على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (6 – 20)
تاريخ النشر: 9th, March 2025 GMT
على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية
(6 – 20)
“لن يستطيع أحدٌ أن يركب على ظهرك، ما لم تكن مُنحياً”
مارتن لوثر كينج
النور حمد
كل ما جرى ذكره فيما سبق من هذا السرد، ليس سوى شذراتٍ متفرقاتٍ من تجلِّياتٍ متتابعةٍ، متواصلةٍ، لنهج مصر الرسمية الثابت في الهيمنة على السودان، والنظر إليه كمزرعةٍ يعمل فيها أقنانٌ مستعبدون، ينبغي أن يصبَّ كل ما ينتجونه في مصلحة مصر، وحدها.
لقد ظلت بعض النخب السياسية والثقافية والإدارية السودانية منكسرةً ومنهزمةً أمام الإرادة المصرية. وقد عملت مصر بجدٍّ لكي تتحقق تلك الانهزامية. كما أنها تأكدت بالتجربة الطويلة أن ما غرسته عبر قرنين من الزمان قد أثمر وسط النخب السياسية والعسكرية والتجارية، بل والثقافية السودانية، فواصلت نهجها في فرض الهيمنة وفرض الإرادة بثقةٍ تامة. ويعود سبب انهزامية النخب السودانية، وكثير من عامة السودانيين، إلى فقدان المعرفة بحقيقة الشخصية الحضارية للسودان، وما تبع ذلك من تضعضع الاعتداد بالهوية والاحتفاء، بل والفرح، بالاستلحاق لمركز هُوُيَّتي خارجي. إلى جانب ذلك هناك البحث عن المجد الشخصي، خفيض العيار، وسط النخب التي تختار التبعية للأجنبي، راضيةً بما يجلبه لها لعبُ دور التابع المُعين والمُيسِّر من فُتات.
الاحتلال المصري للعقل السوداني
قضية العلاقات السودانية المصرية من القضايا بالغة الأهمية التي أهملتها الأكاديميا السودانية والباحثون السودانيون. فهذه العلاقة عمرها أكثر من 5000 عام. وهي علاقة حكمها منذ البداية الاختلال الجغرافي في توزيع الموارد الطبيعية بين أعلى وادي النيل وأسفله. وقد تمثلت العناصر التي حكمت هذه العلاقة في فقر مصر المدقع من الموارد، مع قابلية عالية لزيادة عدد السكان، مع صغر مساحة مصر القابلة للحياة والسكنى. هذا في حين اتسم السودان بوفرة الموارد، مع قلة استثنائية في عدد السكان، مقارنًا، بكبر المساحة وخصوبة الأرض وتوفر مصادر المياه. ولا نريد أن نخوض في تفاصيل التاريخ القديم، فقد تراجع احتكاك السودان بمصر منذ انهيار آخر الممالك الكوشية في القرن الرابع الميلادي. فمنذ ذلك التاريخ، دخل السودان في نومةٍ حضاريةٍ وعزلةٍ طويلةٍ عن مراكز الحضارة، لم يخرجه منها، سوى الغزو الخديوي في عام 1821. بالغزو الخديوي تعرض السودان، مع الاحتلال العسكري، إلى احتلال عقلي. فقد جرى إلحاقه بمصر بوصفه قد أصبح بما يسمى “الفتح”، مُلكًا مصريًا خالصا. وبناء على ذلك عملت الخديوية على إلحاقه بالفضاء المشرقي المتوسطي، كتابعٍ وامتدادٍ جديدٍ ليس له أي إسهامٍ حضاري وليست له ثقافة يُعتد بها. وبدأ، من ثم، إلحاقه بمصر وإدخاله في المظلة الإسلامية السنية على الصيغة العثمانية. فقد السودان بالغزو الخديوي هويته الكوشية وفقد مزاجه الصوفي الذي أحلت الخديوية محله مزاجًا فقهيّا سنيًا عثمانيًّا، جوهر خطابه طاعة الحاكم. (راجع: الباقر العفيف، الأصيل والدخيل في الثقافة الإسلامية السودانية، الخرطوم: منشورات مشروع الفكر الديمقراطي، (2013). (وراجع أيضًا: النور حمد، السودان: آفاق الوعي بالذات، منشورات مشروع الفكر الديمقراطي، (2016).
ظل الاحتلال المصري لعقول السودانيين يتنامى باستمرار حتى تعدى استتباع العقل السوداني لمصر مجرد إدخال نمط التدين السني العثماني وجعل المؤسسة الكهنوتية الفقهية الرسمية جزءًا من جهاز الدولة، ليتواصل الإلحاق عبر الرسالة الإعلامية، وعبر تمصير مناهج التعليم. وقد تكثف مع كل أولئك، خاصةً في فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر، الخطاب العروبي الناصري الذي اجتاح، لعقدين من الزمان، كل أنحاء العالم العربي. نتيجةً لكل تلك العوامل أصبح وعينا نحن السودانيين بذاتنا، في صورته العامة، وعيًا مشرقيًّا متوسطيًّا، وفي صورته الأكثر خصوصية، وعيًا مصريًّا. فالسودانيون النيليون وسكان البوادي يُرجعون بأنسابهم إلى الجزيرة العربية، وكأنَّ القطر السوداني كان خاليًا من البشر قبل أن تهاجر إليه بعض القبائل الرعوية العربية. بل، إن غالبية سكان الوسط والشمال النيلي تنسب نفسها عرقيًا: إما لبيت العباس بن عبد المطلب، أو لنسل فاطمة بنت الرسول، وكأن كل الأعراب الذين وفدوا إلى السودان كانوا من البيت الهاشمي وحده!
لقد بدأ انتحال السودانيين لأنسابٍ عربية في فترة سلطنة الفونج (1504 – 1821). وقد ورد أن السلطان سليم حين فكَّر في غزو سلطنة الفونج أرسل إليه سلطان الفونج خطابًا يقول فيه إنهم عرب مسلمون، ولذلك فهو لا يرى، من الناحية الإسلامية، مسوِّغًا لغزوه لبلادهم. كما ذكر سلطان الفونج للسلطان سليم إنهم فقراء، ولن يحصل الغازون من بلادهم على شيء يساوي الجهد المبذول في الغزو. وأرفق سلطان الفونج مع رسالته إلى السلطان سليم، شجرة نسبٍ عربية. فسُرَّ السلطان سليم بتلك الرسالة، وتخلى عن فكرة غزو سلطنة الفونج.
في نفس تلك الفترة، أيضًا، طاف بسلطنة الفونج فقيهٌ غريبٌ متكسِّبٌ، يُدعي “السمرقندي”، تخصص في نَحْلِ شجرةِ نسبٍ عربيةٍ شريفةٍ لكل من يطلب ذلك، نظير شيءٍ من المال. ولربما تعود كثيرٌ من أشجار النسب السودانية المنحولة إلى هذا الفقيه الغريب. ولقد أسهم المصريون بقدرٍ كبيرٍ في الترويج لعروبة السودان، بدافع الاستلحاق. ولقد برز في هذا المنحى الدكتور عبد المجيد عابدين الذي قام بالتدريس في السودان وكتب عن عروبة السودان، كما كتب عن الأدب السوداني وروَّج له في مصر وفي النطاق العربي بصورة عامة. وقد سار معه من السودانيين في هذه الوجهة كثيرون، نذكر من أبرزهم الشاعر عبد الله عبد الرحمن الضرير، والمؤرخ محمد عبد الرحيم، والدكتور، عون الشريف قاسم. ويضيف الباقر العفيف إلى هؤلاء كلاًّ من محمد إبراهيم الشوش، وخالد المبارك، وعبد الله علي إبراهيم. (راجع الباقر العفبف: وجوهٌ خلفَ الحرب: الهويات والنزاعات الأهلية في السودان، الخرطوم: مركز الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية، (2011)، ص ص 101 – 112).
دور التعليم والإعلام المصري في الاستلحاق
لقد بدأ التعليم الحديث في السودان، حين بدأ، مصريًا صرفًا. فبعد أن كان التعليم في السودان صوفيًّا تقليديًّا طيلة فترة سلطنة الفونج، وكان يجري في الخلاوى (الكتاتيب) التابعة للمراكز الصوفية، تحول بالغزو الخديوي إلى تعليمٍ فقهي أصبح يتبع للمؤسسة الدينية الرسمية التي كانت ذراعًا مهمًا في الاستعمار الخديوي للسودان. صار التعليم الديني يتركز أكثر في المساجد التي يشرف عليها الفقهاء الرسميون من مصريين ومن سودانيين جرى استقطابهم في هذه الوجهة. ومن أقوى الأدلة على تغيير هذه المؤسسة الفقهية الدخيلة للعقل السوداني وقتلها للحس الوطني وسط من جندتهم ودربتهم من علماء الشريعة السودانيين على النمط الأزهري الساند دومًا للحاكم، ما جرى أثناء الثورة المهدية من وقوف هؤلاء الفقهاء السودانيون الرسميون مع المحتل المصري الخديوي ضد الثورة الوطنية المهدوية. ومن أشهر الرسائل في معارضة الثورة المهدية التي دبجها علماء الشريعة السودانيين الذين وظَّفهم الاحتلال الخديوي، رسالة السيد أحمد الأزهري، ورسالة الشيخ الأمين الضرير. (راجع: عبد الله علي إبراهيم، الصراع بين المهدي والعلماء، القاهرة: مركز الدراسات السودانية، (1994)، ص 12.
أما عندما برزت الحاجة إلى قيام تعليم حديث في السودان المحتل خديويًّا، أرسل محمد علي باشا رفاعة رافع الطهطاوي ليفتتح أول مدرسة حديثةٍ في السودان في عام 1855. ولابد هنا من إيراد نظرة هذا التربوي المصري الكبير نحو السودان والسودانيين، وهو الذي بُعث إلى السودان لينشئ أول مدرسةٍ حديثة فيه. فقد جاءت هذه الأبيات ضمن قصيدهٍ ركيكةٍ افتخر فيها بنسبه الحُسيني، وشكا فيها من ابتعاثه إلى السودان:
حُسَيْنيُّ السلالةِ قاسِميٌّ بِطهطا مَعشري وبها نَجادي
وما السودانُ قطُّ مقامُ مِثلِي فلا سَلمايَ فيه ولا سُعادي
بها ريحُ السمومِ يُشَمُّ مِنهُ زفيرُ لظىً فلا يُطفيه وادي
ونصفُ القوم أكثرُ من وحوشٍ وبعضُ القومِ أشبهُ بالجماد
لاحقًا، طرأت في مطلع القرن العشرين، في فترة الحكم الثنائي الإنجليزي المصري فكرة إنشاء كلية غردون التذكارية، التي كانت النواة لجامعة الخرطوم. كانت مناهج اللغة العربية والتربية الإسلامية في تلك الكلية مناهج مصرية يدرسها مدرسون مصريون. ومنذ تلك اللحظة شق التعليم المصري طريقه في احتلال عقول السودانيين. وحتى في الوقت الذي كان فيه جيلنا في المرحلة الثانوية في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، أي، بعد عشرة أعوام من الاستقلال، كان منهج اللغة العربية منهجًا مصريًا. فكتب النحو الواضح، والبلاغة الواضحة، والأدب، هي نفسها كتب المنهج المصري. وكانت الغالبية العظمى من النصوص الشعرية التي ندرسها لشعراء مصريين مثال: أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، والبارودي، أو لشعراء عرب من لبنان والعراق. كما كانت كل دفعة في الصف الرابع الثانوي تدرس معلقة مختارةً من المعلقات السبع. إلى جانب ذلك كنا ندرس نماذج مستفيضة من شعر العصرين الأموي والعباسي. هذا، في حين لا ندرس من نصوص الشعر السوداني، على جودته، ومعاصريته، سوى القليل جدا. وكانت المكتبة المدرسية تعج بكتب الأدب المصري، مما كتبه لطفي المنفلوطي، وطه حسين، وعباس العقاد، وإبراهيم المازني، وأحمد حسن الزيات، وغيرهم. إلى جانب ذلك كانت هناك روايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وغيرهم من كلاسيكيات الرواية المصرية، إلى جانب روايات تاريخ الإسلام لجورجي زيدان. بل، والأغرب من كل ذلك، أن مؤلفات الإخوان المسلمين المصريين كانت جزءًا من المقرر الدراسي السوداني. فقد كان كتاب “شبهات حول الإسلام” لمحمد قطب ضمن المقرر المدرسي. وهو أمر انتقده السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني، الأستاذ، عبد الخالق محجوب في حينه.
أما في الثقافة العامة، فقد كان لليسار السوداني دورٌ كبير في ربط الموهوبين من الشباب السودانيين بأدب اليسار المصري. فأشعار صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل ومحمد عفيفي مطر، وغيرهم كان لها حضور كبير ضمن المقروء من الثقافة المصرية. ومع عدم انشغال النخب السياسية السودانية، عقب الاستقلال بموضوع الهوية السودانية وبموضوع الثقافة وضرورة تطوير الطباعة والنشر، فقد أصبح السودان فضاءً مفتوحًا للكتب والمجلات المصرية، مثال: “المصور”، و”آخر ساعة”، و”روز اليوسف”، و”صباح الخير”.
إلى جانب كل هذا التغريب عن الذات والاستلحاق الذي عج به المنهج المدرسي السوداني، هناك ما تسمى البعثة التعليمية العربية. وهي أشبه بوزارةٍ موازيةٍ لوزارة التربية والتعليم السودانية. فلهذه المؤسسة الأجنبية العديد من المدارس التي تديرها في عدد من المدن السودانية الكبيرة. كما كانت هناك جامعة القاهرة فرع الخرطوم التي حولها نظام الإنقاذ في فترة عدائه مع مصر في بداية التسعينات من القرن الماضي إلى جامعة النيلين. وقد اشتهر الدكتور المصري الراحل، طلبة عويضة بتقديم آلاف البعثات السنوية للطلاب السودانيين للدراسة في مصر. باختصار، عملت مصر على مختلف الأصعدة التعليمية والإعلامية لاستلحاق السودان وفق خطة واضحة وممنهجة. وقد أنشأت مصر في عام 1949، أي قبل سبع سنين من استقلال السودان إذاعة سُمِّيت “ركن السودان من القاهرة”، وجرى تحويلها عقب توقيع ميثاق التكامل بين البلدين، في عهد الرئيس جعفر نميري، إلى مسمى “إذاعة ادي النيل”.
في هذا المخطط الضخم للاستتباع والاستلحاق، جرى تغييب التاريخ السوداني الكوشي من المنهج المدرسي ليسهل جر السودانيين إلى تجذير هويتهم خارج تربة بلادهم. وهذا هو ما أسهم في تُكريس اعتقاد السودانيين إنهم جاءوا إلى السودان من مكان آخر، هو الجزيرة العربية في الماضي البعيد، ومن مصر في الماضي القريب. وغرض هذه الخطة أن يرى السودانيون أنفسهم مجرد امتدادٍ جغرافي وثقافي واجتماعي لمصر. وقد ساعدت المصريين على هذه الخطة أخطاء الأكاديميا الغربية التي جعلت من حضارة كوش السودانية مجرد صدىً باهتٍ لحضارة وادي النيل في مصر السفلى. ولذلك، فإن الملوك الكوشيين السودانيين الذين غزوا مصر وحكموها لقرنٍ تقريبًا، وتمددوا حتى بلغوا فلسطين، كما جرى ذكرهم في التوراة، لم يجر تصنيفهم كغزاة قادمين من كوش، وهو ما كان بالفعل، وإنما صُنِّفوا ضمن الأسر المصرية، ومُنحوا اسم “الأسرة الخامسة والعشرون”. والآن، راجعت الأكاديميا الغربية هذا الاعتقاد الخاطئ بعد أن أثبتت الأدلة أن حضارة كوش حضارة مستقلة عن الحضارة المصرية. ومن يرد الاستزادة في هذا الباب فليراجع كتاب دورسيلا هيوستن الموسوم: Wonderful Ethiopians of the Ancient Cushite Empire. خلاصة القول، إن الاحتلال المصري للعقل السوداني ظاهرةٌ ضخمةٌ ومتشعبةٌ قوية التأثير، عظيمة المخاطر. وهي لم تجد إلى الآن نظرًا نقديًا يوازي عظم خطرها. ومن أكبر علامات فداحتها رؤية السودانيين لكل ما هم فيه من استتباع، أمرًا طبيعيًا لا تنعقد له الحواجب دهشة.
(يتواصل)
الوسومالانعتاق العقل السوداني النور حمد\ن الهيمنة المصريةالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الانعتاق العقل السوداني النور حمد ن الهيمنة المصرية
إقرأ أيضاً:
إضاءة على تجربة وتداعيات تغيير العملة السودانية
عن تغيير العملة:
لأكثر من عقد من الزمان كانت المتابعة النقدية للسياسة الإقتصادية من اهتمامات هذه الصفحة في عهدي البشر والإنتقالية. ثم توقفت المتابعة بعد نشوب الحرب لسببين: الأول هو غياب المعلومة من مصادر موثوقة. والثاني هو أن ماي حدث لا يمكن إطلاق اسم سياسة إقتصادية عليه إذ هو أكروبات متواصلة من الدولة للتشبث بالبقاء وإدارة أزمة في ظروف إقتصاد سياسي هي الأصعب في تاريخ السودان. وفي مثل هذه الظروف ربما لا يجوز الحكم علي سلامة السياسة أو خطلها بمعايير الأزمنة العادية.
أدناه تقييم معتدل وجيد لتداعيات تغيير العملة الذي طبقته الحكومة في خواتيم العام السابق.
معتصم اقرع
كتب السيد مكي ميرغني عثمان:
إضاءة على تجربة وتداعيات تغيير العملة السودانية
مكي ميرغني عثمان.
خبير اقتصادي/ الوكيل السابق للتخطيط
ذهبت يوم 16 ابريل 2025 إلى البنك لصرف معاشي عن شهر مارس الذي تعذر على صرفه بنهاية الشهر الفضيل لزحمة المواطنين تارة ولعدم توفر النقد تارة أخرى. ومنذ تغيير العملة لاحظت معاناة لن تتخيلوها من أصحاب المعاشات الذين يأتون للبنك مبكرا و يهدرون معظم يومهم فى الانتظار وتفيدهم ادارة البنك أنه لا يوجد نقد وان مدير الفرع ذهب إلى بنك السودان لجلب الكاش – نشكر المصارف التى أفردت لهم نافذة تقديرا لهم ومنها بنك المزارع التجارى -.اذكر اخر مرة فى فبراير الماضى افادنى أحد الموظفين أنه تم تحديد سقف السحب بمبلغ 50 الف جنيه فقط وفى 16 ابريل افادنى الموظف ان ادارة البنك لشح السيولة قررت ان يتم الصرف فى حدود فقط 30 الف جنيه فقط. ولاحظت فى الحالتين احتجاج العملاء لكن لاحياة لمن تنادى ؟ فقد رضخوا صاغرين لقرار حبس ارصدة معاشاتهم وهذا ايضا ينطبق على صرف المرتبات نقدا وكافة عمليات الصرف. لم أكن أتخيل ان يخضع صرف مرتب المعاش للخصم على قلته فالمعاش لا يتجزأ ؟؟.
لم اتتناول موضوع تغيير العملة فى كتاباتى – كل هذه الفترة – منذ بداية عملية تغيير العملة -ولا اقول استبدالها – وذلك على الرغم من مناشدة بعض الإخوة وذلك ببساطة لاننى لم اتحصل أو اطلع على قرار وحيثيات تغيير العملة بل تلقيت الأمر كالاخرين ولاحظت المعاناة وتداعياته السالبة على معاش الناس والحركة التجارية والتشوهات التى تركها فى الاقتصاد بكلياته وخاصة التجارة.
علمنا أنه تم تشكيل لجنة عليا لتغيير العملة وتم حلها ولا نعرف حتى الان الاسباب؟. كما لاندرى اذا ما تم تشكيل لجنة بديلة لمعالجة تداعيات قرار تغيير العملة على الاقتصاد والتوصية باتخاء تحوطات لاحتوائها.
صدر منشور تغيير العملة فى 8 ديسمبر 2024 ، ووجه المنشور جميع فروع المصارف فى الولايات لتوريد ما لديها من الفئات المسحوبة من التداول الى فروع بنك السودان اعتبارا من العاشر من ديسمبر 2024. نسبة للظروف الامنية فان قرار تغيير العملة كان محدودا وشمل عدد من الولايات وهى: النيل الازرق وسنار والقضارف والبحر الأحمر وكسلا ونهر النيل والشمالية والنيل الأبيض.
وضع بنك السودان المركزى خطة متكاملة لتغيير العملة واكتمال الترتيبات وأكد أن القرار يصب فى مصلحة السودان .وأشار ان التنفيذ سيبدأ اعتبارا من 10ديسمبر لينتهى فى فى 22 ديسمبر 2024 بايداع المبالغ وليس للتبديل المباشر للعملة وحصريا عبر نوافذ المصارف وحدد السقف للسحب 200 الف جنيه وأن يتم التحويل عبر نوافذ البنوك بدون سقف.
تم تنفيذ قرار تغيير العملة المحدود فى ظروف صعبة ومعقدة وفى ظل عدم توفر خدمات البنوك فى بعض الولايات التى استردت حديثا وغيرها خاصة ولاية سنار إضافة لتعثر خدمات الانترنت وعدم شمولية التطبيقات الالكترونية لكل المصارف. وشهدت المصارف تدافعا كبيرا المواطنين لايداع ما بحوزتهم من العملات من الفئات القديمة وحدد تاريخ نهائي لتغيير العملة ان كان قد تم تمديده لاحتواء ما حدث من شلل فى الاسواق فى ولاية سنار حتى نهاية ديسمبر 2024 . وحدد البنك المركزى المصارف وفروعها منافذا لتوريد العملة القديمة (فئة الالف والخمسمائة جنيه فقط) والزم المواطنين بما يشمل الامييين وهم كثر على أن يفتحوا حسابات فى البنوك وان يودعوا مدخراتهم من النقد فيها ووعدوا بأن يتم السحب االكترونيا حتى يتوفر النقد.
وقد نتج عن ذلك عزوف التجار والمواطنين عن البيع والشراء واقتصرت المعاملات على التطبيقات الإلكترونية (بنكك) و من الظواهر السالبة انتشار عمليات بيع بواقع خصم 20% للعملات الجديدة مقابل القديمة وقد صنفت هذه العمليات ربوية بواسطة بعض علماء الدين.
لا نعلم هل أوفى بنك السودان بإعادة حجم الكتلة المسحوبة بالعملة الجديدة كاملة ووقتيا؟! لكن الواقع تم تجميد الحسابات ولم يستطع المواطنون الحصول على النقد من الفئات التى تم توريدها للبنوك بالسرعة المطلوبة لقضاء حوائجهم اليومية مما زادهم فقرا. فقد تم توفير محدود للنقد فئة الالف جنية وتعذر على النظام المصرفى توفير فئة الخمسمائة جنيه – التى كانت ألاكثر تداولا وتشكل جزءا كبيرا من الكتلة النقدية.. لا نعلم هل تمت طباعة العملة فئة الالف جنيه بكمية كافية لتعوض فئة الخمسمائة جنيه ام لا ؟؟ لكن واضح أن ذلك لم يتم نسبة لشح السيولة واختناقات الحصول على المرتبات والمعاشات نقدا.
من تداعيات تغيير العملة: 1.انه عندما تم فك الحظر على السحب تعذر على كل المواطنين الحصول على المبالغ التى يطلبونها نقدا. وواجه المواطنون الذين فتحوا حسابات واكثرهم لا يجيدون التعامل الاكترونى وغيرهم ممن ليس لهم حسابات بنكية صعوبة فى التعامل الالكترونى وشحا فى النقد تعذر معه قضاء احتياجاتهم اليومية والتزاماتهم الأخرى. و لم يتم نسبة لشح السيولة وازدحام المواطنين فى منافذ المصارف الحصول بانتظام على المرتبات والمعاشات نقدا.
2.نتيجة للطلب الحاد على النقد ظهرت ممارسات جديدة و سالبة منها بيع النقد مقابل تحويلات بنكك بهامش يصل الى6% ووصل فى بعض المناطق الى 10%. من الظواهر السالبة ايضا أن صار للسلعة سعرين سعر نقدا وسعر عبر تحويل من البنك بهامش قد يصل ايضا الى 15%..صحيح أن الدفع الالكترونى خيار جيد لكن يحتاج لتوعية وادراك تام لكافة جوانبه وهو كما رشح لا يمنع الاحتيال.
وفى هذا الاتجاه نثمن قرار امر الطوارىء رقم (2) لسنة 2025 – الذى أصدره والى ولاية سنار – وحظر به التبادل الربوى عبر تطبيقات الدفع الالكترونى والزيادات غير المبررة فى اسعار السلع عند الدفع عبر تطبيقات الدفع الالكترونى وقد تم فرض عقوبات رادعة بالسجن والغرامة أو العقوبتين معا.
3.أتضح أن القطاع المصرفي لم يكن جاهزا لعملية تغيير العملة وادارتها بطريقة عملية اذ تم فرض شرط فتح حسابات مصرفية ولم يتم التنوير و التوعية للمواطنين كما لم تقدم التسهيلات للمواطنين حيث كان من الافضل ان تكون اجراءات فتح الحسابات فى غير مواقع البنوك حتى لا تحدث الزحمة والتكدس الذى حدث. لا شك أن تمديد فترة تغيير العملة مرتين كان دليلا واضحا على سوء التقدير من السلطات النقدية.
4.بعد تعدى مليشيا ال دقلوا على دار طباعة العملة وسرقة ونهب البنوك وما دار من لقط حول تزييف العملة، نادى البعض لتغيير العملة لاحتواء اثر ذلك على الاقتصاد لكن انتظر البنك المركزى عام ونصف تقريبا للأسباب الماثلة. قد نتفق مع الأهداف العامة لتغيير العملة و الدوافع الاقتصادية والسياسية لتغيير العملة.؟ و قد يكون هناك تلف كبير او تزييف طال العملة؟
5.لقى قرار استبدال العملة عبر ايداع العملة القديمة فى حسابات مصرفية انتقادات واسعة بوصف أن قطاعات كبيرة من المواطنين بالملايين لا يملكون حسابات مصرفية. وقد أثار القرار شكوكا من عدد من الخبراء الاقتصاديين وانتقدوا محدودية تطبيق القرار فى 7ولايات من 11ولاية والظروف التى تتم فيها رغم العوامل المنطقية لهذه الخطوة. فيما أعتبر البعض ان خطوة السلطات النقدية بطباعة عملة جديدة نافذة لطباعة المزيد من العملات بدون تغطية مما يؤدى لانفلات الموازنة وتوسعها وزيادة معدلات التضخم وتدهور سعر صرف العملة الوطنية.
6 يا ترى هل قام البنك المركزى بتقييم تجربة تطبيق تغيير العملة المحدود الذى بدأ فى ديسمبر 2024 وأنتهى بنهايته؟؟.ان لم يكن قد تم ذلك فعليه فعل ذلك حتى يقف على التجربة والدروس المستفادة منها في ما هو قادم من اصلاحات فى مجال إدارة العملة السودانية.
7.فى الوقت الذى نقدر تداعيات الوضع الاقتصادى الحالى والظروف التى يعمل فيها الاخوة فى بنك السودان المركزى والقطاع المصرفى بشكل عام الا ان بعض التحديات التى واجهت تغيير العملة كان من الممكن احتوائها خاصة الازدحام فى منافذ البنوك وإطلاق كميات كبيرة من النقد لامتصاص الطلب بما يشمل استبدال فئة الخمسمائة جنيه وهى كما أشرنا تشكل جزءا كبيرا من الكتلة النقدية لدى الجمهور و فى معدلات التداول.
8.افرز تغيير العملة المزيد من هشاشة القطاع المصرفى فى ظل مهددات الاستقرار المالى والسلامة المصرفية مما يتطلب من السلطات النقدية احكام الرقابة المصرفية, كما يجب أن لا ننسى ان محور ادارة العملة وتطويرها محور هام من مهام السلطات النقدية اضافة الى توفير الكميات الكافية من العملة الورقية لمقابلة حاجة الاقتصاد الوطنى والمحافظة على عملة نظيفة وحمايتها من التزييف وفرض احكام رادعة على مرتكبى جريمة تزييف العملة التى تشكل جزء من سيادة الوطن.
خاتمة: (1) تغيير العملة المحدود جغرافيا لبعض فئات العملة على الرغم اهدافه المعلنة جاء متأخرا وقد يكون حقق بعض أهدافه لكن اثاره وتداعياته كانت خصما على الاقتصاد وهو يمر بمرحلة صعبة زادت فيها معدلات الفقر ودمرت البنيات الأساسية وتعطل العمل الحكومى وتدنت معدلات الإنتاج و انحسر نمو الناتج المحلى الاجمالى وأفقد المواطن ثقته فى الجهاز المصرفى.
(2) نثق أن السلطات النقدية ستقوم بتقييم هذه التجربة ورصد الدروس المستفادة منها وذلك توطئة للشروع فى الحملات القادمة لتغيير العملة فى الولايات المتبقية. والله ولى التوفيق.