على أُمّ في العشرينيات من العمر أن تشرح لنا شوقها لسماع اسم "ماما" يناديها به أطفالها الذين قتلهم جيش الاحتلال جميعا مع والدهم بصاروخ واحد تشظّى على إثره قلبها لتبقى وحيدة بلا عائلة في صدمة لم تستفق منها حتى اللحظة!.

إعلان

"منذ عام بالتمام، لم أعد أمّا لأحد، لو بقي لي واحد فقط لكنت بحال أفضل"، تقول لينا قفة التي تعيش اليوم فراغا كبيرا، فقد أضحت بلا أي مسؤولية بعدما كانت تدير مملكتها في بيتها 9 أعوام، نجت لينا وحدها، حيث كان زوجها وأطفالها في شقة جدهم المقابلة يؤدون صلاة التراويح.

الطفلة سارة ابنة لينا تهدي والدتها وردا قبل استشهادها بساعات (الجزيرة) فقد المناسبات

تضع المناسبات قلوب الفاقدين على موقد من جمر، خاصة إذا كانت تصادف موعد فراقهم، تعود لينا بالذاكرة إلى رمضانها الأخير الذي ارتقوا فيه، كان مليئا بالزينة والحب والطعام والصلوات الجماعية وصلة الأرحام والسهرات الجميلة.

وتقول لينا: "كان رمضان مليئا بزوجي أحمد الذي كان يقضي فيه وقتا أطول في المنزل ويقترب منا ويشاركنا كل التفاصيل"، أما اليوم فرمضان يفقد بهجته، إذ تقضيه بين البكاء شوقا إليهم أو اللجوء إلى الله وقراءة القرآن.

رمضان الأخير

لم يكن الرابع والعشرون من رمضان المنصرم اليوم الأخير فحسب، بل كان مكتظا بالعناقات الأخيرة والمشاعر والبوح الأخير، فالتعبير عن الحب والامتنان من أطفالها وزوجها كان فائضا، يرتجف صوت لينا وهي تقول للجزيرة نت: "لا يمكن أن أنسى قول طفلي لي: هذا أجمل يوم بحياتي حين صنعت شراب البرتقال وطبق الحلوى المفضل له".

تستجمع قواها وتكمل: "ولا حضن سارة الأخير وهي تعانقني رافضة الإفلات ولا يمكن أن أنسى كلمات الحب من زوجي ونظراته، لقد كان وداعا حقيقيا لكني كنت أرفض مجرد التخيل".

لم يتبق للينا من عائلتها المبادة سوى زاد من الصور التي تجمعها ومقاطع فيديو لهم، وأصواتهم التي تعتبرها دواء تستفيق عليه كل صباح وتختم بها يومها كل مساء، ورسائل كانوا قد كتبوها لها في يوم الأم الأخير.

وتقول لينا: "لقد أحضر لي ولدي البكر عارف وردا ورسالة كان قد كتب فيها: "أحبك يا أجمل أم في العالم"، ما زلت أحتفظ بها ولكني لا أقوى على فتحها، كما لم تزل تحتفظ بزجاج كوب أهداها إياه طفلها في صندوق الذكريات بعد أن تهشم قبل أسابيع رافضة رميه أو التخلص منه.

إعلان

كما تستذكر لينا اتصال ابنتها سارة يوم الأم الأخير من الروضة حين هاتفت أمها لتقول لها: كل عام وأنت بخير، تعلق لينا: لست بخير يا ماما دونكم"، تعبر لينا عن خوفها من يوم الأم القادم الذي قررت أن تقضيه أمام قبورهم، فقد كانت يوما ما أمّا لأطفال أضحوا تحت التراب على عجل كما تقول: "لست الأم المكلومة وحدي هذا الشيء يؤنسني بأن هناك بشرا يشعرون بما أشعر ولا يزالون على قيد الحياة".

الأم الشهيدة

وإذا كان فقد الأمهات لأبنائهن مؤلما، فليس أقل إيلاما حين يفقد الأبناء أمهاتهم ولا تكون قلوبهم أفضل حالا، خاصة أنهم يرون الأم وطنا يأوون إليه مهما تقدموا في العمر، فلم يرد ماجد أكرم -الذي كانت الدبابات تحاصر بيته- تصديق ما قاله له الجيران حين نادوا عليه قائلين: "هناك امرأة عجوز، ملقاة على الأرض، مضرجة بالدماء، بقدم واحدة، وبجوارها كرسي متحرك، في الناحية الشرقية للمنزل "هي جملة طويلة مفادها "لقد استشهدت أمك!"، لكن الجيران كانوا يحاولون التخفيف من وطأتها عليه.

اقترب ماجد من النافذة وأزاح الستار قليلا ففجع بما رأى، ويقول للجزيرة نت: "كان مشهدا دفعني للبكاء بشكل متواصل لعدة أيام دون توقف!"، وبينما يعتصر قلب ماجد الألم من هول المشهد الذي ظل ماثلا أمامه 4 أيام كان محاصرا فيها، لكن العجز كان يفتك به فهو غير قادر على الوصول إليها لمواراتها الثرى، وكان مفزوعا من أن تقترب الكلاب من جثتها فتنهشها!.

وكانت والدة ماجد امرأة عاجزة تسير على كرسي متحرك وفي طريقها للخروج من المنزل قامت الآليات الإسرائيلية بإطلاق النار عليها بشكل مباشر، لعدم قدرتها على الخوض في الطريق الوعر الذي أمرهم الاحتلال بالسير فيه.

تمكن ماجد بعد انسحاب الاحتلال من حمل والدته ودفنها في حديقة المنزل، يزورها كل يوم، يستذكر مقولاتها في كل مرة يجلس فيها على كرسيها على المائدة لتناول الطعام، يطلب من أولاده الترحم عليها كل صباح ومساء، ويمنع أحدا من تحريك مقتنياتها فهي باقية على حالها الذي تركته عليه يداها.

يقول ماجد الذي كان قد رفض السفر لإكمال دراسته، كما رفض فرص عملٍ عدةٍ في الخارج ليظل ملازما لها: "لا معنى للحياة من غير أم، ولا وجع يضاهي وجع فقدها".

إعلان

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات

إقرأ أيضاً:

ذكريات حلوة.. ومش حلوة.. مايا دياب تأخذ متابعيها في جولة لأماكن طفولتها في بيروت

دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN)-- أخذت الفنانة اللبنانية مايا دياب متابعيها في جولة على الأماكن التي كانت تتردد عليها في طفولتها، بمنطقة الأشرفية بالعاصمة اللبنانية بيروت، وذلك من خلال مقطع فيديو نشرته عبر حسابها الرسمي على إنستغرام، الاثنين.

وبدأت مايا بزيارة المكتبة التي كانت تقتني منها أقلامها ودفاترها في طفولتها، وقالت  إنها لا تشعر بالحنين لأيام المدرسة، قبل أن تتوجه لأحد الأفران في المنطقة التي كانت تتناول منها "المنقوشة" (فطائر لبنانية شهيرة بالجبن أو الزعتر).

وتذكرت أمام الكاميرا خلال جولتها في أزقة حي "كرم الزيتون" صعوبة ذهابها إلى مدرستها باكراً، وقالت إن أجمل ما في المدرسة بالنسبة لها "الهروب منها" بحسب تعبيرها، وعبرت عن سعادتها بأنها لا تزال تتذكر بعض الوجوه التي كانت تصادفها في طفولتها.

وعادت لحديثها عن المدرسة، وروت أن عمّها  كان يقوم بتوصيلها لمدرستها مع ابنته، بينما كان يشتعل الجدل بينهما حول الفرن الذي ستتناولان منه "منقوشة" الصباح.

ومرّت مايا على الكنيسة التي كانت تصلي فيها في طفولتها، وتوقفت أمام المغارة في باحتها، وروت ذكرياتها عنها وعن جمالها،  قبل أن تتوجه إلى مدرستها أخيرًا، قائلة: "هذه أول مرة أزور فيها مدرستي منذ تركتها.. وآخر مرة"، وأشارت إلى البوابة التي كانت تهرب منها.

وكتبت مايا دياب تعليقًا على الفيديو: " ذكريات حلوة.. وذكريات مش حلوة، بس على الأكيد لتنين عملوا شو أنا اليوم".  

View this post on Instagram

A post shared by Maya Diab (@mayadiab)

وأصدرت الفنانّة اللبنانية خلال شهر فبراير/ شباط الماضي، أغنية "قلبي قفلتو" من كلمات وألحان نبيل خوري، ومن المقرر أن تحيي حفلين في أبريل/ نيسان الجاري، إلى جانب المطرب اللبناني وائل جسّار في ألمانيا، وهولندا على التوالي.

مقالات مشابهة

  • صراع هدافي «الأبطال».. رافينيا وليفاندوفسكي يُعيدان ذكريات تتويج برشلونة
  • إذاعة فرنسا: اتهامات بالفساد تطال مؤسسة "القرض الحسن" التابعة لحزب الله كشفت إذاعة فرنسا الدولية عن فضائح مالية جديدة تطال حزب الله، في ظل الانهيار الاقتصادي الحاد الذي يشهده لبنان، لتضع مؤسسة "القرض
  • الحكيم يحذر من التدافع الذي يخلف نتائج صفرية تهدر الجهد والوقت
  • أذكار الصباح اليوم الخميس 10 أبريل 2025.. «بِسـمِ اللهِ الذي لا يَضُـرُّ مَعَ اسمِـهِ شَيءٌ»
  • مهندسين وأطر فوزارة النقل ساخطين على قيوح : مشا للعمرة و ما تسوقش لينا
  • ذكريات حلوة.. ومش حلوة.. مايا دياب تأخذ متابعيها في جولة لأماكن طفولتها في بيروت
  • سوق الحمزات القديم… شريان تجاري وسط السويداء
  • بين ضحكة وحنين.. مايا دياب تسترجع ذكريات طفولتها
  • مرقص استقبل الإعلامية حمزة لمناسبة فوزها بجائزة دولية
  • لينا صوفيا تشارك صورة مع الرئيس الفرنسي: متواضع ومُلهم