يظلُّ إرساء مفاهيم تطبيقيَّة للتنمية المستدامة المتوازنة، وتوثيق ذلك من خلال تقارير إنجازيَّة واحدًا من المهمَّات الأساسيَّة التي لا يُمكِن التنصُّل عَنْها لأيَّة ذريعة كانت؛ لأنَّ الأمْرَ يرتبط ارتباطًا وثيقًا بآليَّات لا بُدَّ مِنْها على وفق برامج وتوقيتات وأولويَّات لوجستيَّة.
لقَدْ أُتيح لي خلال الأيَّام القليلة الماضية أن أشاركَ في حلقة تشاوريَّة عُقدتْ في بغداد بالتعاون بَيْنَ وزارة التخطيط العراقيَّة وبرنامج الأُمم المُتَّحدة الإنمائي بعنوانٍ يتعلَّق بمُحرِّكات التنمية البَشَريَّة المستدامة، عَبْرَ لافتة (المواطنة والعقد الاجتماعي).
الحال، أنَّ ما طُرح لا يختلف عن أيَّة توجُّهات إنمائيَّة أخرى، لكنَّه بالضرورة يؤسِّس لعددٍ من المؤشِّرات التي تتعلَّق بخصوصيَّة التنمية في العراق نظرًا لحجم العقبات التي واجهت الاقتصاد العراقي، ضغوط سياسيَّة وأمنيَّة، وانشغالات أخرى تأسَّست من فائض الحصار، ثمَّ الاحتلال الأميركي، والفساد، والصفحات الإرهابيَّة المسلَّحة المتعدِّدة حتَّى استطاع أخيرًا أن يمسكَ أنفاسه مع تهديدات ما زالت تطرُق أبواب البلاد بَيْنَ الحين والآخر.
إنَّ ما طُرح في الحلقة انطلق من أسبقيَّات لخَّصت حجم التحدِّيات والتباين في استيعاب مسؤوليَّات الاستدامة، لكنِّي وجدتُ أنَّ ما أُعطيَ في الحلقة لأربعة عناصر مهمَّة للتنمية لَمْ يأخذ مجاله الرَّحب من الإتاحة.
العنصر الأوَّل، الفقر، إذ لا يُمكِن لأيَّة تنمية أن تتأسَّسَ بمعزلٍ عن معالجته المعالجة الجذريَّة في أيَّة إحاطة تطبيقيَّة، ليس بالإغاثة الخيريَّة المُجرَّدة، وإنَّما بالعمل الذي يجعل الشرائح الاجتماعيَّة الضعيفة على سكَّة التنمية، بمعنى تأهيلها لهذه المهمَّة البنيويَّة، وفي كُلِّ هذا ينبغي أن يرتكزَ العقد الاجتماعي الخاصُّ بذلك على تعهُّدٍ متبادلٍ بَيْنَ أطراف العمليَّة التنمويَّة بحكم المصالح التشاركيَّة الضامنة، وهكذا أيضًا يُتاح للتمكين والدمج والاشتغال على وفق نظريَّة تعدُّد الفرص والاحتمالات، والحرص على التصدِّي للأخطار قَبل أن تحوِّلَها إلى ظواهر، كما أنَّ متابعة ورصد المتغيِّرات التنمويَّة الإيجابيَّة التي يُحقِّقها الآخرون في البيئتَيْنِ، الإقليميَّة والدوَليَّة تُعدُّ هي الأخرى من مستلزمات تلك المعالجة، أمَّا العنصر الثاني فيرتبط ارتباطًا وثيقًا بما يعرف (البنية التحتيَّة الحرجة)، أي الأُصول اللازمة للحفاظ على حياة الإنسان. وبمعنى مضاف، كُلُّ ما له علاقة في صيانة هُوِيَّته بالدرجة الأساس، وحمايته من أيِّ توجُّه يطيح بهذا المفهوم، والعنصر الثالث يتعلَّق بالعمل على ترصين (البنى التحتيَّة غير المرئيَّة) من تدريب وتعليم وأبحاث تطويريَّة، ليس فقط في المتطلبات المعرفيَّة التي ينبغي أن يقومَ عليها المشروع التنموي قَبل خطِّ الشروع، وإنَّما اعتماد تلك الأنشطة في مواكبة للعمليَّة التنمويَّة أيضًا لقياس حجم التقدُّم، وأين حصل الإخفاق؟ ولماذا؟ وما متطلَّبات النجاح في ذلك؟
والعنصر الرابع يستمدُّ حضوره من الحرص على إتلاف المخلَّفات الضارَّة النَّاتجة من عمليَّات التشغيل.
إنَّ كُلَّ تشغيل تنموي في أيِّ مجال كان لا بُدَّ أن يخلِّفَ فضلات، وفي التنمية تكُونُ مخلَّفات التشغيل أوسع وأشدَّ تعقيدًا، وقَدْ تبَيَّنَ لاحقًا أنَّ أحد الأضرار البليغة التي ضربت سطح الأرض يَعُودُ بالدَّرجة الأساس إلى إهمال مفرط لمخلَّفات الطَّاقة الأحفوريَّة حتَّى باتت عبئًا، وفي تطبيب المنتَجين، الزراعي والحيواني لزيادة كفاءتهما، وتآكل الأحزمة الخضراء لحساب التوسُّع العمراني.
إنَّ بذل المزيد من الرعاية لهذه العناصر الأربعة واحدٌ من الاهتمامات التي ينبغي أن تكُونَ لَها غرفة عمليَّات في أيَّة تنمية متوازنة، وإذا كان الأمين العامُّ للأُمم المُتَّحدة أنطونيو جوتيريش قَدْ كشف عن دخول العالَم عصر الغليان فإنَّه بالتأكيد أراد أن يوجِّهَ اتِّهامًا صريحًا للإنسان بوصفه يتحمَّل جزءًا من المسؤوليَّة في الإفلاس البيئي الذي أصاب العالَم، واستَقطعَ من حقوق التنمية المستدامة.
عادل سعد
كاتب عراقي
abuthara@yahoo.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: ة التی
إقرأ أيضاً:
أبو الغيط: تحديات المنطقة والعالم تدفعنا للتفكير في بدائل مبتكرة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة
أكد الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، أن الظروف الصعبة التي تمر بها المنطقة العربية تترافق مع رياح عالمية غير مواتية، وأن المناخ "الجيوبوليتيكي" ملبد بغيوم الحروب، والصراعات المحتملة بين القوى الكبرى.
وقال أبو الغيط، خلال كلمته في الجلسة الافتتاحية للأسبوع العربي للتنمية المستدامة في نسخته الخامسة، إن أحداث الحمائية الاقتصادية ترتفع بقوة، والتضخم والديون تطحن اقتصادات، بعضها متقدم وبعضها الآخر ينتمي لبلدان الجنوب، وإذا أضفنا إلى هذه المخاطر المتعددة التغير المناخي، وما يرتبط به من تصاعد لظواهر الهجرة والصراعات على الموارد الطبيعية.. نجد أنفسنا أمام مزيج مزعج من التحديات والمخاطر.
وشدد على أن هذه التحديات تدفعنا دفعاً لارتياد سبل غير مطروقة والتفكير في بدائل مبتكرة وغير مألوفة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، ويقتضي ذلك التكيف المستمر مع المتغيرات، والمرونة اللازمة في تعديل الخطط والأولويات من دون أن نحيد عن الأهداف الأساسية والغايات الرئيسية للتنمية، بما في ذلك السعي بجرأة إلى تقديم رؤى ذاتية وحلول مبتكرة نابعة من واقعنا، وما نواجهه من مشكلات.
وتحدث أنه رغم مرور الجزء الأكبر من الفترة الزمنية المحددة لتحقيق أهداف خطة 2030 للتنمية المستدامة، إلا أنه مع ذلك مازلنا لم نصل بعد إلى مستوى مرضٍ يواكب طموحاتنا في المنطقة العربية، مؤكدا أن الفترة القصيرة المتبقية تستدعي منا التوجه نحو تعزيز جهودنا بصورة أكبر، مع تبنى مبادئ المرونة والتكيف في مواجهة صعاب ومثباط لا ينبغي أبداً أن تكسر همتنا ولا عزمنا الأكيد على تحقيق الأهداف.
وركز على إننا نحتاج بالتأكيد إلى تسريع وتيرة العمل وتعزيز القدرة على التكيف على واقع يناقض – في الكثير من جوانبه – أهداف الاستدامة وشروط تحققها.